هل تصحّ التوبة من قبيح دون قبيح؟

البريد الإلكتروني طباعة

المصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج4 ، ص 334 ـ 336

(334)

الأمر التاسع : هل تصحّ التوبة من قبيح دون قبيح؟


اختلفت كلمتهم في أنّه هل يصح الندم من قبيح دون قبيح؟
فقال أبو علي : إنّه تصح ما لم يصر على شيء من ذلك الجنس ، فلو أنّه تاب
من شرب الخمر ، وأصرّ على الزنا كانت توبته عن الأوّل توبة نصوحاً صحيحة ،
وأمّا إذا أصرّ على شيء من ذلك الجنس لم تصح توبته ؛ وذلك كما أنّه لو تاب عن
شرب هذا القدح من الخمر مع اصراره على شرب قدح آخر ، فلا إشكال في أن لا
تصح توبته هذه (1).
و قال أبوهاشم : إنّه لا تصح التوبة عن بعض القبائح مع الإصرار على
بعض ، واختاره القاضي عبد الجبار ، واستدل عليه بأنّ التوبة عن القبيح يجب أن
يكون ندماً عليه لقبحه ، وعزماً على أن لا يعود إلى أمثاله في القبح ، وإذا كان هذا
كذلك ، فليس تصح توبته عن بعض القبائح مع الاصرار على البعض ؛ إذ ليس
يصح أن يترك أحدنا بعض الأفعال لوجه ، ثمّ لا يترك ما سواه في ذلك الوجه ،
ألاترى أنّه لا يصح أن يتجنّب سلوك طريق ؛ لأن فيها سبعاً ، ثمّ لا يتجنب سلوك
طريق أُخرى فيها سبع ، وكذلك لا يصح أن لا يتناول طعاماً ؛ لأنّ فيه سمّاً ، ثمّ
يتناول طعاماً آخر مع أنّ فيه سمّاً (2).
يلاحظ عليه : إنّ الأفعال القبيحة تختلف شدة وضعفاً ، وإن كانت تشترك
في كونها عدواناً على اللّه وخرقاً لحدوده ، ولكنها مع ذلك تختلف في جهات
القبح ، وعلى ذلك فربما يوجد داع إلى الندم في بعض القبائح دون الأُخرى ؛
وذلك بأن يقترن ببعض القبائح قرائن زائدة كعظم الذنب ، أو كثرة الزواجر عنه ،
أو الشناعة على فعله عند العقلاء ، دون قبائح أُخرى ، فعندئذٍ ربما يرجح الندم
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - شرح الأُصول الخمسة : ص 795.
(2) - شرح الأُصول الخمسة : ص 795 .
________________________________________


(335)

على القبائح المحتفة بما يوجد الندم في النفس دون الأُخرى . ولو اشتركت جميع
القبائح في قوة الدواعي اشتركت في وقوع الندم عليها جميعاً ، و لم يصح الندم على
البعض دون الآخر (1).
وهذا ممّا يلمسه الإنسان في حياة المجرمين ، فربما يحضر عاص أندية الوعظ
والإرشاد ، فيستمع إلى الخطيب ، يندد ببعض المعاصي كشرب الخمر ، و أكل
الربا ، ويذكر قبحهما وشناعتهما ، وما يترتب عليهما من إشاعة البغضاء في
المجتمع ، فيحصل في نفسه داع قوي يدفعه إلى ترك هذين القبيحين ، وفي الوقت
نفسه قد لا يجد داعياً لترك غيرهما من المعاصي التّي اعتاد عليها ، كالغيبة لا لأنّه لا
يراها قبيحة ، بل لأنّها لم تحتف بما يوجد داعي الندم في نفسه ، بخلاف الأولين ،
فجميعها ، إذن تشترك في القبح والشناعة ، غير أنّ الأوّلين يتميزان بوجود
الداعي إلى التوبة عنهما فتاب ، دون الآخر.
وبذلك يظهر الجواب عمّا ذكره أبوهاشم من أنّه إذا كانت توبته عن بعض
القبائح لأجل قبحها ، فهو موجود في البعض الآخر أيضاً ، فلم تاب عن الأُولى
دون الأُخرى؟ .
وجه الجواب : أنّ الكل يشترك في القبح ، لكن ترك البعض دون الآخر ، لا
لأجل اعتقاده أنّ واحداً قبيح دون الآخر ، بل إنّه يعتقد بقبحهما ، و لكن الداعي
للتوبة موجود في أحدهما دون الآخر .
ولقد أحسن المحقق الطوسي ، حيث قال : التحقيق أنّ ترجيح الداعي إلى
الندم على البعض يبعث عليه خاصة ، وإن اشترك الداعي في الندم على القبيح
لقبحه ، كما في الدواعي إلى الفعل . و لو اشترك الترجيح ، اشترك وقوع الندم ،
فلا يصح الندم (2).
وممّا يوضح ذلك أنّه لو أسلم يهودي ورجع عن كفره ، نادماً على ما مضى
من عمره ، ولكنه بقي مصراً على صغيرة من الصغائر ، فلو قلنا بأنّ التوبة من
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - لاحظ كشف المراد : ص 265 ـ 266 ط صيدا.
(2) - كشف المراد : ص 260، ط صيدا.
________________________________________


(336)

القبائح لا تتبعض لزم أنّ لا تكون توبته مقبولة ، وهو خرق للإجماع ، وإلى هذا
ينظر قول المحقق الطوسى : «  وإلا لولا التبعيض ، لزم الحكم ببقاء الكفر على
التائب منه المقيم على صغيرة » (1).
والعجب أنّ القاضي عبد الجبار استحسن قول أبي هاشم ، وأراد التخلص
من هذا الأشكال فقال : إنّه لا يسقط من عقوبته شيء ؛ لأنّه لم يأت بما يسقط
العقوبة عامة ، فبقيت عقوبته كما كانت ، نعم ، لا يجري عليه أحكام اليهود (2).
كيف يقول لا يسقط من عقوبته شيء مع أنّه كان كافراً فصار مؤمناً ،
والإيمان يكفر الشرك وعقوبته باتفاق المسلمين ، فالقول ببقاء عقوبة الشرك مع أنّه
صار مؤمناً بحجّة أنّه لم يزل يرتكب صغيرة ، مخالف لنص الآيات واتفاق
المسلمين ، ومعاملة النبي للمشركين الذين آمنوا ، ولو كان رفع العقوبة مقيّداً
بعدم الاصرار على صغيرة ، من الذنوب التّي كان يرتكبها المشرك ، لأصحر به
النبى وبيّنه.
بقي هنا أبحاث طفيفة في التوبة ، يظهر حالها ممّا أوضحناه (3) ، نسألة
سبحانه أن يتوب علينا ، ويكتب الغفران في صحائف أعمالنا ، بفضله و كرمه.


ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - المصدر السابق نفسه.
(2) - شرح الأُصول الخمسة : ص 797.
(3) - مثل ما إذا اغتاب إنسان رجلاً ، فهل يجب عليه الاعتذار منه ، خاصة إذا بلغته الغيبة أو لا؟ ،
وهذه مسألة فقهية.
وإذا كان التائب عالماً بذنوبه على التفصيل ، فهل يجب التوبة عن كل واحدة منها ، أو تكفي التوبة
عنها إجمالاً؟
وهل يجب تجديد التوبة ، كلما تذكر التائب معصيته السابقة؟
وغير ذلك ممّا ذكره المتكلمون ، لاحظ التجريد و شروحه ، في التوبة ، المسألة الحادية عشرة.

 

 

أضف تعليق

التوبة

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية