العامل الأوّل المكوّنة للفرق : الاتّجاهات الحزبيةُ والتعصّبات القبلية

البريد الإلكتروني طباعة

العامل الأوّل المكوّنة للفرق : الاتّجاهات الحزبيّةُ والتعصّبات القبلية

إنّ أعظم خلاف بين الأُمّة هو الخلاف في قضيّة الإمامة ، إذ ما سل سيف قطّ في الإسلام وفي كلّ الأزمنة على قاعدة دينيّة مثل ما سلّ على الإمامة ، وقد كان الشقاق بين المسلمين في تلك المسألة أوّل شقاق نجم بينهم وجعلهم فرقاً أو فرقتين. فمن جانب نرى علياً صلوات اللّه عليه ورجال البيت الهاشمي ركنوا إلى النصّ وقالوا : إنّ الإمامة شأنها شأن النبوّة لا تكون إلّا بالنصّ. وإنّ هذا النصّ قد صدر عن النبي في مواطن شتى ، آخرها واقعة الغدير المشهورة بين كافّة الناس حينما قام النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في محتشد عظيم وقال : « من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه ... ». (1)

ومن جانب آخر نرى الأنصار تجتمع في سقيفة بني ساعدة قبل تجهيز النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ومواراته ، يبحثون عن قضيّة الإمامة أو الخلافة ، فيرى سيّدهم أنّ القيادة حقّ للأنصار رافعاً عقيرته بقوله : يا معشر الأنصار لكم سابقة في الدين وفضيلة في الإسلام ليست في العرب ، إنّ محمّداً صلّى الله عليه وآله وسلّم لبث بضع عشرة سنة في قومه يدعوهم إلى عبادة الرحمن وقلع الأنداد والأوثان ، فما آمن به من قومه إلّا رجال قليل ما كانوا يقدرون على أن يمنعوا رسول اللّه صلّى الله عليه وآله ولا أن يعزوا دينه ولا أن يدفعوا عن أنفسهم ضيماً عموا به ، حتّى إذا أراد بكم الفضيلة ساق إليكم الكرامة وخصّكم بالنعمة ، فرزقكم اللّه الإيمان به ورسوله والمنع له ولأصحابه ، والإعزاز له ولدينه ، والجهاد لأعدائه ، فكنتم أشدّ الناس على عدّوه منكم وأثقله على عدوّه من غيركم ، حتّى استقامت العرب لأمر اللّه طوعاً وكرهاً ـ إلى أن قال : ـ استبدوا بهذا الأمر دون الناس. فأجابوه بأجمعهم : أن قد وفقت في الرأي وأصبت في القول ولن نعدو ما رأيت ، نولّيك هذا الأمر فإنّك فينا مقنع ولصالح المؤمنين رضى. (2)

هذا منطق الأنصار ورئيس جبهتهم ترى أنّه يجر النار إلى قرصه وحزبه بحجّة أنّهم آمنوا بمحمّد صلّى الله عليه وآله ونصروه وآووه ، إلى غير ذلك من الحجج التي ذكرها سعد بن عبادة ، رئيس الخزرج في جبهة الأنصار.

ومن جهة ثالثة نرى بعض المهاجرين الذين اطّلعوا على اجتماع الأنصار في السقيفة ، يتركون تجهيز النبي صلّى الله عليه وآله ومواراته ويسرعون إلى السقيفة ويحضرون في جمعهم ويناشدونهم ويعارضون منطقهم بقولهم : إنّ المهاجرين أوّل من عبد اللّه في الأرض وآمن باللّه وبرسوله ، وهم أولياؤه وعشيرته ، وأحقّ الناس بهذا الأمر من بعده ، ولا ينازعهم في ذلك إلّا ظالم ـ إلى أن قال : ـ من ذا ينازعهم في سلطان محمّد صلّى الله عليه وآله وإمارته وهم أولياؤه وعشيرته ، إلّا مدل بباطل أو متجانف لإثم أو متورط في هلكة. (3)

وهذا منطق بعض المهاجرين لا يقصر في الصلابة أو الوهن عن منطق الأنصار ، والكلّ يدّعي أنّ الحقّ له ولحزبه ، من دون أن يتفكّروا في مصالح الإسلام والمسلمين ، ومن دون أن يتفكّروا في اللياقة والكفاءة في القائد ، ومن دون أن يرجعوا إلى الكتاب والسنّة وإحراز المعايير التي يجب وجودها في القائد ، فيشبه منطق هؤلاء منطق المرشّحين من سرد الثناء على أنفسهم وحزبهم لرئاسة الجمهورية أو عضويّة المجلس الوطني.

وكلّ يدّعي وصلاً بليلى * وليلى لا تقر لهم بذاكا

نعم كان هذا التشاجر قائماً بينهم على قدم وساق إلى أن تغلب جناح هذا الصنف من المهاجرين على جبهة الأنصار بإعانة بعض الأنصار وهو « بشير بن سعد » وهو ابن عمّ « سعد بن عبادة » ، فبايع أبا بكر حتّى يكسر على سعد بن عبادة وعلى الخزرج ما كانوا أجمعوا أمرهم ، ولما رأت الأوس ما صنع بشير بن سعد وما تدعو إليه قريش وما تطلب الخزرج من تأمير سعد بن عبادة ، قال بعضهم لبعض ـ وفيهم أسيد بن حضير وكان أحد النقباء ـ : واللّه لئن وليتها الخزرج عليكم مرّة لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة ولا جعلوا لكم معهم فيها نصيباً ، فقوموا فبايعوا أبا بكر ، فقاموا إليه وبايعوه. (4)

وهناك كلمة قيمة للإمام أمير المؤمنين في تقييم احتجاج الأنصار والمهاجرين نقلها الشريف الرضي في نهج البلاغة ، قال :

لمّا انتهت إلى أمير المؤمنين عليه السلام أنباء السقيفة ، بعد وفاة رسول اللّه صلّى الله عليه وآله ، قال عليه السلام : « ما قالت الأنصار ؟ » قالوا : قالت : منّا أمير ومنكم أمير.

قال عليه السلام : « فهلا احتججتم عليهم بأنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وآله وسلّم وصى بأن يحسن إلى محسنهم ، ويتجاوز عن مسيئهم » !

قالوا : وما في هذا من الحجّة عليهم ؟.

فقال عليه السلام : « لو كانت الإمارة فيهم ، لم تكن الوصيّة بهم ».

ثمّ قال عليه السلام : « فماذا قالت قريش ؟ ».

قالوا : احتجت بأنّها شجرة الرسول صلّى الله عليه وآله .

فقال عليه السلام : « احتجّوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة ». (5)

وفي كلمة قصيرة عن الإمام عليه السلام ، قال : « واعجباه تكون الخلافة بالصحابة ، ولا تكون بالصحابة والقرابة ».

قال الرضي ، وقد روي له شعر قريب من هذا المعنى وهو :

فإن كنت بالشورى ملكت أُمورهم * فكيف بهذا والمشيرون غُيَّبُ

وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم * فغيرك أولى بالنبي وأقرب (6)

وبتلك المعايير والمبررات تمّت البيعة للخليفة ، والكلّ أشبه بالمكافحات الحزبيّة أو القبليّة التي لا تمّت إلى الإسلام وأهله بصلة.

فعند ذلك أخذ هؤلاء المهاجرون بزمام الحكم واحداً بعد واحد إلى أن تربّع ثالث القوم عثمان بن عفان على منصّة الحكم فحدثت في زمانه حوادث مؤلمة وبدع كثيرة أدّت إلى الفتك به والإجهاز عليه.

غير أنّ عليّاً صلوات اللّه عليه وبني هاشم وعدّة من المهاجرين والبدريين وعدّة من أكابر الأنصار تمسّكوا بالنصّ النبوي وبقوا على ما فارقهم رسول اللّه صلّى الله عليه وآله عليه ، كما أنّ رئيس الأنصار الخزرجيين وداعميه لم يبايعوا أبا بكر ولا عليّاً.

هذا تحليل تكوّن أوّل تفرّق حدث في الإسلام ; فجعل الأُمّة فرقتين : فرقة تشايع الخلفاء ، وفرقة تشايع عليّاً عليه السلام إلى اليوم الحاضر.

والذين شايعوا عليّاً عليه السلام وتابعوه لم يكن ذلك منهم إلّا تمسكاً بالدين مذعنين بأنّ النبي صلّى الله عليه وآله قد نصّ عليه من دون أن يكون هناك اندفاع حزبي أو علاقة شخصيّة أو قبليّة ، بل تسليماً لقوله سبحانه : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ). (7)

وأمّا غيرهم فقد عرفت المعايير التي استندوا إليها في تقديمهم على غيرهم ، فالكلّ معايير قبليّة أو شخصيّة.

الهوامش

1. راجع في تواتره وكثرة رواته في جميع العصور الإسلامية من عصر الصحابة إلى عصرنا هذا ، ودلالته على الولاية الكبرى للإمام أمير المؤمنين ، كتاب الغدير : الجزء الأوّل ، ولأجل ذلك طوينا الكلام عن نقل مصادره.

2. تاريخ الطبري : ج ٢ حوادث سنة ١١ ص ٤٥٦.

3. تاريخ الطبري : ج ٢ حوادث سنة ١١ ص ٤٥٧.

4. تاريخ الطبري : ج ٢ حوادث سنة ١١ ص ٤٥٨.

5. نهج البلاغة : الخطبة ٦٤.

6. نهج البلاغة ، طبعة عبده ، قسم الحكم ، الرقم١٩٠. وفي المطبوع تحريف ، والصحيح ما أثبتناه في المتن.

7. الأحزاب : الآية ٣٦.

مقتبس من كتاب : [ بحوث في الملل والنحل ] ، الجزء : 1 ، الصفحة : 51 إلى 54

 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية