الدليل على جواز السفر إلى زيارة القبور

البريد الإلكتروني طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 4 ، ص 141 ـ 145
________________________________________
(141)
الدليل على جواز السفر إلى زيارة القبور
ثم إنّ هنا سؤالا يثار في المقام، وهو أنّ الحديث وإن كان قاصراً عن إثبات التحريم، ولكن ما هو الدليل على جواز السفر لزيارة قبر النبي أو سائر
________________________________________
(142)
القبور، خصوصاً إذا كان السفر دينياً ومنسوباً إلى الشرع، فإنّ الإفتاء بجوازه بما أنّه عمل يؤتى به لأجل كونه أمراً دينياً يحتاج إلى الدليل، وإلى الجواب:
يدل على جواز السفر لفيف من الدلائل، وإليك بيانها:
الأول: ما ورد من الحث على زيارة النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ وستوافيك نصوصها فإنّها بين صريح في جواز السفر أو مطلق يعم المقيم والمسافر، فقول النبي وفعله حجتان، أمّا قوله:
فقد روي عن عبداللّه بن عمر أنّه قال: قال النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ : من جاءني زائراً لا تعمله (تحمله) إلاّ زيارتي كان حقاً علىّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة.
روي أيضاً عن عبداللّه بن عمر عن النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ أنّه قال: من حجّ فزار قبري بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي .
والثاني صريح في جواز السفر، والأول مطلق يعم المسافر والمقيم في المدينة، وستوافيك هذه النصوص عن أعلام المحدثين .
وأمّا فعله، فقد روي عن طلحة بن عبداللّه قال: خرجنا مع رسول اللّه يريد قبور الشهداء ـ إلى أن قال ـ : فلمّا جئنا قبور الشهدا، قال: هذه قبور إخواننا(1) .
الثاني: الإجماع، لإطباق السلف والخلف، لأنّ الناس لم يزالوا في كل عام إذا قضوا الحج يتوجهون إلى زيارته ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ ، وإن منهم من يفعل ذلك قبل الحج، قال السبكي: هكذا شاهدناه، وشاهده من قبلنا وحكاه العلماء عن الأعصار القديمة، وكلهم يقصدون ذلك ويعرجون إليه وإن لم يكن طريقهم، ويقطعون فيه مسافة بعيدة، وينفقون فيه الأموال، ويبذلون فيه المهج، معتقدين أنّ ذلك قربة وطاعة، وإطباق هذا الجمع العظيم من
________________________________________
1. أخرجه أبو داود في سننه ج 1 ص 311، والبيهقي في السنن الكبرى ج 5 ص 249 والمراد من الشهداء شهداء أحد، كما هو مورد الحديث .
________________________________________
(143)
مشارق الارض ومغاربها على مرّ السنين وفيهم العلماء والصلحاء وغيرهم، يستحيل أن يكون خطأ، وكلهم يفعلون ذلك على وجه التقرب به إلى اللّه عزّوجلّ، ومن تأخر فإنّما يتأخر بعجز أو تعويق المقادير مع تأسفه عليه، وودّ لو تيسّر له، ومن ادّعى أنّ هذا الجمع العظيم مجمع على خطأ فهو المخطىء .
وما ربما يقال من أنّ سفرهم إلى المدينة لأجل قصد عبادة أُخرى وهي الصلاة في المسجد، باطل جداً. فإنّ المنازعة فيما يقصده الناس مكابرة في أمر البديهة، فمن عرف الناس أنهم يقصدون بسفرهم الزيارة من حين يعرجون إلى طريق المدينة، ولا يخطر غير الزيارة من القربات إلاّ ببال قليل منهم، ولهذا قلّ القاصدون إلى بيت المقدس مع تيسّر إتيانه، وإن كان في الصلاة فيه من الفضل ما قد عرفت، فالمقصود الأعظم في المدينة، كما أنّ المقصود الأعظم في مكة، الحج أو العمرة، وصاحب هذا السؤال إن شك في نفسه فليسأل كل من توجّه إلى المدينة ما قصد بذلك(1) .
الثالث: إنّه إذا كانت الزيارة قربة وأمراً مستحباً على الوجه العام والخاص، فالسفر وسيلة القربة، والوسائل معتبرة بالمقاصد، فيجوز قطعاً.
الرابع: ما نقله المؤرخّون عن بعض الصحابة والتابعين .
1- قال ابن عساكر في ترجمة بلال: إنّ بلالا رأى في منامه رسول اللّه وهو يقول له: ما هذه الجفوة يا بلال، اما آن لك أن تزورني يا بلال؟ فانتبه حزيناً، وجلا، خائفاً، فركب راحلته وقصد المدينة فأتى قبر النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ فجعل يبكي عنده ويمرغ وجهه عليه، فأقبل الحسن والحسين - رضي اللّه عنهما ـ فجعل يضمّهما ويقبّلهما، فقالا له: نشتهي نسمع أذانك الّذي كنت تؤذن به لرسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ ففعل، فعلا سطح المسجد، فوقف موقفه الّذي كان يقف فيه، فلمّا أن قال: «اللّه أكبر، اللّه أكبر» ارتجّت المدينة، فلمّا أن قال: «أشهد أن لا إله إلاّ اللّه»، ازدادت رجّتها، فلمّا أن قال: «أشهد أنّ محمداً رسول اللّه» خرجت العواتق من
________________________________________
1. شفاء السقام، في زيارة خير الأنام لتقي الدين السبكي ص 85 ـ 86 ط بولاق مصر .
________________________________________
(144)
خدورهن فقالوا: أبعث رسول اللّه؟ فما رئي يوماً أكبر باكياً بالمدينة بعد رسول اللّه من ذلك اليوم(1) .
2- إنّ عمر بن عبد العزيز كان يبعث بالرسول قاصداً من الشام إلى المدينة ليقرىء النبي السلام، ثم يرجع، قال السبكي: إنّ سفر بلال في زمن صدر الصحابة، ورسول عمر بن عبدالعزيز في زمن صدر التابعين من الشام إلى المدينة لم يكن إلاّ للزيارة والسلام على النبي، ولم يكن الباعث على السفر غير ذلك من أمر الدنيا، ولا من أمر الدين، ولا من قصد المسجد، ولا غيره .
3- إنّ عمر لمّا صالح أهل بيت المقدس، وقدم عليه كعب الأحبار وأسلم، وفرح عمر بإسلامه، قال عمر له: هل لك أن تسير معي إلى المدينة وتزور قبر النبي وتتمتّع بزيارته؟ فقال لعمر: أنا أفعل ذلك، ولما قدم عمر المدينة أول ما بدأ بالمسجد، سلم على رسول اللّه(2) .
4- ذكر ابن عساكر في تاريخه وابن الجوزي في مثير الغرام الساكن بأسانيدهما إلى محمد بن حرب الهلالي قال: دخلت المدينة، فأتيت قبر النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ وزرته وسلمت بحذائه، فجاءه أعرابي فزاره، ثم قال: يا خير الرسل، إنّ اللّه أنزل إليك كتاباً صادقاً قال فيه: (وَلَوْ أنّهمْ إذْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُم جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرَوا اللهَ واستَغفَرَ لَهُمُ الرّسُولُ لَوَجَدُوا اللّه تَوّاباً رَحيماً) وإنّي جئتك مستغفراً ربك من ذنوبي، مستشفعاً فيها بك إلى ربي، ثم بكى وأنشأ يقول:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكم
وقد ذيّله أبو الطيب أحمد بن عبدالعزيز بأبيات وقال:
وفيه شمس التقى والدين قد غربت من بعد ما أشرقت من نورها الظلم
________________________________________
1. شفاء السقام ص 44 ـ 47 وقد نقله من مصادر كثيرة، قال: وذكره الحافظ أبو محمد عبدالغني المقدسي في «الكمال في ترجمة بلال».
2. المصدر نفسه .

________________________________________
(145)
حاشا لوجهك أن يبلى وقد هديت في الشرق والغرب من أنواره الأُمم(1)
وبذلك تعرف قيمة ما ذكره ابن تيمية حول السفر إلى المشاهد وقال: وقد رخّص بعض المتأخرين في السفر إلى المشاهد، ولم ينقلوا ذلك عن أحد من الأئمة، ولا احتجّوا بحجّة شرعية(2) .
________________________________________
1. شفاء السقام ص 52 .
2. نفس المصدر .
 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية