التشيّع ... تاريخ مذهب

البريد الإلكتروني طباعة

التشيّع والآخر

إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية

إن الإطلاع علىٰ الموسوعات التاريخية القديمة أو الحديثة يظهر بأن نقطة الإتفاق التي اتفق اغلب المؤرخون عليها ، هي مسألة الهجوم على الشيعة والتشيع. وقد لامسنا هذا ونحن نطالع البداية والنهاية لابن كثير او موسوعة التاريخ الإسلامي لأحمد شلبي ، وصارت الحقائق التي يذكرها التاريخ وهي تسجّل انتصاراً للشيعة تلقى معارضة من طرفهم فتارة يعرضون عنها ، وتارة يضعّفونها ، فأصبح التشيع بنظر الكتب التاريخية هو ذلك اللقيط الذي خرج من قمامة المجتمع الإسلامي ، في حين هذه الصورة التي صوروه بها ماهي إلّا تعبير عن وجهة نظر الدولة السلطانية التي استبدت بالحكم ، وصارت المعارضة الإسلامية الأصيلة هي حالات الشذوذ داخل المجتمع.

وكنا نستغرب كثيراً حينما نرى كاتباً أو مؤرخاً يحاول تهديم أركان هذه المدرسة بجرة قلم. ولم يبقى الأمر محدوداً عند نفي المسائل الإعتقادية للمذهب بل تم الطعن في علماء شيعة أعطوا حياتهم وسخروها للاسلام لئلا تتبلور صورة ايجابية عن الشيعة في أذهان عامة ابناء العامة.

ونشاهد في هذه الأيام مفكر دخل في سجال مع الفكر لاستخلاص الفكر الإسلامي الاصيل بزعمه ، لكنه مع الأسف وقع في المحظور المعرفي وهو طغيان الايديولوجي علىٰ الإبستملوجي.

فنلمس من تصريحاته ومنها قوله : النزعة التعصبية من خلال ما حاولنا القيام به لا يهدف شن حرب ايديولوجية عليه ، بل في إطار تحليلنا النقدي للنظم المعرفية في الثقافة العربية (1).

يظهر من كلامه هذا أن المخفي بين السطور وما عبرت عنه الدراسة النقدية التي قام بها محمد عابد الجابري في كتاباته والتي تتناول العقل العربي تعطى للمعنىٰ السابق معنىٰ واضحاً ، وتبرز الممتنع الذي لم يحاول إظهاره حيث ربطه بالمناحي العلمية ، والنقدية حتىٰ تصير كل آرائه هي من باب الدراسة. لكن الفلتات الكتابية في بعض الحالات وسهو الكاتب عما يكتبه تجعل كل المعاني تتضح بربط بعضها ببعض.

إن العقلية النقدية التي لم تتخلص من الموروث التاريخي القديم ، والتي لا زالت تعيش علىٰ أوهامه غير قادرة علىٰ اختراق طرائق البحث والنقد. وهذا الجابري الذي لا يريد أن يشن حرب ايديلوجية لا زالت عقليته مرتبطة بتاريخ ابن سبأ بحيث يقول أنه قد أطلقت مصادرنا التاريخية علىٰ حركة المعارضة لمعاوية ، اسم السبئية نسبة إلىٰ عبد الله ابن سبأ (2). إن مجرد الإيمان بشيء دون التأكد من صحته يجعل القدرة النقدية للشخص ضعيفة ، كما أن الاعتماد علىٰ المصادر التاريخية دون إخضاعها لعملية النقد يعتبر حائلاً للوصول إلىٰ النتيجة الصحيحة. لكن محمد عابد الجابري واحد ممن تعجبه المغامرات التنظيرية وغالباً ما تكون المغامرات عبارة عن مجازفة يستعمل فيها صاحبها كل الطرق من أجل الوصول إلىٰ نتيجة معينة بغية تأكيد رأيه. إن ما قام به الجابري مجازفة غريبة اتخذت في أولها موقفاً سلبياً من التشيّع وذلك بربطه بالسبئية وبالتالي حصرت المعرفة في التراث السني ، وجعلت التراث الشيعي يرمى به في هامش التاريخ باعتباره اللامعقول الديني لأنّها رأت أن كل من عاش أو يعيش لحظة ابن سينا بعد ابن رشد فإنما قضىٰ أو يقضي حياته خارج التاريخ (3).

وهنا تظهر الطوباوية السنية والتي تتحكم بعقل الكاتب بحيث لم يستطع التخلص من موروثاته الماضية ، ويعبر عنها في مشروعه التجديدي بطريقة اُصولية سنية متطرفة ، بحيث أن إعادة تحديث الفكر العربي وتجديد الفكر الإسلامي عنده يتوقف ليس فقط علىٰ مدىٰ استيعابنا للمكتسبات العلمية والمنهجية المعاصرة .. بل أيضاً ولربما أيضاً بالدرجة الاولىٰ يتوقف علىٰ مدىٰ قدرتنا علىٰ استعادة نقدية ابن حزم وعقلانية ابن رشد وأصولية الشاطبي وتاريخية ابن خلدون (4).

هذه الرباعية العلمية ومن خلال دراسة العلوم الإسلامية لا يمكن أن تجد لها طريقاً إلىٰ الواقع لكن كاتبنا أوجد لها طريقاً في مقابل التخلص من الأفكار الدخيلة حسب زعمه والتي ينعتها بالهرمسية وذلك من أجل إعادة بنية العقل العربي من داخل الثقافة التي ينتمي إليها (5).

إن هذا الكلام الذي يمارسه الجابري بطريقة أدبية قد عبرت عنه السلطات الحاكمة قديماً ، فكل واحد داخل حركة السلطة هو جزء من هذا المجتمع ، او ما اصطلح عليه بالجماعة ، وأي واحد معارض فهو خارج عن الجماعة ومحكوم عليه بسفك دمه. إذن أي رؤيا علمية خارجة عن مقترحات كاتبنا فهي لا محالة معرضة للسفك المعرفي وإنزالها مراتب الحضيض وطردها من الثقافة الإسلامية ، علماً أن هذا المشروع الذي يطرحه يحمل في طياته تناقضات مرتبطة بتناقض الاشخاص الذين يجب أن نؤسس عليهم عقلنا الجديد. إذ أن التوفيق بين الأربعة يعتبر من المستحيلات بحيث يعتبر ابن رشد القائلين بالسماع من دون القول حشوية ، علماً أن ابن حزم من أشد الرافضين للقياس فهو حشوي بنظر ابن رشد ، وكيف يلتقي ابن حزم مع الشاطبي الذي بنىٰ مقاصده علىٰ مذاهب التعليل وتحقيق المناط وكيف يلتقي ابن رشد المدافع عن الفلاسفة بابن خلدون الذي سلك مذهب أبي حامد الناقم عليهم ، من هنا تظهر هشاشة المشروع الذي طرحه ، لأن مشروعه يعتمد علىٰ كل المنتوج التراثي للفكر الاسلامي ، وابن سينا الذي يحاول الجابري إخراجه من دائرة العقل الإسلامي ، فإنَّ ابن رشد قد أخذ منه وذلك من أجل إحياء نظام الفلكيات الذي يتفق مع صلب الفكر الارسطي ـ والذي يعتبر ابن رشد الشارح الأكبر له ـ وخصوصاً في ترسيمته الثلاثية التي تقيم أنفاساً للأفلاك بين كل من العقل المحض المفارق والفلك السماوي (6).

وكما إذا كان الفكر الفلسفي السني بعد ابن رشد قد لقي حتفه وهذا دليل كافي علىٰ عدم قدرته لاستيعاب الحقائق الفلسفية ، فإن الفكر الفلسفي الشيعي ظل صامداً ولا يزال إلىٰ يومنا هذا في المجمعات الدينية العلمية ، فبعد ابن سينا جاء الخواجة نصير الدين الطوسي والذي كان معاصراً لابن رشد ولم تقف السلسلة بل جاء المير داماد ، وجاء المجدد والمبدع في المدرسة السينوية الملا صدرا الشيرازي. إذ أنه لما كان الفكر الفلسفي في جميع أرجاء العالم الإسلامي يغط في سبات عميق ، قام هؤلاء في المدرسة السينوية الايرانية يقودون الإسلام الشيعي إلىٰ أعلىٰ مراتب وجدانه الفلسفي ... (7).

إن هذه الفلسفة لم تكن لقيطة معرفية أو وليدة محاكاة لفلسفة سابقة ، ولكن هي من صميم الثقافة الإسلامية الأصيلة ومن المنطلقات التي يكنون لها الشيعة احتراماً وخصوصاً المرتبطة بالمعصومين ، إذ شكل تراث آل البيت القاعدة الأساسية للفلسفة الشيعية ، مما يعطيها مشروعيتها التاريخية ، والمعرفية ، والتي حاول محمد عابد الجابري نزعها عنها إذ يمكن اعتبار نهج البلاغة منهلاً من أهم المناهل التي استقىٰ منها المفكرون الشيعة مذاهبهم والتي كانوا ينادون بها ، لا سيما مفكروا الحقبة الرابعة ، وإنك لتشعر بتأثير هذا الكتاب بصور جمة من الترابط المنطقي في الكلام ومن استنتاج النتائج السليمة ، وخلق بعض المصطلحات التقنية العربية التي أدخلت علىٰ اللغة الأدبية والفلسفية فأضفت عليها غنى وطلاوة ، وذلك أنّها انشأت مستقلة عن تعريب النصوص اليونانية ، ومن هنا تأخذ الفلسفة الشيعية سيماها الخاص ذلك أن منكروهم خرجوا من هذا الكتاب بنظرة ميثافيزيقية كاملة باعتقادهم أن خطب الامام تشكل دوراً فلسفياً متكاملاً (8).

كما أن نهج البلاغة لم يكن الوحيد في صياغة هذه الفلسفة بل كان لخطب الأئمة دور كبير في صياغة وتطور الفلسفة منذ زمن بعيد حيث الفلسفة السنية لم تعد قادرة علىٰ أن تساير الوقائع ، لكن كاتبنا يأبىٰ إلّا أن يحيي الميت من قبره بواسطة مشروع تتضارب فيه البنىٰ المعرفية ، وما مشروعه إلّا صورة من ترديدات الغرب (9) الفارغة ، فالعالم الغربي لم يلتقي كثيراً بالمعارف الشرقية وذلك نظراً لبعد المسافة التي كانت تفصل بين المشرق والمغرب في حين كان ابن رشد هو المتربع علىٰ كرسي الفلسفة في الغرب الإسلامي فترددت في الأوساط الغربية الفلسفة الرشدية فأخذوها ، وتوقف المد الفلسفي الغربي * في حين ظلت المدرسة الشرقية قائمة ، ومسترسلة في رسالتها الفلسفية. فما كان من الغرب إلّا أن حصر تاريخ الفلسفة الإسلامية في ابن رشد متناسين أولئك الذين في الجهة الأخرىٰ من العالم الإسلامي وظنوا أن هذه الفلسفة بلغت ذروتها معه وانقضت ، فكان هذا هو الصدىٰ الذي تركه الغرب ليصل بعد ذلك إلىٰ سماع كاتبنا فوقف عند تاريخ متقادم يفوق ٨٠٠ سنة لينطلق في التجديد ويتناسىٰ شيئاً جديداً لم يمت حيث لا زالت الحياة المعرفية والفلسفية تدب داخل مجامعه العلمية.

إن هذه النظرة التقزيمية لإعادة بناء المعارف الإسلامية علىٰ أساس نفي الطرف الآخر ، تجسد مظلومية التشيع السياسية بالاضطهاد الذي لاقاه من حكام الجور ، ومظلوميته الثقافية والعلمية بإخراجه من ساحة التجديد للعقل الإسلامي ومدىٰ دوره الفاعل في بلورة العقل والفكر داخل المعارف الإسلامية والتي لا زال لحد الآن له القيادة البارزة ولا زالت النماذج الفلسفية قائمة.

ومظلومية التشيع لم تتوقف عند المستوىٰ المعرفي بل تعدته في رمزياته التاريخية ، فإذا كنا قد رأينا ابن كثير وهو يخرج الإمام علي عليه السلام من آل البيت ويحرمه من المؤاخاة مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وكذلك كيف قام صاحبنا احمد شلبي بالقاء تهمة قتل الخلفاء ابي بكر وعمر وعثمان وعلي إلىٰ الفرس وبطريقة غير مباشرة إلىٰ أنصار خط التشيع ، يطلع علينا عالم والذي جعله الجابري احد اعمدة مشروعه فيبرر قتل الامام علي عليه السلام وأن قاتله مأجور.

يقول ابن حزم في المحلى :

« ولا خلاف بين أهل الأمة في أن عبد الرحمن ابن ملجم لم يقتل عليا إلّا متأولاً ، مجتهداً ، مقراً أنه علىٰ صواب وفي ذلك يقول عمران ابن حطان شاعر الصفرية :

يا ضربة من تقي ما أراد بها

 

إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا (10)

وهذا مما يخالف صريح ما صرح به رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حيث أخرج أحمد في مسنده (11) والنسائي في السنن الكبرىٰ (12).

قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لعلي : ( قاتلك أشقىٰ الآخرين ).

وفي لفظ آخر اشقىٰ الناس وفي لفظ ثالث أشقىٰ هذا الأمة (13).

وفي حديث آخر : ( ألا اُخبرك بأشد الناس عذاباً يوم القيامة ).

قال أخبرني يا رسول الله.

قال ( فإن اشدّ الناس عذاباً يوم القيامة عاقر ناقة ثمود ، وخاضب لحيتك بدم رأسك ) (14).

لكن عالمنا ابن حزم يرىٰ في المسألة شيئاً عادياً وكأن مسألة القتل لا تخضع للقوانين الإسلامية بل الامر لم يتوقف عند هذا الحد فحتىٰ عمار بن ياسر والذي كان مع الحق كان قاتله عند ابن حزم رجلاً مأجوراً فنجده يقول في الفصل (15) :

وعمار رضي الله عنه قتله أبو الغادية يسار بن سبع السلمي ، شهد عمار بيعة الرضوان فهو من شهداء الله له بأن علم ما في قلبه وأنزل السكينة عليه ورضي عنه فأبو الغادية رضي الله عنه متأول مجتهد مخطأ فيه باغ عليه مأجور أجراً واحداً.

إن كلام ابن حزم لهو غاية السخف والتبرير الذي يفتقد المتانة والمعقولية ، لأنه لا يوجد معنىٰ لاجتهاد أبي الغادية ـ وهو من مجاهيل الدنيا وأفناء الناس ، ومثاله العهد النبوي ، ولم يعرف بشيء غير انه جهني ولم يذكر في أي معجم بما يعرب عن اجتهاده ، ولم يرو عنه شيء من العلم الإلهي سوىٰ قولة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ( دماؤكم وأموالكم حرام ) وقوله ( لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ) (16).

وحسبنا هنا في الحد من هذا الشطط في الدين ما قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لعمار رضي الله عنه ( تقتلك الفئة الباغية ).

وقد أخرج هذا الحديث النسائي في الخصائص (17) ، وأحمد في المسند (18) وأبو نعيم في الحلية (19) وابن المؤيد الجويني في فرائد السمطين (20).

هكذا يكون ابن حزم قد شرعن للفقه اجتهاد جديد يحل فيها دم المؤمن.

إن الرؤية المتفحصة لهذه الأمور والتي تحاول استقراء المخفي من وراء الكلام نستنتج من خلالها مواقف كثيرة. فالإمام علي عليه السلام وعمار ابن ياسر هما من ابرز رموز التشيع فالاول إمام ، والثاني أحد الشيعة المخلصين ، فموقف ابن حزم لم يكن ليعبر به ضد شخصيات بل هو تعبير آخر لمهاجمة تيار إسلامي ألا وهو التشيع ، لذلك ترىٰ نظريته هذه لا تستند إلىٰ منطق وحتىٰ هو نفسه لا يعي ما يقول بحيث اختلط عليه الحق بالباطل.

فها هو فيما سبق يعتبر مسألة القتل اجتهادية علماً أن القاتل الحقُّ لهُ بيِّن ، فذاك علي أخو رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهذا عمار أحد الصحابة المنتجبين إذن الحق ظاهر هنا وقتلهما يستوجب نزول اللعنة علىٰ القاتلين.

ويقول ابن حزم في هذا الباب (21).

وإن كان قد قامت الحجّة عليه وتبين له الحق ، فعَنِد الحق غير معارض له تعالىٰ ولا لرسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم فهو فاسق لجرأته علىٰ الله تعالىٰ بإصراره علىٰ الامر الحرام فإن عَنِد عن الحق معارضاً لله ولرسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم فهو كافر مرتد حلال الدم والمال لا فرق في هذه الأحكام بين الخطأ في الاعتقاد في أي شيء كان من الشريعة ، وبين الخطأ في الفتيا في أي شيء كان.

إذن المسألة عند ابن حزم تظهر كمسألة معاندة ضد اتجاه ديني آخر. وهكذا فإن التشيع عاش دائماً حالة المواجهة منذ اللحظة الأولىٰ للتاريخ الإسلامي إلىٰ يومنا هذا مع الآخر ، محاولا هذا الأخير إقصاءه بعقلية السلطة التي تركبت في الأذهان كأساس لمواجهة التيار المعارض ، هذا التيار الذي ظل يقاوم ويتخطىٰ الصعاب ليبقىٰ حياً علىٰ قيد الحياة إلىٰ يومنا هذا بتاريخ أصيل وعقائد ثابتة.

الشيعة والتاريخ

إن أي حركة دينية أو سياسية تعرف تاريخ انطلاقتها والأسس النظرية التي اسست نفسها عليها ، وخلال مراحلها التاريخية تعرف تطوراً سواءاً بإصلاح في نظريتها وتطويرها او عكسها ولا يمكن أن تكون هناك طائفة بدون انطلاقة تأسيسية ، والشيء الذي يجب أن ننتبه إليه أنه ممكن داخل أي حركة فكرية ، أو دينيّة أن تنبثق مجموعة من التيارات التي تأخذ أرضيتها من الحالة التأسيسية الاولىٰ ، كما الحال مثلاً بالنسبة للماركسية بحيث نلاحظ ماركسية ماو ـ ستي ـ تونغ والتي عرفت بالماوية ، او الماركسية التروتسكية ، او الغيفارية أو اللينينية ، لكن المشكل ، من منهم يمثل الحقيقة التي حاول تجسيدها ماركس من خلال أفكاره. وهكذا في الفكر الإسلامي ، بحيث لا توجد ظاهرة دينية تنوعت مذاهبها كمثل الإسلام ، ولكن الملاحظ هو أن الاختلاف لم يصل إلىٰ حد إنكار المسلمات العامة والتي هي محل اتفاق المسلمين إلّا أن الاختلاف في مجموعة من الأمور والتي قد تكون تأسيسية حاولت مجموعة من الطوائف التنازل عنها فصارت بعد ذلك محل نقاش وجدال ، وحاولت بعدها كل فرقة أن تثبت أهليتها ، وأنها الحقيقة الصافية التي جاء بها الإسلام هي التي تمثلها. فإلىٰ أي حد كان التشيع يمثل هذه الحقيقة ؟ وهل هو نتاج لتطور خلال المراحل التاريخية ؟

إن الشيعة كمصطلح لغوي يقصد بها جماعة من المتعاونين علىٰ أمر واحد ، ويقال تشايع القوم إذا تعاونوا ، وربما يطلق علىٰ مطلق التابع (22) وقد استعمل الله هذا اللفظ في عدة مواضع من كتابه تعالىٰ وذلك في قوله :

( فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ) (23).

وكذلك في قوله تعالىٰ : ( وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) (24).

وهذا دليل علىٰ أن الشيعة هي جماعة من الناس اتخذت من شخص لها قائداً وأعطته المحبة والموالات والتصديق المطلق.

إذن علىٰ هذا الاصطلاح هل هذه الطائفة تبلورت خلال المراحل الاولىٰ من الدعوة الإسلامية أم جاءت متأخرة ؟

إن الرجوع لكتب التاريخ يظهر تبايناً واضحاً في تحديد تاريخ تأسيس المذهب الشيعي. فبعضهم يرىٰ أن التشيع ظهر بعد وفاة الرسول من قبل بعض أنصار الإمام علي عليه السلام الذين اجتمعوا في بيت فاطمة عليها السلام ، بحيث تخلفوا عن بيعة أبي بكر وهم قوم من المهاجرين والأنصار ، ومالوا مع علي بن ابي طالب ، منهم العباس بن عبد المطلب ، والفضل بن العباس ، والزبير بن العوام وخالد بن سعيد والمقداد بن عمرو ، وسلمان الفارسي ، وأبو ذر الغفاري ، وعمار بن ياسر والبراء بن عازب وأبي بن كعب (25). ويرىٰ أصحاب هذا الرأي أن المرحلة التأسيسية قد ظهرت خلال هذه الفترة وقد عبر عنها أحمد أمين بأن هذه المعارضة لبيعة أبي بكر كانت البذرة الاولىٰ للشيعة ، وهم الجماعة الذين رأوا بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن أهل بيته أولىٰ الناس أن يخلفوه (26). وكذلك عبر عنها المستشرق جولدتيسهر (27) بكون النشوء بدأ مع الخلاف الحاصل حول مشكلة الخلافة ونقمة مجموعة من الناس علىٰ طريقة انتخاب الخليفة.

والرأي الثاني هو الذي يقول كون التشيع وليد الفتنة التي وقعت في عهد عثمان ، وآخرين يرون أن التشيع وليد زمن علي لمّا تسلم اُمور الخلافة بحيث كانت الأرضية السياسية ملائمة ، وقد أشار الشهيد الصدر في كتابه بحث حول الولاية إلى هذا الرأي قائلاً : « ومنهم من يرد ظاهرة التشيع إلىٰ عهد خلافة الإمام علي عليه السلام وما هيأه ذلك العهد من مقام سياسي واجتماعي علىٰ مسرح الأحداث (28).

إن هذا التضارب في تحديد تاريخ التشيّع ينم في داخله عن شيء معين ، إذ كل الطوائف الإسلامية الأخرىٰ معروف تاريخ تأسيسها ، وأصحاب الملل والنحل يبيّنون تاريخ ومؤسس كل فرقة بصورة واضحة لم يختلف عليها أحد من عامة المسلمين ، إلّا التشيع فإنه ظل ولا يزال محل خلاف ، ومن شدة التيه التحقيقي في هذه المسألة ظهرت نظريات حاولت إعطاء رؤىٰ تقريبية لهذه المدرسة ، فظهر تقسيم عجيب تداولته الالسن ، وهو تقسيم إلىٰ تشيّع السياسي ، وتشيع مذهبي.

إن هذا التقسيم لم يكن موضوعياً ، وإنما قصد منه ضربة التشيّع في الصميم. وقصد بالتشيع السياسي هو حالة المشايعة التي عرفها آل البيت من أجل الحصول علىٰ السلطة السياسية وخصوصاً بعد استشهاد الامام الحسين عليه‌السلام ، مما أدىٰ إلىٰ تشكيل طائفة سياسية تعلن الولاء السياسي لآل البيت.

ويرىٰ الدكتور كامل مصطفىٰ الشيبي أن التشيع السياسي ، وإن ظهر في الفترة التي افترضها الباحثون السابقون ، إلا أن دلالة الاصطلاح ( شيعة ) علىٰ الكتلة التي ندرسها من المسلمين وانصرافه إليهم دون غيرهم ، قد بدأت مع حركة التوابين التي ظهرت سنة ٦١ ، وانتهت بالفشل سنة ٦٥ وكان قائد الحركة يلقّب بشيخ الشيعة (29).

والأغرب من ذلك هو نسبة التشيّع لليهود ، والقول بأنّ التشيّع ذات اُسس يهودية تأسست علىٰ يد عبد الله بن سبأ رغم ما لهذا القول من ضعف. بحيث ثبت ضعفه من جانب التحقيق التاريخي ، وكذلك في مجموعة من العقائد التي حاولوا نسبتها إلىٰ اليهود وأنها دخيلة علىٰ الإسلام ، في حين أن هذه العقائد اصلاً غير موجودة عند اليهود ! فقالوا أن العصمة مأخوذة من عندهم مع العلم أن الكتاب المقدس يذكر الأنبياء بأبشع صور فها نحن نقرأ في سفر التكوين الإصحاح كيف أن النبي لوط لما صعد من صوغر وسكن في الجبل وابنتاه معه ، وبات ليلتين في جماع ابنتيه بعد أن سقي خمراً وأن البنت البكر ولدت منه ابنا اسمه موآب والصغرىٰ ولد سمته ابن عمي. وكذلك قالوا أن الولاية والوصية أصل يهودي في حين انهم هم أنفسهم يقولون أن الوصاية لم تكن لهارون كي تكون لعلي. إذن من أين جاءت هذه الوصاية وبنو إسرائيل أنفسهم في القرآن الكريم يقول الله علىٰ لسانهم ( ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي ) فلو كان مبدأ الوصاية ذا أصول يهودية لوجد الوصي دون أن يلجأوا إلىٰ طلب ملك يقاتلون فيه.

ونعود إلىٰ قسمي التشيع المختلفين ونقول أن قصدهم بالتشيع المذهبي هو المرحلة التي وضعت فيها الأسس العقائدية والتأسيسية لهذا المذهب. وكان قصد المخالفين من هذا التقسيم ما يلي :

إن التشيع السياسي هي مرحلة انطلقت بدون أصول معرفية وإنما هي حالة عاطفية ، وانجذاب سياسي لأشخاص معينين. إذن تغيب في هذه المرحلة كل العلائق الدينية ، لكن بعد مرور مرحلة زمنية معينة لاحظ هؤلاء الأشخاص أنه لا طائل من بقائهم علىٰ هذا الحال بدون موجه ديني فيبقىٰ أمامهم خيارين :

الالتحاق بالركب العام أو تأسيس قاعدة دينية ذات أصول حتىٰ يتم لهم الاستمرار ، والنظر في كلا الاحتمالين غير وارد علىٰ اعتبار أن الشيعة عاشوا علىٰ قطيعة مع نظام السلطة منذ تأزم الوضع بشكل كلي خصوصاً مع قيام الدولة الاموية. بحيث أن تاريخ الدولة الاموية لم يهدأ باله قط من الثورات الشيعية ، وثاني شيء هو أن القاعدة الفكرية قد تأسست مع أقوال الرسول وخطب الامام علي عليه‌السلام ، وما الأئمة إلّا صورة واحدة تتخذ أشكال معينة وما قول أحد الأئمة إلا قول الأئمة الآخرين ، إذن مرحلة التأسيس المذهبي التي حاولوا ربطها بالامام الصادق عليه السلام ما هي إلّا محاولة لفك الشرعية عن تتابع الأئمة ، والوصول في الأخير بطريقة غير مباشرة لخلع الشرعية الدينية لولاية الامام علي عليه السلام ، وجعلها سياسية ويصبح الحسين عليه السلام مثله مثل الخارجين عن السلطة المطالبين بها بدون أسس دينية ، ولا موجبات شرعية ، فتصير فتوىٰ شريح القاضي في حق الامام الحسين عليه السلام لها مصوّغ ديني بعد ما رفع التكليف الشرعي للامام ، وواجب الولاية الشرعية ، ومنه يصير الامام الحسين عليه السلام خارج عن الشرع. إذن يبقىٰ سؤالاً جوهرياً ، وهو ما حقيقة التشيع في ظل هذا الخليط من التحليلات ؟

إن الوقوف علىٰ حقيقة هذا المصطلح أو بالأحرىٰ حقيقة المذهب يلزمنا الرجوع إلىٰ الموروث التاريخي القديم ، وتفحصه بدقة لأن الاختلاف في تحديد تاريخ طائفة معينة ـ علىٰ أن تاريخ كل الطوائف الإسلامية محدد بالتدقيق ـ يخفي وراءه حقيقة تعمد المؤرخون إخفائها حتىٰ يتسنىٰ لهم إبداء آرائهم ووجهات نظرهم ، والأهم من ذلك هو : تمديد موقعهم داخل خريطة العقيدة الإسلامية.

إن أغلب القرائن التاريخية تثبت أن مصطلح الشيعة ظهر في زمن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وقد كان مجموعة من الصحابة معروفين بهذا المصطلح نتيجة علاقتهم بالامام علي عليه السلام بحيث لما نزل قوله تعالىٰ :

( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) قال الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم حول خير البرية : هم أنت يا علي وشيعتك (30).

وقد تعدد ذكر هذا الخبر عند الكثير من العلماء ، فقد ذكره السيوطي في الدر المنثور قائلاً لما نزلت الآية ، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ( أنت وشيعتك وموعدي وموعدكم الحوض إذا جاءت الامم للحساب تدعون غرا محجلين ) (31).

وقد تعددت الالفاظ في ذكر سبب نزول هذه الآية والدالة علىٰ تخصيص التشيع بالموالين ، والمشايعين لعلي ابن أبي طالب عليه السلام وكان من بين الأشخاص الذين عرفوا بهذا الإسم من خيرة الصحابة وهم أبو ذر ، وعمار ومقداد ، وسلمان الفارسي.

فالمرحلة التأسيسية للتشيع لم تكن شيئاً مفصولاً عن مرحلة تأسيس الدولة الإسلامية التي باشرها الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم. إذ نلاحظ أن أول عمل قام به الرسول خلال الدعوة السرية هو ربط الإسلام بالإمام علي عليه السلام ، وكان ذلك في حديث الدار حيث جعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم علياً وصياً له وخليفة من بعده.

ومن المحال عادة أن يعيّن قائد نهضة أحد أصحابه ووزيراً وخليفة له ويعلنه علىٰ الملأ فيما يبقى الأمر مخفياً علىٰ الخلص من أنصاره والثلة المضحية (32). إذن طرح الإسلام كان مربوطاً بشخص ، وإظهار مكانته حتىٰ يتم الإرتباط به من طرف عموم المسلمين.

قال الإمام علي عليه السلام : لا يقالس بآل محمد من هذه الأمة أحد

والمواقع متعددة لإثبات مكانته من الدار إلىٰ الغدير ، لذلك نرىٰ أول ما عمله هؤلاء الأشخاص هو الاعتراض علىٰ بيعة أبي بكر ، والاجتماع في منزل فاطمة عليها السلام ، وهذا الرفض لم يكن وليد صدفة أو اللحظة ذاتها ، لأنه لمجرد الانتهاء من تغسيل الرسول ودفنه احتجوا علىٰ المنفذين لهذا الامر ـ أي البيعة ـ ، وهذا دليل علىٰ أن هناك أرضية مشتركة يعملون من خلالها ، فيصير مصطلح الشيعة إذن هم اولئك الذين يشايعون علياً وأولاده باعتبار أنهم خلفاء الرسول وأئمة الناس بعده ، نصبهم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم لهذا المقام بأمر من الله سبحانه وتعالىٰ وذكر أسمائهم. وقد قال الامام علي عليه السلام في هذا المقام : ( لا يقاس بآل محمد من هذه الأمة أحد ولا يسوىٰ بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً. هم أساس الدين ، وعماد اليقين ، إليهم يفيء الغالي ، وبهم يلحق التالي ولهم خصائص حق الولاية وفيهم الوصية والوراثة ).

فلهذا لا يصح ربط التشيع بحالات متأخرة عن التشريع الإلهي والزمن النبوي المبارك ، ونعود هنا إلىٰ نقطة سابقة وهي قولنا في الاختلاف في تحديد تاريخ التشيع بأنه ينم عن شيء مخزون في نفوس المؤرخين ، فهم يحاولون سلب مشروعية التشيع ، في حين هم غافلين بأن السنة والجماعة هي وليدة حالة السيطرة لمعاوية ومحاولته أدلجة المجتمع الإسلامي في قالب خاضع له فسمي عامه عام الجماعة وخلقت أحاديث كثيرة تستعمل هذا المصطلح كلفظ نبوي ، حتىٰ يكتسب شرعيته الدينية ، والتاريخية علماً أن التحقيق التاريخي يثبت أنه من المصطلحات المتأخرة عن أيام حياة النبوي ، مما يفقدها هذه الشرعية ، ويبقىٰ المنافس القوي لهذه المدرسة هو التشيع وذلك للشرعية التاريخية والدينية التي اكتسبها من أيام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.

إذن يبقىٰ التخلص من هذه الفكرة هو التشويش علىٰ أصلها حتىٰ تصير صعبة الاستقبال من طرف الناس ، وتظل مدرسة بني أمية هي المكتسبة لهذه الشرعية المحرفة التي تبلورت لها من قبل السلطة والمال وعلماء السوء.

مذهب وعلماء

لقد أخذ بعض الناس عن المذهب الشيعي هذه النظرة بأنّه فقط مذهب للمعارضة السياسية ، والمطالبة بإزالة الأنظمة السياسية التي توالت علىٰ الدولة الإسلامية عقب حرمان آل البيت عليهم السلام من حقهم الطبيعي. ولم ينظر إليه علىٰ أنه ذلك المذهب الذي استطاع أن يصمد طيلة هذه المدة الطويلة ، رغم الاضطهاد والقمع التي تعرض لها في حين أن أغلب الطوائف الاُخرىٰ قد انقرضت واضمحلت.

وان هذه المقاومة الثابتة لمذهب آل البيت طيلة هذه القرون يُعبِّر عن امتلاكه قوة ومناعة ذاتية جعلته يصمد ازاء محاولات الاطاحة من قبل خصومه ، ولم يكن ذلك من قبيل العبث لكن هو راجع لاتباع هذه المدرسة التي لم يقف شريانها العلمي ، والمعرفي عن النبض. فكانوا السباقين إلىٰ مختلف العلوم وأصحاب السبق فيها ، فأبدعوا في الفقه والحديث واللغة ، وكانت لهم السابقة في الفلسفة وعلم الكلام ، فكان الشيعة خير من حافظ علىٰ بيضة الإسلام المعرفية ، وأول من واجه الأفكار الدخيلة ، وإذا ما حاولنا استعمال النقد النزيه والتجرد من الذاتية فإننا نرىٰ ان طائفة العامة مليئة بنوع من الافكار الشاذة في العقائد وخصوصاً فيما يتعلق بالتوحيد المرتبط بالله سبحانه وتعالىٰ ، وما لاحقه من التجسيم والتشبيه والذي هو مأخوذ خصوصاً من العقائد الأخرىٰ كاليهودية أو المسيحية لكن التشيع حاول منذ الوهلة الاولىٰ ، ولأرتباطه بآل البيت عليهم السلام أن يحافظ علىٰ العقائد الإسلامية الخالصة. ومن هذا المنطلق حاول الشيعة ضبط اللغة التي أنزل بها الدين الاسلامي. فكان إبداع الشيعة فيها إبداعاً منفرداً لا زالت أسسه لحد اليوم قائمة ويرجع إليها كل علماء اللغة. والجدير ذكره هو أن نهج البلاغة للامام علي يعتبر المرجع المعرفي في ضبط المعارف من قواعد ، وفلسفة ، وكلام ، ولا زال هذا الموروث المعرفي يعبر لحد هذا الوقت عن بحر أذهل الدارسين ، رغم تشكيك المشككين في نسبته للامام علي إلا أن متانته وتناسقه الأدبي والعلمي والفلسفي يلزم المعارضين الإذعان له والاعتراف بحقيقته ، وذلك لبلاغته العجيبة وحكمته البليغة ، ونرىٰ ذلك في كل خطبة والتي تمثل هذه الخطبة إحدىٰ نماذج هذه البلاغة والإحاطة بقدرة الله تعالىٰ. يقول عليه السلام :

( وكان من اقتدار جبروته ، وبديع لطائف صنعته ، أن جعل من ماء البحر الزاخر المتراكم المتقاصف ، يبسا جامداً ثم فطر منه أطباقا ففتقها سبع سموات بعد ارتتاقها ، فاستمسكت بامره ، وقامت علىٰ حده يحملها الأخضر المتعنجر ، والقمقام المسخر.

قد ذل لأمره ، وأذعن لهيبته ، ووقف الجاري منه لخشيته. وجبل جلاميدها ونشوز متونها واطوادها ، فأرساها في مراسيها وألزمها قرارتها ، فمضت رؤوسها في الهواء ، ورست أصولها في الماء ، فأنفد جبالها عن سهولها وأساخ قواعدها في متون أقطارها ومواضع أنصابها ، فاشهق قلالها ، وأطال انتمازها ، وجعلها للأرض عماداً ، وأرزها فيها أوتاداً فسكنت علىٰ حركتها أن تميد بأصلها أو تسيخ بحملها ، أو تزول عن مواضعها فسبحان من أمسكها بعد موجان مياهها ، واجمدها بعد رطوبة أكنافها ; فجعلها كحلقة مهاداً ، وبسطها لهم فراشاً ، فوق بحر لجي راكد لا يجري ، وقائم لا يسري تكر كره الرياح العواصف وتمخضه الغمام الذوارق ، إن في ذلك لعبرة لمن يخشىٰ ).

الشيعة وعلم النحو واللغة

إن الاهتمام باللغة العربية وأصولها ليعتبر خير دليل علىٰ حب الإسلام والسعي لخدمته ، وإيصاله إلىٰ الآخرين بطريقة يسهل عليهم استيعابه وفهمه ، لأنه متىٰ تم حصول الإدراك لأساليب اللغة فإن فهم أي سفر يصير ، مسيّرا كما أنّها تصير مفتاحاً له والعكس صحيح ; إذا تم جهل هذه الأساسيات والعلوم لكانت الدراسة صعبة ممتنعة. فقام الشيعة من أجل صيانة هذا الكنز الإسلامي الثمين ، وخصوصاً بعد شيوع اللكن في القرآن فكانت أمس الحاجة إلىٰ ضبط قواعد اللغة (33). فقام المحبون للإسلام والراغبون في الحفاظ عليه بوضع قواعد نحوية من أجل صيانة القرآن الكريم. وكان أول من قام بذلك هو أبو الأسود الدؤلي بتكليف من أمير المؤمنين علي عليه السلام. وكان أبو الاسود الدؤلي من التابعين صاحب عليا وشهد معه صفين ثم أقام في البصرة ، وفي مسألة اهتمامه بالنحو والعمل علىٰ ضبط قواعده يُحكي عن أبو سلامة الشامي النحوي : أن علياً دخل عليه أبو الاسود الدؤلي يوماً ، قال فرأيته مفكراً فقلت له : مالي أراك مفكراً يا أمير المؤمنين ؟ قال إني سمعت من بعض الناس لحنا وقد هممت أن أضع كتاباً أجمع فيه كلام العرب ، فقلت : إن فعلت ذلك أحييت أقواماً من الهلاك ، فألقىٰ اليّ صحيفة فيها ؟ الكلام كله إسم وفعل وحرف فالإسم ما دل على المسمىٰ ، والفعل ما دل علىٰ حركة المسمىٰ ، والحرف ما أنبأ عن معنىٰ وليس بإسم ولا فعل ـ وجعل يزيد علىٰ ذلك زيادات : قال واستأذنته أن أضع في النحو ما صنع ، فأذن وأتيته به فزاد فيه ونقص.

وفي رواية أنه ألقىٰ إليه الصحيفة وقال له : انح نحو هذا فلهذا سمي النحو نحواً (34). وقد زاد ابو الأسود الدؤلي علىٰ هذا فابتكر كل الآليات اللغوية التي تعطي للنحو علماً متكاملاً حتىٰ يصير سهلاً إذ قام بإكمالها وضبطها وبتمييز المنصوب عن المرفوع والاسم من الفعل بعلامات نسميها الاعراب.

ولم يقف الحد عند أبو الأسود الدؤلي ، بل استمر التيار الشيعي في تطوير هذا العلم فبرز خليل بن احمد الفراهيدي ، وأبدع في هذا الفن. قال أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي : والخليل بن احمد الفراهيدي أوحد العصر وفريد الدهر ، وجهبذ الأمة وأستاذ أهل الفطنة الذي لم ير نظيره ولا عرف في الدنيا عديله ، ومد أطنابه وسبب علله وفتق معانيه وأوضح الحجاج (35).

كما كان الخليل بن احمد مبدع في علوم اللغة العربية والتي يقصد بها الاشتغال بألفاظ اللغة من حيث أصولها ، واشتقاقها ومعناها ، حيث كان سيد أهل الأدب وأسبق العرب إلىٰ العرب إلىٰ تدوين اللغة وترتيب ألفاظها علىٰ حروف المعجم ، إذ ألف في هذا المجال كتاب العين الذي يحوي فيه كل ما كان معروفاً في أيامه من ألفاظ اللغة وآدابها ، وأما ارتباطه المذهبي فقد كان شيعياً إمامياً وقد ألف كتاباً في الإمامة أورده بتمامه محمد بن جعفر المراغي في كتابه واستدرك عليه ما لم يذكره واسماه الخليلي.

وقد قال النجاشي محمد بن جعفر بن محمد ابو الفتح الهمداني الوادعي المعروف بالمراغي كان يتعاطىٰ الكلام ، له كتاب مختار الأخبار كتاب الخليلي في الإمامة وكتاب ذكر المجاز من القرآن (36). وهذا دليل واضح علىٰ كون الفراهيدي احد المتشايعين لآل البيت عليهم السلام.

وقد قال العلامة الحلي في الخلاصة القسم الأول ٦٧ : كان الخليل بن أحمد الفراهيدي أفضل الناس في الأدب ، وقوله حجة فيه واخترع علم العروض وفضله أشهر من أن يذكر ، وكان إمامي المذهب.

وقال ابن داوود : الخليل بن أحمد شيخ الناس في علوم الأدب ، فضله وزهده أشهر من أن يخفى ، كان إمامي المذهب (37).

وهكذا كان التشيع يساير تطور اللغة ويسهر علىٰ تطويرها من أجل خدمة هذا المذهب الذي حاول المؤرخون جعله حالة شاذة داخل المجتمع نظرا لتعارض وجهات النظر بينه وبين السلطة الحاكمة. لكن من العيب جدا وفي ظل التحقيق التاريخي أن يخرج من دائرة الفكر الإسلامي من أجل إرضاء النزوات المذهبية المتعصبة ، والذي يلاحظ خصوصاً مع كاتبنا محمد عابد الجابري ، فإن كان الفكر المتحجر وقف ضد هذه الحركة الفكرية فكذلك كان جزاء العلماء الشيعة وقتلهم لم يطل فقط الخارجين بالسيف كزيد بن محمد الباقر عليه السلام ، بل تعداه إلىٰ علماء اللغة أيضاً ، وابن السكيت أحد ضحايا العنف السلطاني الذي لاحق العلماء الموالين لآل البيت ، فقد كان يعقوب بن جعفر السكيت أحد جهابذة اللغة وله كتب عديدة من بينها « إصلاح المنطق » ، كتاب « الألفاظ » ، كتاب « ما اتفق لفظه ، واختلف معناه » ، كتاب « الاضداد » ، كتاب « المذكر والمؤنث » ، كتاب « المقصور والممدود » (38) وقد كان سبب قتله حبه لآل البيت حيث قتله المتوكل ، وسبب قتله أن المتوكل سأله يوماً وهو يعلّم ابنيه وقال : يا يعقوب أيهما أحب إليك ، إبناي هذان ، أم الحسن والحسين ؟ فأجابه : إن قنبراً خادم علي خير منك ومن ابنيك. فأمر المتوكل فسلوا لسانه من قفاه فمات ، وقد خلف بضعة وعشرين أثراً في النحو واللغة والشعر استشهد سنة ٢٤٤ (39).

وتاريخ الشيعة في الفن والأدب لم يقف عند هذا الحد ، وعند هؤلاء العلماء ، فلقد أبدعوا في الشعر وعلم العروض وبرز علماء جهابذة حصنوا اللغة العربية ودافعوا عليها بتمتين قواعدها حتىٰ تصير في متناول الدارسين للموروث الإسلامي المقدس ألا وهو كتاب الله تعالىٰ ، فسايروا بذلك التطور التاريخي ولعبوا في تاريخ اللغة والنحو والفنون دوراً مهماً وبارزاً ، لا يخفىٰ أثره حتىٰ ولو حاول المعارضون أن يقفوا ضدهم ، لأن مسألة العلم شيئاً يستحسنه العقل البشري ويتقبله ، رغم ما يمكن أن تعمل السلطات وعملاء التحريف والتزوير التاريخي. ولم يقف الحد عند اللغة وفنونها بل تعداه إلىٰ مجالات متعددة من فقه وفلسفة وخصوصاً هذه الأخيرة حيث كان للشيعة اليد الطولى في بلورة الفلسفة الإسلامية وتطويرها.

الشيعة : الفلسفة وعلم الكلام

إن الفتوحات التي قام بها المسلمون في المناطق الخارجة عن شبه الجزيرة العربية والتي كانت تعيش قبل ذلك في ظل حضارات قديمة كانت تمتلك قدرة معرفية قوية جداً ، وكانت إشكالاتها المطروحة علىٰ صعيد المعرفة الدينية أيضاً قوية ، نظراً لامتزاجها بالمعارف المأخوذة من الثقافات الفلسفية الموجود هناك ، منها المشائية ( الارسطية ) ، العرفانية ( الافلوطونية ). مما اضطر الفكر الإسلامي أن يدخل مجال معرفي آخر خارج عن إطار الحديث والفقه والاستدلال الظاهري إلىٰ حقل معارف جديدة ليتمكن بها من مواجهة هذه التيارات المدعومة ابستمولوجيا بمدارس فكرية. فكانت ضرورة علم الكلام والفلسفة ملحة. لكن الجدير ذكره هو أن علم الكلام كحالة استدلالية ومعرفية قد سبقت الفلسفة للظهور ليُعبر من خلاله علىٰ طبيعة المذهب الكلامي ، وكذلك التعبير بشكل أوضح عن أسسه ومعتقداته ، فكانت بذلك مجالات علم الكلام محددة ومرتبطة بمجموعة من الإشكالات التي تطرح علىٰ الفكر الإسلامي ، فكان لزاماً إيجاد مخرج لها في مواجهة جميع الافكار الدخيلة والمنافسة ، فكان علماء الكلام الشيعة من المدافعين عن حقيقة هذا الدين والعاملين علىٰ تخليصه من الشوائب التي يمكن أن تدخل في المعتقدات التي تلقاها الإسلام إبان الفتوحات.

فبرز علماء كثيرون لصد هجمات الخصوم وتبيين الأفكار الإسلامية الخالصة وكان من أشهرهم هشام بن الحكم وقد كان من تلامذة الإمام الصادق عليه السلام وقد قال فيه ابن النديم : هو من متكلمي الشيعة الإمامية ، وبطانتهم ، وممن دعا له الصادق عليه السلام فقال أقول لك ما قال رسول الله لحسان : لا تزال مؤيداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك. وهو الذي فتق الكلام في الإمامة وهذب المذهب وسهل طريق الحجاج فيه ، وكان حاذقاً بصناعة الكلام حاضر الجواب (40).

وقد قال عنه أحمد أمين : أنه كان أكبر شخصية شيعية في الكلام وكان قوي الحجة ، ناظر المعتزلة وناظروه ، ونقلت له في كتب الأدب مناظرات كثيرة متفرقة تدل علىٰ حضور بديهته. وقوة حججه (41). وقد كان غزير العطاء فذكر له النجاشي صاحب الرجال تصانيف عديدة تهتم بأهم القضايا الكلامية منها :

١ ـ التوحيد.

٢ ـ الرد علىٰ ارسطا طاليس في التوحيد.

٣ ـ الشيخ والغلام في التوحيد.

وأخرىٰ في طرح الإمامة والنظرية الشرعية للامامة ومنها :

١ ـ الوصية والرد علىٰ منكريها.

٢ ـ المجالس في الإمامة.

٣ ـ الإمامة.

وكتب اُخرىٰ اهتمت بالردود علىٰ الاتجاهات المخالفة وكان الغرض منها إيصال حقيقة المذهب إلىٰ الآخر. وقد ذكر له الكليني في الكافي مناظرة مع شخص وذلك في حضرة الإمام الصادق عليه السلام تبيّن مدىٰ إدراكه ، وحسن اُسلوبه في ردع المخالفين وهذا نص كلام هشام ابن الحكم :

... فقال ( أي الإمام الصادق عليه‌السلام ) للشامي كلّم هذا الغلام يعني هشام ابن الحكم ، فقال نعم ، فقال لهشام : يا غلام ! سلني في إمامة هذا ، فغضب هشام حتىٰ ارتعد ، ثم قال للشامي : يا هذا أربك أنظر لخلقه أم خلقه لأنفسهم ، فقال الشامي : بل ربي أنظر لخلقه ، قال : ففعل بنظره لهم ماذا ؟ قال : أقام لهم حجة ودليلا كي لا يتشتتوا ويختلفوا ، يتألفهم ، ويقيم أودهم ، ويخبرهم بفرض ربهم ، قال : فمن هو ؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال هشام فبعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال الكتاب والسنّة ، قال هشام : فهل نفعنا الكتاب والسنّة في رفع الاختلاف عنها ؟ قال الشامي : نعم ، قال : فلم اختلفنا أنا وأنت وصرت إلينا من الشام في مخالفتنا إياك ، قال فسكت الشامي ، فقال أبو عبد الله عليه السلام للشامي : ما لك لا تتكلم ؟ قال الشامي : إن قلت لم نختلف كذبت ، وإن قلت إن الكتاب والسنّة يرفعان عنا الاختلاف أبطلت ، لأنهما يحتملان الوجوه ، وإن قلت قد اختلفنا وكل واحد منا يدعي الحقّ فلم ينفعنا إذن الكتاب والسنة. إلّا أن لي عليه هذه الحجة ، فقال أبو عبد الله عليه السلام سله تجده ملياً ، فقال الشامي : يا هذا من أنظر للخلق أربهم أو أنفسهم فقال هشام : ربهم أنظر لهم منهم لأنفسهم ، فقال الشامي : فهل أقام لهم من يجمع لهم كلمتهم ويقيم أودهم ويخبرهم بحقهم من باطلهم ؟ قال هشام : في وقت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أو الساعة ؟ قال الشامي : في وقت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والساعة من ؟ فقال هشام : هذا القاعد التي تشد إليه الرحال ويخبرنا بأخبار السماء والأرض وإنه عن أب عن جد. قال الشامي : فكيف لي أن أعلم ذلك ! فقال : سله عما بدا لك (42).

وقد كان تاريخ التشيع مليئاً بعلماء الكلام الذين أبدعوا في هذا المجال وذلك طيلة الصيرورة التاريخية التي عرفت بروز علم الكلام وعلىٰ امتداد القرون الثلاثة له ، فبرز في القرن الثاني بالإضافة إلىٰ هشام بن الحكم ، زرارة بن اعين ... وفي القرن الثالث الفضل بن شاذان والحكم بن هشام بن الحكم وإبراهيم بن سليمان المازني ... اما في القرن الرابع فقد كان الحسين بن علي بن الحسين بن موسىٰ بن بابويه والحسن بن علي بن أبي عقيل واسماعيل بن علي بن اعاق (43).

وهكذا كانت إنطلاقة التفكير العقلاني عند الشيعة الإمامية ابتداء من علم الكلام الذي وجدوا فيه مجالاً خصباً لبلورة أفكارهم ولم يكن بعد قد انفتحوا علىٰ الفلسفة في حين كان الشيعة الإسماعيليون في أوج عطائهم الفلسفي مع الفارابي وإخوان الصفا وحميد الكرماني وقد كانت قلعة ألموت إحدىٰ مراكز الفلسفة الإسماعيلية لكنها اندكت بالهجوم المغولي عليها. لكن الخصوصية المعرفية للفلسفة ، وهي المعرفة الدقيقة لأسرار الوجود من أجل السيطرة علىٰ العالم الموضوعي ومن ثم السيطرة علىٰ قوانينه من أجل تغييره ، جعلت الشيعة الإمامية تدخل معترك الفلسفة وقد دشنت هذا الانتقال المعرفي مع الخواجة نصير الدين الطوسي لينقل العقل الامامي من الجدال الكلامي إلىٰ التأمل الفلسفي وكانت ـ الإمامية ـ بعد ذلك الوريث للفلسفة الإسماعيلية فطورتها بما يوافق خصوصية المذهب الاثني عشري.

فبعد القطيعة التي عاشتها الفلسفة بنوعيها قبل بروز الإمامية الاثنا عشرية والتي تمثلت بالمشائية الأرسطية والعرفانية الافلوطينية جاء الشيعة الإماميون ليقوموا بتركيب نمط فلسفي جديد جمع الخطين الفلسفيين بالإضافة إلىٰ مذاهب المتكلمين وقد عرفت تطورها الكلي مع الملا صدرا الشيرازي وكان التاريخ الفلسفي الإمامي مليئاً منذ انطلاق الشرارة الاولىٰ بفلاسفة كبار منهم السهروردي ، وحيدر آملي ، والشيخ زين الدين الإحسائي ، وميرداماد ، وملا هادي السبزاوي بالإضافة إلىٰ شيخ الطائفة الكبير الشيخ المفيد ، والعلامة الحلي ، والرازي.

ولقد كانت المدرسة الفلسفية الإمامية مميزة عن مثيلتها في الفكر الإسلامي بحيث أن أغلبها اكتسىٰ طابع المحاكاة للفلسفات اليونانية القديمة وبالتحديد النمطين السابقي الذكر. مما لم يعطها استقلاليتها المعرفية الكاملة. وقد بلغت الفلسفة الإمامية أوجها مع الملا صدرا الشيرازي بحيث صار الفارق الجوهري بين الفلسفتين فارقاً يتحدد بالموقف الانطلوجي الواضح من إشكاليتي الوجود والماهية او حقيقة أصالة إحديهما (44). وكما كان علم الكلام هو للدفاع عن الإسلام وأصوله جاءت الفلسفة لتعطي المعنى الحقيقي للإسلام ، والطريق الامثل للوصول إلىٰ هذه الحقيقة المتعالية ، عن طريق التحقيق والتدقيق والتتبع ونفي التقليد والتحجر. إذ أن معرفة الله تعالىٰ وعلم المعاد وعلم طريق الآخرة ليس المراد بها الاعتقاد الذي تلقاه العامي او الفقيه وراثة وتلقنا. فإن المشغوف بالتقليد والجمود علىٰ الصورة لم ينفتح له طريق الحقائق كما ينفتح للكرام الإلهيين (45).

ولم تكن فقط الطريقة العرفانية هي الطريق الأمثل عند الملا صدرا للوصول إلىٰ معرفة الحقيقة بل التدقيق النظري اي تحقيق التكامل الذاتي للإنسان ما بين الجانب العرفاني فيه وكذلك الجانب العقلاني بحيث يحصل التوافق بين ما يمثل الجانب الحسي الروحي والمادي العقلي فإذا كان النص السابق مربوط بالالهيين او الروحانيين عن طريق المعرفة الروحية العرفانية فإن استكمال النفس الإنسانية بمعرفة حقائق الموجودات علىٰ ما هي عليها والحكم بوجودها تحقيقاً بالبراهين لا آخذاً بالظن او التقليد ، بقدر الوسع الإنساني ، وإن شئت قلت نظم العالم نظماً عقلياً علىٰ حساب الطاقة البشرية (46).

وبهذا تكون الفلسفة الإمامية قد حققت قفزة نوعية علىٰ مستوىٰ الإدراك الفلسفي بتطوير هذه الفلسفة وجمعها بين نمطين كان إلىٰ زمن بعيد منفصلين وهما المعرفة بالذوق والمشاهدة او ما تعارف عليها بالمعرفة العرفانية هي استعمال الذوق الروحي في الوصول الىٰ الحقائق كما هو ملاحظ عند محيي الدين ابن عربي بحيث يكتفي إلىٰ الذوق لا الاستدلال وأما الاستدلال العقلي كطريقة لتثبيت ما وصلت إليه الروح من معرفة فقد كان الملا صدرا المبدع الأكبر لهذه المدرسة وهذا ما غفل عنه المؤرخون ودارسوا العلوم الفلسفية الذين حسروا الفلسفة وانهوا تاريخها مع ابن رشد والذي لا يمثل إلّا حالة متقادمة من الفلسفة المشائية التي لم تأتي بجديد للفلسفة باستثناء شروحات ارسطو طاليس ولم تكن شيئاً مميزاً عكس ما كان مع الفلسفة الإمامية.

وعلى كل حال فإن التاريخ العلمي للشيعة لم يقف عند حد اللغة والنحو وعلم الكلام والفلسفة بل تعداه إلىٰ مختلف ضروب المعرفة فكانوا علىٰ طول التاريخ من المساهمين في بناء الصرح المعرفي للثقافة الإسلامية وكانت دوافع الرغبة الدينية هي التي تدفع بالشيعة للدخول في هذا المضمار من أجل ايضاح الوجه الحقيقي للإسلام لا يثنيهم عن ذلك ظلم الطغمة السياسية الحاكمة بل كان الهم المعرفي هو الدافع الاسمي لهم رغم تجاهل المؤرخ والذي هو في أصله الناطق الرسمي باسم السلطان ، والذي ترك أثره في بعض المتعاطين للتاريخ فحاولوا تحجيم البعد العلمي والمعرفي للشيعة وحصره في حركة سياسية ذات بعد سلطوي ، لكن الحقائق التاريخية استطاعت أن تهدم كل ما حاول السلطان بناءه واستطاع المذهب الشيعي عبر خوضه لجميع المعارف الإسلامية أن يحافظ علىٰ استمراريته ، والتي لم تكن تلك الاستمرارية المتجمدة والتي حجرت حركتها الفقهية ووقفتها في القرن الثالث الهجري أو معارفها الفلسفية بربطها بنهاية لا معرفية مع ابن رشد ، بحيث ركب في ذهن البعض انتهاء الفلسفة مع نهاية ابن رشد.

في حين في الطرف المقابل لا زالت الحركة الاجتهادية الفقهية مسترسلة عبر نظام المرجعية رغم غيبة الإمام الثاني عشر تساير من خلالها التطورات التي يعرفها العصر كما أن الإبداع الفلسفي لا زال يعرف طريقه داخل المجامع العلمية الشيعية والحوارات وخير مثال علىٰ هذا الإبداع هو الظهور في الآونة الأخيرة لما يسمىٰ علم الكلام الجديد للإجابة علىٰ الإشكالات الجديدة التي طرحها العصر الحاضر ويرىٰ الإسلام ضرورة الإجابة عنها. ويكون بذلك التاريخ الثقافي والعلمي للتشيع هو تاريخ مسايرة الأحداث والوقائع ، ومسايرة تطور الزمن الذي يفرض في كل لحظة اشكالات جديدة تجعل الإسلام في إجابته عليها يعبر عن صلاحيته لجميع الأزمنة وأنه غير مرتبط بفترة زمنية محددة. قاضياً بذلك علىٰ التحجّر الفقهي الذي أنشأه التاريخ السلطاني.

أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمّدا رسول الله وأن عليّا ولي الله

الهوامش

1. محمد عابد الجابري ، بنية العقل العربي ص ٢٩١.

2. محمد عابد الجابري ، العقل السياسي العربي ص ٢٠٧ مركز دراسات الوحدة العربية ، ١٩٩٠.

3. محمد عابد الجابري ، نحن والتراث ص ٧٠ ، ط ٣ ، دار الطليعة ، بيروت ، ١٩٧٣.

4. محمد عابد الجابري ، بنية العقل العربي ص ٥٦٦ ، ط ٥ ، المركز الثقافي العربي يناير ١٩٨٦.

5. المصدر السابق.

6. هنري كوربان : تاريخ الفلسفة الإسلامية ص ٣٦٣.

7. المصدر السابق ص ٢٦٥.

8. هنري كوربان : تاريخ الفلسفة الإسلامية ص ٨١.

9. يمكن إسقاط هذا التشابه بين إرنست رنان في كتابه ابن رشد والرشدية ومحمد عابد الجابري في مشروعه الموسوم بنقد العقل العربي.

* المقصود هنا الغرب الإسلامي.

10. المحلى : ١٠ / ٤٨٣.

11. مسند أحمد : ٤ / ٢١٢.

12. السنن الكبرى : ٥ / ٨٥٣.

13. للمزيد راجع الغدير للاميني : ١ / ٥٨٧ ، ط ١ ، دار الغدير.

14. رواه ابن عبد البر في العقد الفريد : ٢ / ٢٩٨.

15. الفصل : ٤ / ١٦١.

16. الغدير للأميني : ١ / ٥٩٣.

17. تحقيق السيد جعفر الحسيني ، ط ١ ، سنة ١٤١٩ ، دار الثقلين.

18. مسند أحمد : ٦ / ٣١١.

19. حلية الأولياء : ٧ / ١٩٧.

20. فرائد السمطين : ١ / ٢٨٧.

21. الفصل : ٣ / ٢٥٨.

22. جعفر السبحاني بحوث في الملل والنحل ص ٧.

23. القصص : ١٥.

24. الصافات : ٨٣ ـ ٨٤.

25. اليعقوبي ، تاريخ اليعقوبي : ٢ / ١٢٤.

26. أحمد أمين فجر الإسلام ص ٢٦٦ ط بيروت.

27. جولد تيسهر العقيدة والشريعة في الإسلام ١٦٩ ط القاهرة.

28. بحث في الولاية ـ الشهيد الصدر ص ٢٥ ط بيروت.

29. الشيبي : الصلة بين التصوف والتشيع : ١ / ١٢٢ ، ط بيروت.

30. الطبري : تفسير الطبري ٣ / ٣١٥ ، ط بيروت.

31. السيوطي : الدر المنثور ٦ / ٣٧٩ ، ط بيروت.

32. السيد محمد حسين الطباطبائي مقالات تأسيسية في الفكر الإسلامي ص ٢٠٨ تعريب خالد توفيق.

33. جرجي زيدان تاريخ آداب اللغة العربية : ١ / ٢١٩.

34. حسن الصدر تأسيس الشيعة ص ٥١ عن بحوث في الملل والنحل : ٦ / ٥٣٢ ، وابن النديم : الفهرست ٦٦ نقلاً عن المصدر السابق.

35. جعفر السبحاني في الملل والنحل ٦ / ٥٢٢.

36. النجاشي ، الرجال : ٢ / ٣١٨.

37. جعفر السبحاني بحوث في الملل والنحل : ٦ / ٥٣٩.

38. النجاشي الرجال : ١ / ٢٧٢.

39. جرجي زيدان تاريخ آداب اللغة : ١ / ٤٢٤.

40. ابن النديم : الفهرست ص ٢٥٧.

41. جعفر السبحاني بحوث في الملل والنحل : ٦ / ٥٧٨.

42. الكليني ، الكافي : ١ / ١٧٢.

43. للمزيد من المعلومات يراجع بحوث في الملل والنحل ج ٦.

44. ادريس هاني ، محنة التراث الآخر ص ٢٦١.

45. ملا صدرا ، الأسفار : ١ / ١١.

46. المصدر السابق : ١ / ٢٠.

مقتبس من كتاب : تاريخ الشيعة بين المؤرخ والحقيقة / الصفحة : 167 ـ 205

 

أضف تعليق

الشيعة

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية