غزوة بني المصطلق

البريد الإلكتروني طباعة

غزوة بني المصطلق

ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكنّ المنافقين لا يعلمون

بلغ رسول الله أنّ بني المصطلق يجمعون له ، وقائدهم « الحارث بن أبي ضرار ». فلمّا سمع بهم خرج إليهم ، حتّى لقيهم على ماء لهم ، يقال له : ( المُرَيسيع ) فتزاحف الناس ، واقتتلوا ، فهزم الله بني المصطلق ، وقتل من قتل منهم ، وسبي من سبي ، وقد قتل من أصحاب رسول الله رجل اسمه « هشام بن صبابة » قتله رجل من الأنصار خطأً.

فبينا رسول الله على ذلك الماء ، وردت واردة الناس ، ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار ، يقال له جَهْجاه بن مسعود يقود فرسه ، فازدحم جَهْجاه مع رجل من الأنصار على الماء ، فاقتتلا ، فصرخ الأنصاري : يا معشر الأنصار ، وصرخ جهجاه : يا معشر المهاجرين. فلمّا سمع رسول الله صرختهما قال : دعوها فإنّها منتنة ـ يعني انّها كلمة خبيثة ـ لأنّها من دعوى الجاهلية ، فإنّ الله جعل المؤمنين اُخوة وحزباً واحداً ، فمن دعا في الإسلام بدعوة الجاهليّة يعزّر.

ثمّ لمّا بلغ الأمر إلى عبد الله بن اُبيّ بن سلول ، وعنده رهط من قومه ، فيهم : زيد بن أرقم ، وهو غلام حدث ، فقال ابن اُبيّ : أوَقد فعلوها ، وقد نافرونا وكاثرونا في بلادنا ، والله ما أعدّنا وجلابيب قريش إلّا كما قال الأوّل : سَمِّن كلبك يأكلك ! أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل. ثمّ أقبل على من حضره من قومه فقال لهم : هذا ما فعلتم بأنفسكم ، أحللتموهم بلادكم ، وقاسمتموهم أموالكم ، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا إلى غير داركم. فسمع ذلك زيد بن أرقم ، فمشى به إلى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وذلك عند فراغ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) من عدوّه ، فأخبره الخبر ، و عنده عمر بن الخطاب فقال : مُرْ به عبّاد بن بشر فليقتله. فقال له رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : فكيف يا عمر إذا تحدّث الناس أنّ محمداً يقتل أصحابه !

وقد مشى عبد الله بن اُبيّ بن سلول إلى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) حين بلغه انّ زيد بن أرقم قد بلّغه ما سمع منه ، فحلف بالله : ما قلت ما قال و لاتكلمّت به ـ وكان في قومه شريفاً عظيماً ـ فقال من حضر رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) من الأنصار من أصحابه : يا رسول الله عسىٰ أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه ، ولم يحفظ ما قال الرجل ، حَدَباً على ابن اُبيّ بن سلول ودفعاً عنه.

ولكنّه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وقف على أنّه إن لم يتّخذ خطّة حازمة فقد يستفحل الأمر ، لذلك أمر أن يؤذّن بين الناس بالرحيل في ساعة لم يكن يرتحل المسلمون فيها ، وعند ذلك جاء أسيد بن حضير وقال : يا نبي الله لقد رحلت في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها. فقال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : أو ما بلغك ما قال صاحبكم ؟ قال : وأي صاحب يا رسول الله ؟ قال : عبد الله بن اُبيّ قال : وما قال ؟ قال : زعم أنّه إن رجع إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل ، قال : فأنت يا رسول الله والله تخرجه منها إن شئت ، هو والله الذليل وأنت العزيز.

ثمّ قال : يا رسول الله ، ارفق به ، فوالله فقد جاءنا الله بك ، وإنّ قومه لينظمون له الخَرز ليتوّجوه ، فإنّه ليرى أنّك قد أستلبته مُلكاً.

ثمّ مشى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بالناس يومهم ذلك حتّى أمسى ، وليلتهم حتى أصبح ، وصدر يومهم ذلك حتّى آذتهم الشمس ، ثمّ نزل بالناس ، فلم يلبثوا أن وجدوا مسّ الأرض فوقعوا نياماً ، وإنّما فعل ذلك رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبد الله بن اُبيّ.

حطّ المسلمون رحالهم بالمدينة ، وفي تلك الأثناء نزلت آيات تصدّق زيداً ، وتكذّب عبد الله بن اُبي ، حيث قال سبحانه :

( هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّـهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّوا وَلِلَّـهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَـٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ * يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّـهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَـٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ) ( المنافقون / 7 و 8 ).

فلمّا نزلت هذه الآيات حسب قوم أنّ النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) آمر بقتله لا محالة ، فعند ذلك ذهب ابنه عبد الله ـ وكان مسلماً حسن الإسلام ـ فقال :

يا رسول الله إنّه بلغني أنّك تريد قتل أبي فيما بلغك عنه ، فإن كنت لا بد فاعلاً فمرْني به ، فأنا اَحمِلُ إليك رأسه ، فواللهِ لقد علمتْ الخزرجُ ما كان لها من رجل أبرّ بوالده منّي ، وإني أخشىٰ أن تأمر به غيري فيقتله ، فلا تدعني نفسي اَنْظُر إلى قاتل عبد الله بن اُبي يمشي في الناس فأقتله ، فأقتل رجلاً مؤمناً بكافر ، فأدخل النار. فقال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : بل نترفّق به ونحسن صحبته ما بقي معنا.

تولّي قوم ابنُ اُبيّ مجازاته :

وبعد ذلك كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنِّفونه. فقال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك من شأنهم : كيف ترىٰ يا عمر ، أما والله لو قتلته يوم قُلتَ لي اقتله ، لاُرعِدت له آنف ، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته. قال : قال عمر : قد والله علمت لأمر رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أعظم بركة من أمري (1).

وقال الطبرسي : وكان عبد الله بن اُبيّ بقرب المدينة ، فلمّا أراد أن يدخلها جاء ابنه عبد الله بن عبد الله حتّى أناخ على مجامع طرق المدينة. فقال : مالك ويلك ؟

قال : والله لا تدخلها إلّا بإذن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ولتعلمنّ اليوم مَنْ الأعزّ ومن الأذلّ ، فشكا عبد الله ابنه إلى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فأرسل إليه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أن خلّ عنه يدخل ، فقال : أمّا إذا جاء أمر رسول الله فنعم (2).

ولمّا نزلت الآيات المتقدّمة وبان كذب عبد الله قيل له : إنّه نزل فيك آي شداد ، فاذهب إلى رسول الله يستغفر لك ، فلوى رأسه ثمّ قال : آمرتموني أن اُؤمن فقد آمنت ، وآمرتموني أن اُعطي زكاة مالي فقد أعطيت ، فما بقي إلّا أن أسجد لمحمد ، فعند ذلك نزلت الآيتان التالية :

( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّـهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ * سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّـهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّـهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) ( المنافقون / 5 و 6 ).

هذه قصة غزوة بني المصطلق ، وقد رواها أهل السير والمغازي والمفسّرون (3).

والذي يهمّنا من استعراض تلك الغزوة هو الدروس والعظات التي يمكننا أن نستخلصها ، ونستفيدها منها من خلال سيرة النبي الأكرم ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، و إليك عرض تلك النتائج :

1 ـ التخطيط للإجلاء والمقاطعة الاقتصادية :

لم يكن التخطيط لإجلاء المسلمين عن أوطانهم و أماكنهم والمقاطعة الاقتصادية شيئاً حديث النشأة في القرن العشرين ، وإنّما له جذور تمتد علىٰ مرّ التاريخ ، فهذا عبد الله بن اُبيّ رئيس المنافقين يعد العدّة للتآمر على المسلمين ، ويسعى جاهداً لإجلائهم ، وفرض مقاطعة إقتصادية عليهم ، فلو شاهدنا ما يفعل بنا نحن معاشر المسلمين على أيدي المستعمرين في بيت المقدس ، وسائر بقاع المسلمين الاُخرى في أيّامنا هذه ، فليس هناك محلّاً للإستغراب والدهشة والتعجّب ، ولكنّ الله سبحانه وتعالى أدحض تآمرهم وأبطل احدوثتهم وردّ كيدهم إلى نحورهم فانقلبوا خاسئين.

قال سبحانه : ( وَلِلَّـهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) ( المنافقون / 7 ) وقال سبحانه : ( وَلِلَّـهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) ( المنافقون / 8 ).

ولكنّ ذلك مشروط بالتمسّك بعرىٰ الإيمان ، والإنقطاع الكامل لله عزّ وجل ، والإنقياد المطلق لأوامره ونواهيه.

قال سبحانه : ( وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) ( آل عمران / 139 ) وقال عزّ اسمه : ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّـهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ) ( فصّلت / 30 ).

2 ـ تشتيت الشمل وبثّ التفرقة بين المسلمين :

إنّ عبد الله بن اُبيّ ذلك العدو اللدود للمسلمين ، أراد تشتيت شمل المسلمين ، بإثارة ظغائن طائفة من المسلمين على طائفة اُخرى ، حتّى يشتعل فتيل الفتنة ، ويحرق المسلمون بعضهم دمَ بعض بأيديهم ، وتكون الخاتمة لصالح أعدائهم ، حيث قال : هذا ما فعلتم بأنفسكم ، أحللتموهم بلادكم ، وقاسمتموهم أموالكم ...

غير أنّ هذا النهج التآمري لا زال معمولاً به إلىٰ يومنا هذا ، وماانفكّ عنه أعداء الإسلام طرفة عين أبداً ، ومن الصور الجليّة الواضحة لهذا النهج العدائي في يومنا هذا ، بثّ السموم الفكرية في أذهان أبناء الشعوب الإسلامية ، وتأليب بعضهم علىٰ بعض ، تحت شعارات قومية ووطنية وعرقية ، فيحفّزون الجذور القومية للترك في قبال الجذور القومية العرقية العربية ، وهكذا بالنسبة لسائر القوميات المتعدّدة التي تدين بالإسلام علىٰ امتداد رقعته الشاسعة.

وبذلك تمكّنوا من الفتك والإجهاز علىٰ الإمبراطورية العثمانية المترامية الأطراف ، والتي تمكّنت من الظهور بالمسلمين كدولة عظمىٰ في العالم لها سيادتها ، وثقلها في تقرير الأوضاع السياسية في العالم.

3 ـ حنكة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في اجتياز الأزمة :

في خضمّ ذلك الموقف الحرِج ، أمر النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أن يؤذّن في الناس بالرحيل في ساعة لم يألفوا الرحيل فيها ، مع أنّ ابن اُبيّ أسرع بالمثول أمام يديه ، والتنكّر ممّا بدر منه ونسب إليه ، ولكن ذلك لم يؤثّر على قرار النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بالرحيل شيئاً ، بل انطلق بالناس يجوب الفيافي والقفار ، طيلة يومهم حتّى أمسوا ، وطيلة ليلتهم حتّى أصبحوا ، وصدر يومهم الثاني حتّى آذتهم الشمس ، فلمّا نزل الناس لم يلبثوا حتّى غلبهم النعاس ، ونسوا حديث ابن اُبيّ ، وهذا يعطي لكل قائد محنّك درساً من لزوم امتصاص ما انتاب نفوسهم من أفكار خاطئة ، واجتثاث جذورها بصرفها إلىٰ اُمور اُخرى ، تستولي علىٰ منافذ فكرهم ، فتشذَّ أذهانهم عنهم إلىٰ التشاغل باُمور اُخرىٰ ، ولو لم يقم بذلك لبقيت آثار تلك الرواسب الفكرية في أذهانهم ، ولأثّرت على مستقبل الدعوة ، ووحدة صف المسلمين.

4 ـ سعة صدر النبي وتريّثه وتلبّثه :

لمّا أطلع زيد بن أرقم النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ما قاله عبد الله بن اُبيّ ، صدّقه في نقله ، ولمّا مثل ابن اُبيّ بين يديه ، وأنكر ما أبلغه زيد بن أرقم ، فلم يكذّبه ، وربّما كانت هذا الظاهرة التي تمثّل بها النبي في ذلك الموقف ، أمراً مثيراً للتساؤل ، ولأجل ذلك انتهز المنافقون الفرصة لانتقاد النبي ، واتهامه بالتساهل والتواني في القضاء علىٰ خصومه ، ولكنّ المنافقين قد غفلوا عن أصل رصين ، واُسّ مكين تبتني عليه الحنكة القياديّة ، وقد قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بهذا الصدد : « آلة الرئاسة سعة الصدر » (4).

وإنّ التسرّع في الحكم والقضاء ، و إن أصاب الواقع لا يخلو من نتائج غير محمودة ، خصوصاً إذا لم يتّضح الأمر بعد لعموم المسلمين ، فقد اختار النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) التريّث حتّى تنكشف حقيقة المسألة للجميع ، فيكون النبي معذوراً ومحقّاً إذا أخذ في حق ابن اُبيّ حكماً حاسماً.

5 ـ مقابلة الإساءة بالإحسان :

لمّا أخبر زيد بن أرقم النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بما تقوَّل به عبد الله ابن اُبيّ ، اقترح عمر بن الخطاب على النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أن يقتله ولكنّ النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أجابه بقوله : « فكيف يا عمر ، إذا تحدّث الناس انّ محمداً يقتل أصحابه » ، فقد أبدىٰ النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في جوابه هذا حنكة وسياسة رصينة أدحض بذلك المقولة التي تنص علىٰ « انّ كل ثورة ستجتث جذور أبطالها ». وعدوّ الله عبد الله بن اُبيّ وإن لم يكن في واقع أمره مسلماً واقعيّاً ، ولكنّه كان معدوداً منهم ، ومن أشرافهم ، فلو قتله النبي لتسرّب الريب إلى سائر نفوس المسلمين.

وقد جازىٰ النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) الإساءة بالإحسان ، عندما جاء ابنه إلى النبي ، وقال : « إنّه بلغني انّك تريد قتل عبد الله بن اُبيّ ، فإن كنت لا بدّ فاعلاً فامرني به ... ».

ولكنّ النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أجابه بقوله : بل نترفّق به ، ونحسن صحبته ما بقي معنا.

اُنظر إلى هذه السماحة النبويّة ، وروعة عفوها وجلالها ، فهو يترفّق بمن ناصبه العداء ، واَلّب قلوب أهل المدينة عليه ، فيكون رفقه وعفوه أبعد أثراً عن عقوبته ، لو أنّه عاقبها به ، وعند ذلك توجّه النبي إلى عمر بن الخطاب : كيف ترى يا عمر ، أما والله لو قتلته يوم قلت لي : اقتله ، لاُرعِدت له آنف ، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته.

قال عمر : والله علمت لأمر رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أعظم بركة من أمري.

وفي الختام انظر إلى كلام ابن عبد الله ، فهو على ايجازه يعبّر عن حالة نفسية اصطدمت فيها روح الإنشداد إلى الدين ، والذوبان في كيانه العظيم ، مع وشائج الارتباط العاطفي بوالده ، فلا يمكن له الجمع بينهما ، ولكنّه يعلم أنّ النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) لا يصدر إلّا عن الوحي ، ولا يأمر إلّا بالحق ، وعند ذلك طلب من النبي أن يقوم بنفسه بقتله لو استحقّ القتل ، ولا يفوّض القيام به إلى الغير ، خوفاً من أن تحمله العواطف والوشائج إلى قتل قاتل أبيه ، وفي قتل المسلم دخول النار والعذاب المقيم.

6 ـ العزّة لله ولرسوله :

إنّ عبد الله بن اُبيّ أوهم الناس بأنّ العزّة للمشركين والمنافقين ، والذل والهوان للمسلمين والمؤمنين ، ولكنّ الوحي أبطل أوهامه تلك ، بقوله :

( وَلِلَّـهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَـٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ).

فصدق الخبر المخبر ، حتّى وقف ابن عبد الله بن اُبيّ على باب المدينة ، فقال لأبيه : والله لا تدخلها إلّا بإذن رسول الله ولتعلمنّ اليوم من الأعزّ ، ومن الأذلّ ، فشكى عبد الله ابنه إلى رسول الله ، فأرسل إليه رسول الله : أن خلّي عنه يدخل فقال : أمّا إذا جاء أمر رسول الله فنعم.

هذه هي الدروس التي نتلقّاها من وحي سيرة الرسول على ضوء ما ورد في القرآن الكريم.

خاتمة المطاف :

ثمّ إنّ بني المصطلق أسلموا ، فبعث إليهم رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بعد إسلامهم الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، حتّى يأخذ الصدقات منهم ، فلمّا سمعوا به ركبوا إليه ، فلمّا سمع بهم هابهم ، فرجع إلىٰ رسول الله ، فأخبره : انّ القوم قد همّوا بقتله ، ومنعوه ما قبلهم من صدقتهم. فأكثر المسلمون في ذكر غزوهم حتّى همَّ رسول الله بأن يغزوهم ، فبينما هم علىٰ ذلك قدم وفدهم علىٰ رسول الله ، فقالوا : يا رسول الله سمعنا برسولك حين بعثته إلينا ، فخرجنا إليه لنكرمه ، ونؤدّي إليه ما قبلنا من الصدقة ، فانشمر راجعاً ، فبلغنا انّه زعم لرسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) انّا خرجنا إليه لنقتله ، ووالله ما جئنا لذلك ، فأنزل الله تعالى فيه وفيهم : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ * وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّـهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ ... ) ( الحجرات / 6 و 7 ) (5).

الهوامش

1. السيرة النبويّة لإبن هشام ج 2 ص 289 ـ 293.

2. مجمع البيان ج 10 ص 444 ( طبع بيروت ).

3. لاحظ تفسير الطبري ج 28 ص 70 ـ 75 ، والدر المنثور ج 5 ص 222 ـ 226 ، إلى غير ذلك من المصادر.

4. نهج البلاغة قسم الحكم برقم 176.

5. السيرة النبويّة لابن هشام ج 2 ص 296 ، وتفسير الطبري : ج 26 ص 79 ، والدر المنثور : ج 7 ص 556 ـ 558.

مقتبس من كتاب : مفاهيم القرآن / المجلّد : 7 / الصفحة : 390 ـ 398

 

أضف تعليق

الغزوات والحروب

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية