مواقف معاوية مع الإمام الحسن عليه السلام

البريد الإلكتروني طباعة

مواقف معاوية مع أبي محمد الحسن السبط عليه‌ السلام

إنَّ لابن آكلة الأكباد مع السبط المجتبى مواقف تقشعرُّ منها الجلود ، وتقفّ منها الشعور ، وتندى منها جبهة الإنسانيّة ، ويلفظها الدين والحفاظ ، وينبذها العدل والإحسان ، وينكرها كرم الأُرومة وطيب المحتد ، ارتكبها معاوية مستسهلاً كلّ ذلك ، مستهيناً بأمر الدين والمروءة.

من هو الحسن عليه السلام ؟

لا أقلّ من أن يكون هو سلام الله عليه أوحديّاً من المسلمين ، وأحد حملة القرآن ، وممّن أسلم وجهه لله وهو محسن ، يحمل بين أضالعه علوم الشريعة ، ومغازي الكتاب والسنّة ، والملكات الفاضلة جمعاء ، وهو القدوة والأُسوة في مكارم الأخلاق ، ومعالم الإسلام المقدّس ، فمن المحظور في الدين الحنيف النيل منه ، والوقيعة فيه ، وإيذائه ومحاربته ، على ما جاء لهذا النوع من المسلمين من الحدود في شريعة الله ، فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم.

أضف إلى ذلك : أنّه صحابيّ مبجّل ليس في أعيان الصحابة بعد أبيه الطاهر من يماثله ويساجله ، ودون مقامه الرفيع ما للصحابة عند القوم من العدالة والشأن الكبير ، وأعظم فضائله : أنّه ليس بين لابتي العالم من يستحقّ الإمامة والاقتداء به واحتذاء مثاله يومئذٍ غيره ، لفضله وقرابته. فهو أولى صحابيّ ثبت له ما أثبتوه لهم من الأحكام ، فلا يجوز منافرته والصدّ عنه ، والإعراض عن آرائه وأقواله ، وارتكاب مخالفته ، وما يجلب الأذى إليه من السبِّ له ، والهتك لمقامه ، واستصغار أمره.

زد عليه : أنّه سبط رسول الله وبضعته من كريمته سيّدة نساء العالمين ، لحمه من لحمه ، ودمه من دمه. فيجب على معتنقي تلك النبوّة الخاتمة حفظ صاحب الرسالة فيه ، والحصول على مرضاته ، وهو لا يرضى إلّا بالحقِّ الصراح والدين الخالص.

وهو عليه السلام قبل هذه كلّها أحد أصحاب الكساء الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

وهو أحد من أثنى عليهم الله بسورة هل أتى ، الذين يطعمون الطعام علىٰ حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً.

وهو من ذوي قربى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الذين أوجب الله مودّتهم وجعلها أجر الرسالة.

وهو أحد من باهل بهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم نصارى نجران كما جاء في الذكر الحكيم.

وهو أحد الثقلين اللذين خلّفهما النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم بين أُمّته ليقتدى بهم وقال : « ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبداً ».

وهو من أهل بيت مثلهم في الأمَّة : « مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق ».

وهو من الذين أوجب الله الصلاة عليهم في الفرائض ، ومن لم يُصلِّ عليهم لا صلاة له.

وهو أحد من خاطبهم النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بقوله : « أنا حربٌ لمن حاربتم ، وسلمٌ لم سالمتم ».

وهو أحد أهل خيمة خيّمها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال : « معشر المسلمين أنا سلمٌ لمن سالم أهل الخيمة ، حربٌ لمن حاربهم ، وليّ لمن والاهم ، لا يحبّهم إلّا سعيد الجدّ طيّب المولد ، ولا يبغضهم إلّا شقيّ الجدّ رديء الولادة ».

وهو أحد ريحانتي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يشمّهما ويضمّهما إليه.

وهو وأخوه الطاهر « سيّدا شباب أهل الجنّة ».

وهو حبيب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يأمر بحبّه قائلاً : « اللّهمّ إنّي أُحبّه فأحبّه ، وأحبّ من يحبّه ».

وهو أحد السبطين كان جدّهما صلّى الله عليه وآله وسلّم يأخذهما على عاتقه ويقول : « من أحبّهما فقد أحبّني ، ومن أبغضهما فقد أبغضني ».

وهو أحد اللذين أخذ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بيدهما فقال : « من أحبّني وأحبَّ هذين وأباهما وأمّهما كان معي في درجتي يوم القيامة ».

وهو أحد ابني رسول الله كان يقول صلّى الله عليه وآله وسلّم : « الحسن والحسين ابناي من أحبّهما أحبّني ، ومن أحبّني أحبّه الله ، ومن أحبّه الله أدخله الجنّة ، ومن أبغضهما أبغضني ومن أبغضني أبغضه الله ، ومن أبغضه الله أدخله النار » (1).

هذا هو الإمام الحسن المجتبى عليه السلام ؛ وأمّا معاوية ابن آكلة الأكباد فهو صاحب تلك الصحيفة السوداء التي مرّت عليك في الجزء العاشر ( ص 178 ) ، وأمّا جنايات معاوية على ذلك الإمام المطهّر فقد سارت بها الركبان ، وحفظ التاريخ له منها صحائف مشوّهة المجلى ، مسودّة الهندام. فهو الذي باينه وحاربه وانتزع حقّه الثابت له بالنصّ والجدارة ، وخان عهوده التي اعترف بها عندما تنازل الإمام عليه السلام له بالصلح حقناً لدماء شيعته ، وحرصاً على كرامة أهل بيته ، وصوناً لشرفه الذي هو شرف الدين ، وما كان يرمق إليه معاوية ويعلمه الإمام عليه السلام بعلمه الواسع من أنَّ الطاغية ليس بالذي يقتله إن استحوذ عليه ، لكنّه يستبقيه ليمنَّ بذلك عليه ، ثم يطلق سراحه ، وهو بين أنيابه ومخالبه ، حتى يقابل به ما سبق له ولأسلافه طواغيت قريش يوم الفتح ، فملكهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أرقّاء له ، ثم منَّ عليهم وأطلقهم ، فسمّوا الطلقاء وبقي ذلك سبّة عليهم إلى آخر الدهر ، فراق داهية الأمويّين أن تكون تلك الشية ملصقة ببني هاشم سبّة عليهم ، لكنّه أكدت آماله ، وأخفقت ظنونه ، وفشل ما ارتآه بهذا الصلح الذي كان من ولائده الإبقاء على شرف البيت الهاشمي ، ودرء العار عنهم ، إلى نتائج مهمّة ، كلّ منها كان يلزم الإمام عليه السلام بالصلح على كلّ حال ، وإن كان معاوية هو الخائن المائن في عهوده ومواثيقه ، والكائد الغادر بإلّه وذمّته ، فعهد إليه أن لا يسبَّ أباه على منابر المسلمين ، وقد سبّه وجعله سنّة متّبعة في الحواضر الإسلاميّة كلّها.

وعهد إليه أن لا يتعرّض لشيعة أبيه الطاهر بسوء ، وقد قتّلهم تقتيلاً ، واستقرأهم في البلاد تحت كلِّ حجر ومدر ، فطنّب عليهم الخوف في كلّ النواحي بحيث لو كان يقذف الشيعي باليهوديّة لكان أسلم له من انتسابه إلى أبي تراب سلام الله عليه.

وعهد إليه أن لا يعهد إلى أحد بعده وكتب إليه سلام الله عليه : إن أنت أعرضت عمّا أنت فيه وبايعتني وفيت لك بما وعدت ، وأجريت لك ما شرطت ، وأكون في ذلك كما قال أعشى بني قيس :

وإن أحدٌ أسدى إليك أمانةً

 

فأوف بها تدعى إذا متَّ وافيا

ولا تحسد المولى إذا كان ذا غنى

 

ولا تجفه إن كان في المال فانيا

ثم الخلافة لك من بعدي ، فأنت أولى الناس بها (2). ومع هذا عهد إلى جروه ذلك المستهتر الماجن بعدما قتل الإمام السبط ليصفو له الجوّ.

ولمّا تصالحا كتب به الحسن كتاباً لمعاوية صورته :

بسم الله الرحمن الرحيم

« هذا ما صالح عليه الحسن بن عليّ رضي الله عنهما معاوية بن أبي سفيان ، صالحه على أن يسلّم إليه ولاية المسلمين ، على أن يعمل فيها بكتاب الله تعالى وسنَّة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وسيرة الخلفاء الراشدين المهديّين ، وليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد إلى أحد من بعده عهداً ، بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين ، وعلى أنّ الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله تعالى في شامهم وعراقهم وحجازهم ويَمَنِهم ، وعلى أنَّ أصحاب عليّ وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم حيث كانوا ، وعلى معاوية بن أبي سفيان بذلك عهد الله وميثاقه ، وأن لا يبتغي للحسن بن عليّ ولا لأخيه الحسين ولا لأحد من بيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم غائلة سرّاً وجهراً ، ولا يخيف أحداً منهم في أفق من الآفاق ، أشهد عليه فلان ابن فلان وكفى بالله شهيداً » (3).

فلمّا استقرَّ له الأمر ودخل الكوفة وخطب أهلها فقال : يا أهل الكوفة أتراني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحجِّ ؟ وقد علمت أنَّكم تصلّون وتزكّون وتحجّون ، ولكنّني قاتلتكم لأتأمّر عليكم وعلى رقابكم ـ إلى أن قال : وكلُّ شرطٍ شرطته فتحت قدميَّ هاتين (4).

وقال أبو إسحاق السبيعي : إنَّ معاوية قال في خطبته بالنخيلة : ألا إنَّ كلّ شيء أعطيته الحسن بن عليّ تحت قدميّ هاتين لا أفي به (5). قال أبو إسحاق : وكان والله غدّاراً (6).

وكان الرجل ألدَّ خصماء ذلك السبط المفدّى ، وقد خفر ذمّته ، واستهان بأمره واستصغره ، وهو الإمام العظيم ، وقطع رحمه ، وما راعى فيه جدّه النبيّ العظيم ، ولا أباه الوصيّ المقدّم ، ولا أُمّه الصديقة الطاهرة ، ولا نفسه الكريمة التي اكتنفتها الفضائل والفواضل من شتّى نواحيها ، ولم ينظر فيه ذمّة الإسلام ، ولا حرمة الصحابة ، ولا مقتضى القرابة ، ولا نصوص رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فيه ، ولعمر الحقِّ لو كان مأموراً بقطعه وبغضه ومباينته لما وسعه أن يأتي بأكثر ممّا جاء به ، وناء بعبئه ، وباء بإثمه ، فقد قنت بلعنه في صلواته التي تلعن صاحبها ، قال أبو الفرج : حدّثني أبو عبيد محمد بن أحمد ، قال : حدّثني الفضل بن الحسن المصري ، قال : حدّثني يحيى بن معين ، قال : حدّثني أبو حفص اللبّان ، عن عبد الرحمن بن شريك ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن حبيب ابن أبي ثابت ، قال : خطب معاوية بالكوفة حين دخلها والحسن والحسين جالسان تحت المنبر فذكر عليّاً فنال منه ، ثم نال من الحسن ، فقام الحسين ليردّ عليه فأخذه الحسن بيده فأجلسه ثم قام فقال : « أيّها الذاكر عليّاً أنا الحسن وأبي عليّ ، وأنت معاوية وأبوك صخر ، وأُمّي فاطمة وأُمّك هند ، وجدّي رسول الله وجدّك عتبة بن ربيعة ، وجدّتي خديجة وجدّتك قتيلة ، فلعن الله أخملنا ذكراً ، وألأمنا حسباً ، وشرّنا قديماً وحديثاً ، وأقدمنا كفراً ونفاقاً ». فقال طوائف من أهل المسجد : آمين. قال الفضل : قال يحيى بن معين : وأنا أقول : آمين. قال أبو الفرج : قال أبو عبيد : قال الفضل : وأنا أقول : آمين ، ويقول علي بن الحسين الأصفهاني : آمين. قلت : ويقول عبد الحميد بن أبي الحديد مصنّف هذا الكتاب : آمين (7).

قال الأميني : وأنا أقول : آمين (8).

وآخر ما نفض به كنانة غدر الرجل أن دسّ إليه عليه السلام السمّ النقيع ، فلقي ربّه شهيداً مكموداً ، وقد قطع السمّ أحشاءه.

قال ابن سعد في الطبقات (9) : سمّه معاوية مراراً ، لأنّه كان يقدم عليه الشام هو وأخوه الحسين.

وقال الواقدي : إنّه سُقي سمّاً ثم أفلت ، ثم سُقي فأفلت ، ثم كانت الآخرة توفّي فيها ، فلمّا حضرته الوفاة قال الطبيب وهو يختلف إليه : هذا رجلٌ قطع السمّ أمعاءه ، فقال الحسين : « يا أبا محمد أخبرني من سقاك ؟ » قال : « ولِمَ يا أخي ؟ » قال : « أقتله والله قبل أن أدفنك ، وإن لا أقدر عليه أو يكون بأرض أتكلّف الشخوص إليه ».

فقال : « يا أخي إنّما هذه الدنيا ليالٍ فانية ، دعه حتى ألتقي أنا وهو عند الله ، وأبى أن يسمّيه ». وقد سمعت بعض من يقول : كان معاوية قد تلطّف لبعض خدمه أن يسقيه سمّاً (10).

وقال المسعودي : [ عن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهم ، قال : دخل الحسين على عمّي الحسن بن علي ] (11) لمّا سُقي السمّ ، فقام لحاجة الإنسان ثم رجع ، فقال : « لقد سقيت السمّ عدّة مرار فما سُقيت مثل هذه ، لقد لفظت طائفة من كبدي فرأيتني أقلّبه بعودٍ في يدي » ، فقال له الحسين : « يا أخي من سقاك ؟ » قال : « وما تريد بذلك ؟ فإن كان الذي أظنّه فالله حسيبه ، وإن كان غيره فما أُحبُّ أن يؤخذ بي بريءٌ ». فلم يلبث بعد ذلك إلّا ثلاثاً حتى توفي رضي الله عنه.

وذُكِر : أنَّ امرأته جعدة بنت أشعث بن قيس الكندي سقته السمّ ، وقد كان معاوية دسّ إليها أنّك إن احتلت في قتل الحسن وجّهت إليك بمائة ألف درهم ، وزوّجتكِ يزيد. فكان ذلك الذي بعثها على سمّه ، فلمّا مات الحسن وفى لها معاوية بالمال وأرسل إليها : إنّا نحبُّ حياة يزيد ولولا ذلك لوفينا لكِ بتزويجه !

وذكر : أنَّ الحسن قال عند موته : « لقد حاقت شربته ، وبلغ أُمنيّته ، والله ما وفى بما وعد ، ولا صدق فيما قال ». وفي فعل جعدة يقول النجاشي الشاعر ، وكان من شيعة عليّ ، في شعر طويل :

جعدة بَكّيه ولا تسأمي

 

بعد بكاء المعْوِل الثاكلِ (12)

لم يُسْبَلِ السترُ على مثلِهِ

 

في الأرضِ من حافٍ ومن ناعلِ

كان إذا شبّت له ناره

 

يرفعها بالسندِ الغاتلِ (13)

كيما يراها بائسٌ مرملٌ

 

وفرد قومٍ ليس بالآهلِ

يغلي بنيء اللحم حتى إذا

 

أنضج لم يغل على آكلِ

أعني الذي أسلَمَنا هلكُهُ

 

للزمن المستحرج (14) الماحلِ (15)

قال أبو الفرج الأصبهاني : كان الحسن شرط على معاوية في شروط الصلح : أن لا يعهد إلى أحد بالخلافة بعده ، وأن تكون الخلافة له من بعده ، وأراد معاوية البيعة لابنه يزيد ، فلم يكن شيء أثقل عليه من أمر الحسن بن عليّ وسعد بن أبي وقّاص فدسَّ إليهما سمّاً فماتا منه ، أرسل إلى ابنة الأشعث أنِّي مزوِّجك بيزيد ابني على أن تَسُمّي الحسن. وبعث إليها بمائة ألف درهم ، فسوَّغها المال ولم يزوِّجها منه. مقاتل الطالبيّين (16) ( ص 29 ). وحكاه عنه ابن أبي الحديد في شرح النهج ( 4 / 11 ، 17 ) (17) من طرق مغيرة وأبي بكر بن حفص.

وقال أبو الحسن المدائني : كانت وفاته في سنة ( 49 ) وكان مريضاً أربعين يوماً وكان سنّه سبعاً وأربعين سنة ، دسّ إليه معاوية سمّاً على يد جعدة بنت الأشعث زوجة الحسن ، وقال لها : إن قتلتِه بالسمّ فلك مائة ألف ، وأزوّجك يزيد ابني. فلمّا مات وفى لها بالمال ولم يزوّجها من يزيد ، وقال : أخشى أن تصنع بابني ما صنعت بابن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.

شرح ابن أبي الحديد (18) ( 4 / 4 ).

وقال : كان الحصين بن المنذر الرقاشي يقول : والله ما وفى معاوية للحسن بشيء ممّا أعطاه ، قتل حُجراً وأصحاب حُجر ، وبايع لابنه يزيد ، وسمَّ الحسن.

شرح ابن أبي الحديد (19) ( 4 / 7 ).

وقال أبو عمر في الاستيعاب (20) ( 1 / 141 ) : قال قتادة وأبو بكر بن حفص : سُمَّ الحسن بن عليّ ، سمّته امرأته بنت الأشعث بن قيس الكندي. وقالت طائفة : كان ذلك منها بتدسيس معاوية إليها وما بذل لها في ذلك وكان لها ضرائر فالله أعلم. ثم ذكر صدر ما رواه المسعودي.

وقال سبط ابن الجوزي في التذكرة (21) ( ص 121 ) : قال علماء السير ، منهم ابن عبد البرّ : سمّته زوجته جعدة بنت الأشعث بن قيس الكندي. وقال السُدي : دسّ إليها يزيد بن معاوية أن سمِّي الحسن وأتزوَّجك. فسمّته فلمّا مات أرسلت إلى يزيد تسأله الوفاء بالوعد ، فقال : أنا والله ما أرضاك للحسن ، أفنرضاك لأنفسنا ؟! وقال الشعبي : إنّما دسّ إليها معاوية فقال : سمِّي الحسن وأُزوِّجكِ يزيد وأعطيكِ مائة ألف درهم ، فلمّا مات الحسن بعثت إلى معاوية تطلب إنجاز الوعد ، فبعث إليها بالمال وقال : إنّي أُحبُّ يزيد ، وأرجو حياته ، ولولا ذلك لزوّجتك إيّاه !

وقال الشعبي : ومصداق هذا القول أنَّ الحسن كان يقول عند موته وقد بلغه ما صنع معاوية : « لقد عملت شربته وبلغت أُمنيّته ، والله لا يفي بما وعد ، ولا يصدق فيما يقول ». ثم حكى عن طبقات ابن سعد : أنَّ معاوية سمّه مراراً كما مرّ.

وقال ابن عساكر في تاريخه (22) ( 4 / 229 ) : يقال : إنَّه سقي السمَّ مراراً كثيراً فأفلت منه ثم سقي المرَّة الأخيرة فلم يفلت منها. ويقال : إنَّ معاوية قد تلطّف لبعض خدمه أن يسقيه سمّاً فسقاه فأثّر فيه حتى كان يوضع تحته طست ويرفع نحواً من أربعين مرَّة. وروى محمد بن المرزبان : أنَّ جعدة بنت الأشعث بن القيس كانت متزوّجة بالحسن فدسَّ إليها يزيد أن سمّي الحسن وأنا أتزوّجك ففعلت ، فلمّا مات الحسن بعثت إلى يزيد تسأله الوفاء بالوعد ، فقال لها : إنّا والله لم نرضك للحسن فكيف نرضاك لأنفسنا ؟ فقال كثير ، ويروى أنّه للنجاشي :

يا جعدة ﭐبكيه ولا تسأمي

 

بكاء حقٍّ ليس بالباطلِ

لن تستري البيت على مثلِهِ

 

في الناس من حاف ولا ناعلِ

أعني الذي أسلَمَهُ أهلُه

 

للزمن المستحرج الماحلِ

كان إذا شبّت له نارهُ

 

يرفعها بالنسب الماثلِ

كيما يراها بائسٌ مرملٌ

 

أو وفد قومٍ ليس بالآهلِ

يغلي بنيء اللحم حتى إذا

 

أنضج لم يغل على آكلِ

وروى المزّي في تهذيب الكمال في أسماء الرجال (23) ، عن أُمّ بكر بنت المسور ، قالت : سُقي الحسن مراراً وفي الآخرة مات ، فإنّه كان يختلف كبده. فلمّا مات أقام نساء بني هاشم عليه النوح شهراً. وفيه ، عن عبد الله بن الحسن : قد سمعت من يقول : كان معاوية قد تلطّف لبعض خدمه أن يسقيه سمّا. وقال أبو عوانة ، عن مغيرة ، عن أمّ موسى : إنَّ جعدة بنت الأشعث سقت الحسن السمَّ فاشتكى منه أربعين يوماً.

وفي مرآة العجائب وأحاسن الأخبار الغرائب (24) ؛ قيل : كان سبب موت الحسن بن عليّ من سمّ سمَّ به يقال : إنَّ زوجته جعدة بنت الأشعث بن قيس الكندي سقته إيّاه ، ويُذكر والله أعلم بحقيقة أمورهم : أنَّ معاوية دسّ إليها بذلك على أن يوجّه لها مائة ألف درهم ويزوِّجها من ابنه يزيد ، فلمّا مات الحسن وفى لها معاوية بالمال وقال : إنِّي أحبُّ حياة يزيد. وذكروا : أنَّ الحسن قال عند موته : « لقد حاقت شربته والله لا وفى لها بما وعد ولا صدق فيما قال ». وفي سمّه يقول رجل من الشيعة :

تعرّفكم (25) لك من سلوة

 

تفرِّج عنك قليل الحزَنْ

بموت النبيِّ وقتل الوصيِّ

 

وقتل الحسين وسمّ الحسنْ

وقال الزمخشري في ربيع الأبرار (26) في الباب الحادي والثمانين : جعل معاوية لجعدة بنت الأشعث امرأة الحسن مائة ألف درهم حتى سمّته ، ومكث شهرين وإنَّه يرفع من تحته طستاً من دم وكان يقول : « سُقيت السمّ مراراً ما أصابني فيها ما أصابني في هذه المرّة ، لقد لفظت كبدي ».

وفي حسن السريرة (27) : لمّا كان سنة سبع وأربعين من الهجرة دسَّ معاوية إلى جعدة بنت الأشعث بن قيس الكندي زوجة الحسن بن عليّ أن تسقي الحسن السمَّ ، ويوجّه لها مائة ألف ويزوّجها من ابنه يزيد. ففعلت ذلك.

كان معاوية يرى أمر الإمام السبط عليه السلام حجر عثرة في سبيل أمنيّته الخبيثة بيعة يزيد ، ويجد نفسه في خطر من ناحيتين ، عهده إليه عليه السلام في الصلح معه بأن لا يعهد إلى أحد من جانب ، وجدارة أبي محمد الزكيّ ونداء الناس به من ناحية أخرى ، فنجّى نفسه عن هذه الورطة بسمِّ الإمام عليه السلام ، ولمّا بلغه نعيه غدا مستبشراً ، وأظهر الفرح والسرور وسجد وسجد من كان معه.

قال ابن قتيبة : لمّا مرض الحسن بن عليّ مرضه الذي مات فيه ، كتب عامل المدينة إلى معاوية يخبره بشكاية الحسن ، فكتب إليه معاوية : إن استطعت أن لا يمضي يومٌ يمرُّ بي إلّا يأتيني فيه خبره فافعل. فلم يزل يكتب إليه بحاله حتى توفّي فكتب إليه بذلك. فلمّا أتاه الخبر أظهر فرحاً وسروراً حتى سجد وسجد من كان معه ، فبلغ ذلك عبد الله بن عبّاس وكان بالشام يومئذٍ فدخل على معاوية ، فلمّا جلس قال معاوية :

يا بن عباس هلك الحسن بن عليّ. فقال ابن عباس : نعم هلك ، إنّا لله وإنّا إليه راجعون. ترجيعاً مكرّراً ، وقد بلغني الذي أظهرت من الفرح والسرور لوفاته ، أما والله ما سدّ جسده حفرتك ، ولا زاد نقصان أجله في عمرك ، ولقد مات وهو خيرٌ منك ، ولئن أُصِبنا به لقد أُصبنا بمن كان خيراً منه جدّه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فجبر الله مصيبته ، وخلف علينا من بعده أحسن الخلافة. ثم شهق ابن عبّاس وبكى. الحديث (28).

وفي العقد الفريد (29) ( 2 / 298 ) لمّا بلغ معاوية موت الحسن بن عليّ خرَّ ساجداً لله ، ثم أرسل إلى ابن عبّاس وكان معه في الشام فعزّاه وهو مستبشرٌ. وقال له : ابن كم سنة مات أبو محمد ؟ فقال له : سنّه كان يُسمع في قريش فالعجب من أن يجهله مثلك قال : بلغني أنّه ترك أطفالاً صغاراً ، قال : كلُّ ما كان صغيراً يكبر ، وإنَّ طفلنا لكهل وإنَّ صغيرنا لكبير ، ثم قال : ما لي أراك يا معاوية مستبشراً بموت الحسن بن عليّ ؟ فوالله لا ينسأ في أجلك ، ولا يسدّ حفرتك ، وما أقلَّ بقاءك وبقاءنا بعده ! وذكره الراغب في المحاضرات (30) ( 2 / 224 ).

وفي حياة الحيوان (31) ( 1 / 58 ) ، وتاريخ الخميس ( 2 / 294 ) وفي طبعة ( 328 ) : قال ابن خلّكان (32) : لمّا مرض الحسن كتب مروان بن الحكم إلى معاوية بذلك وكتب إليه معاوية : أن أَقبِلِ المطيَّ إليَّ بخبر الحسن ، فلمّا بلغ معاوية موته سمع تكبيرة من الخضراء فكبّر أهل الشام لذلك التكبير ، فقالت فاختة بنت قريظة لمعاوية : أقرّ الله عينك ، ما الذي كبّرت لأجله ؟ فقال : مات الحسن. فقالت : أعلى موت ابن فاطمة تكبّر ؟ فقال : ما كبّرت شماتةً بموته ، ولكن استراح قلبي (33). ودخل عليه ابن عبّاس فقال : يا بن عبّاس هل تدري ما حدث في أهل بيتك ؟ قال : لا أدري ما حدث إلّا أنّي أراك مستبشراً وقد بلغني تكبيرك ، فقال : مات الحسن. فقال ابن عبّاس : رحم الله أبا محمد ـ ثلاثاً ـ ، والله يا معاوية لا تسدّ حفرته حفرتك ، ولا يزيد عمره في عمرك ، ولئن كنّا أُصبنا بالحسن فلقد أُصبنا بإمام المتّقين وخاتم النبيّين ، فجبر الله تلك الصدعة ، وسكّن تلك العبرة ، وكان الخلف علينا من بعده. انتهى.

وكان ابن هند جذلانَ مستبشراً بموت الإمام أمير المؤمنين عليه السلام قبل ولده الطاهر السبط ، فبلغ الحسن عليه السلام وكتب إليه فيما كتب : « قد بلغني أنك شمتَّ بما لا يشمت به ذوو الحجى ، وإنَّما مثلك في ذلك كما قال الأوّل :

وقل للذي يبقى خلاف الذي مضى

 

تجهّز لأخرى مثلها فكأن قدِ

وإنّا ومن قد مات منّا لكالذي

 

يروح فيمسي في المبيت ليقتدي »

ولإرضاء معاوية منع ذلك الإمام الزكيّ عن أن يقوم أخوه الحسين السبط بإنجاز وصيّته ويدفنه في حجرة أبيه الشريفة التي هي له ، وهو أولى إنسان بالدفن فيها. قال ابن كثير في تاريخه (34) ( 8 / 44 ) : فأبى مروان أن يدعه ، ومروان يومئذٍ معزول يريد أن يرضي معاوية. وقال ابن عساكر (35) ( 4 / 226 ) : قال مروان : ما كنت لأدع ابن أبي تراب يدفن مع رسول الله ، وقد دفن عثمان بالبقيع ، ومروان يومئذٍ معزولٌ يريد أن يرضي معاوية بذلك ، فلم يزل عدوّاً لبني هاشم حتى مات. انتهى.

هذه نماذج من جنايات معاوية على ريحانة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ولعلَّ فيما أنساه التاريخ أضعافها ، وهل هناك مسائلٌ ابن حرب عمّا اقترفه السبط المجتبى سلام الله عليه من ذنب استحقَّ من جرّائه هذه النكبات والعظائم ؟ وهل يسع ابن آكلة الأكباد أن يعدَّ منه شيئاً في الجواب ؟ غير أنّه عليه السلام كان سبط محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وقد عطّل دين آباء الرجل الذي فارقه كرهاً ولم يعتنق الإسلام إلّا فَرَقا ، وأنّه شبل عليّ خليفة الله في أرضه بعد نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو الذي مسح أسلافه الوثنيّين بالسيف ، وأثكلت أُمّهات البيت الأمويّ بأجريتهن (36) ، ولمّا ينقضي حزن معاوية على أولئك الطغمة حتى تشفّى بأنواع الأذى التي صبّها على الإمام المجتبى إلى أن اغتاله بالسمِّ النقيع ، ولم يملك نفسه حتى استبشر بموته ، وسجد شكراً ، وأنا لا أدري ألِلاته سجد أم لله سبحانه ؟ وإنّ لسان حاله كان ينشد ما تظاهر به مقول نغله يزيد :

قد قتلت القِرْمَ من ساداتهم

 

وعدلنا ميل بدرٍ فاعتدلْ

ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا

 

جزعَ الخزرجِ من وقع الأسلْ

لعبت هاشمُ بالملكِ فلا

 

خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزلْ

وأنّه بضعة الزهراء فاطمة الصدِّيقة حبيبة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ومنها نسله الذين ملأوا الدنيا أوضاحاً وغرراً من الحسب الوضّاء ، والشرف الباذخ ، والدين الحنيف ، كلُّ ذلك ورغبات معاوية على الضدِّ منها ، وما تغنيه الآيات والنذر.

وفي الذكر الحكيم ( سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ) (37).

الهوامش

1. هذه الأحاديث تأتي بأسانيدها ومصادرها في مسند المناقب ومرسلها إن شاء الله. ( المؤلف )

2. شرح ابن أبي الحديد : 4 / 13 [ 16 / 37 الوصية 31 ]. ( المؤلف )

3. الصواعق لابن حجر : ص 81 [ ص 136 ]. ( المؤلف )

4. راجع ما مرّ في الجزء العاشر : ص 326. ( المؤلف )

5. شرح ابن أبي الحديد : 4 / 16 [ 16 / 46 الوصية 31 ]. ( المؤلف )

6. راجع ما أسلفناه في الجزء العاشر : ص 262. ( المؤلف )

7. شرح ابن أبي الحديد : 4 / 16 [ 16 / 46 ـ 47 الوصية 31 ]. ( المؤلف )

8. ويقول العاملون في مركز الغدير : آمين آمين.

9. تتميم طبقات ابن سعد : 1 / 352 ح 315.

10. تاريخ ابن كثير : 8 / 43 [ 8 / 47 حوادث سنة 49 هـ ]. ( المؤلف )

11. من مروج الذهب.

12. في تاريخ ابن كثير [ 8 / 47 حوادث سنة 49 هـ ] : بكاء حقّ ليس بالباطل. ( المؤلف )

13. في تاريخ ابن كثير [ 8 / 47 حوادث سنة 49 هـ ] : يرفعها بالنسب الماثل. ( المؤلف )

14. من الحرج وهو الضيق والشدّة.

15. مروج الذهب : 2 / 50 [ 3 / 6 ـ 7 ]. ( المؤلف )

16. مقاتل الطالبيّين : ص 80 رقم 4.

17. شرح نهج البلاغة : 16 / 29 ، 49 الوصية 31.

18. شرح نهج البلاغة : 16 / 11 ، 17 الوصية 31.

19. شرح نهج البلاغة : 16 / 11 ، 17 الوصية 31.

20. الاستيعاب : القسم الأول / 389 رقم 555.

21. تذكرة الخواص : ص 211 ـ 212.

22. تاريخ مدينة دمشق : 13 / 282 ـ 284 رقم 1383 ، وفي مختصر تاريخ دمشق : 7 / 39.

23. تهذيب الكمال : 6 / 252 رقم 1248.

24. تأليف الشيخ أبي عبد الله محمد بن عمر زين الدين. ( المؤلف )

25. كذا ، وفي مروج الذهب : 3 / 7 : تأسَّ فكم لك.

26. ربيع الأبرار : 4 / 208.

27. ألّفه الشيخ عبد القادر بن محمد بن [ يحيى الحسيني الشافعي ] الطبري ابن بنت محبّ الدين الطبري مؤلّف الرياض النضرة.

[ توفي سنة 1033 ، وكتابه ( حسن السريرة في حسن السيرة ) : شرح منظومة في السير. راجع ذيل كشف الظنون : 3 / 404 ]. ( المؤلف )

28. الإمامة والسياسة : 1 / 144 [ 1 / 150 ]. ( المؤلف )

29. العقد الفريد : 4 / 156.

30. محاضرات الأدباء : مج 2 / ج 4 / 500.

31. حياة الحيوان : 1 / 83 ـ 84.

32. وفيات الأعيان : 2 / 66 ـ 67.

33. إلى هاهنا ذكره الزمخشري أيضاً في ربيع الأبرار [ 4 / 209 ] في الباب الحادي والثمانين ، والبدخشي في نُزُل الأبرار [ ص 147 ـ 148 ]. ( المؤلف )

34. البداية والنهاية : 8 / 48 حوادث سنة 49 هـ.

35. تاريخ مدينة دمشق : 13 / 287 ، 288 رقم 1383 ، وفي مختصر تاريخ دمشق : 7 / 42.

36. الأجرية : جمع جرو.

37. الأعراف : 146.

مقتبس من كتاب : الغدير في الكتاب والسنّة والأدب / المجلّد : 11 / الصفحة : 11 ـ 25

 

أضف تعليق

حكام بني أمية وبني العباس

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية