صيغة الحكومة عند أهل السنّة

البريد الإلكتروني طباعة

بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج6 ، ص 169 ـ  195
________________________________________
(169)
الفصل السابع
صيغة الحكومة عند أهل السنّة

________________________________________
(170)
________________________________________
(171)
قد تعرّفت على صيغة الحكومة عند الشيعة، وحان البحث عن صيغتها لدى أهل السنّة، وأنّهم يختلفون عن الشيعة في شكل الحكومة بعد رسول اللّه، في أمرين:
الأوّل: فيما يتعلّق بجوهرها وصلبها وأساسها، فانّ الخلافة عند الشيعة إمرة إلهية، واستمرار لوظائف النبوّة كلّها، سوى تلقّي الوحي الإلهي، والامام نفس الرسول في الصلاحيات والوظائف غير أنّه ليس بنبىّ لأنّ النبوّة اُوصدت وختمت بالرسول... فلا نبيّ ولا رسول بعده، ولكن الوظائف كلّها مستمرّة فلأجل ذلك يجب أن يكون الامام قائماً بوظائفه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ المعنوية والمادية والعلمية والاجتماعية، ويسد الفراغات الحاصلة بوفاته، وقد عرفت قسماً منها، وكان الامام علي وعترته الطاهرة على هذا الوصف فكانوا خلفاءً إلهيّين عيّنهم الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لكن لم تسمح الظروف للقيام بجميع وظائفهم إلاّ لعلي بعد حرمانه من حقّه سنين متمادية، فلمّا استتبّت له الاُمور قام بنفس وظائف النبىّ، من غير فرق بين الاجتماعية منها والعلمية، وسد الفراغات الهائلة.
ولكن الخلافة عند أهل السنّة رئاسة دينية لتنظيم اُمور الاُمّة من تدبير الجيوش، وسد الثغور، وردع الظالم، والأخذ للمظلوم، وقسمة الفيء بين
________________________________________
(172)
المسلمين، وقيادتهم في حجّهم وغزوهم(1) .
ولأجل اختصاص وظائف الامام بهذه الاُمور السياسية لا تشترط فيه العصمة، ولا الاحاطة بالشرع اُصوله وفروعه، بل يكفي فيه المقدرة لتدبير الاُمور، وقطع كيد الاُعداء، وتسهيل الحياة للاُمّة فعلى ذلك، فلا تتجاوز وظائفه عن الوظائف المخوّلة للحكومات الحاضرة، غير أنّه يجب أن يكون مؤمناً باللّه ورسوله وقائماً بالوظائف الفردية، ولا يعزل عن مقامه بالخروج عن الطاعة واقتراف المعصية حسب ما ذكروه في محلّه(2) .
وهذا الاختلاف بين الفريقين يرجع إلى تفسير جوهر الامامة وحقيقتها ويتفرّع على ذلك خلاف آخر وهذا هو الّذي نذكره في الأمر التالي .
الثاني: انّ الامام عند الشيعة يعيّن من جانب اللّه سبحانه ويبلّغ بواسطة الرسول، وأمّا الامام عند أهل السنّة، فقد فوّض أمر انتخابه إلى الاُمّة على وجه الاجمال ولم تذكر خصوصياته على وجه التفصيل، والّذي يظهر من مجموع كلامهم، انّ الامامة تنعقد عن طريق الشورى، واختيار أهل الحل والعقد أوّلا، وبتعيين الامام السابق ثانياً، وبالغلبة ثالثاً(3) .
قال الماوردي: الامامة تنعقد بوجهين:
أحدهما: باختيار أهل الحل والعقد .
والثاني: بعهد الامام من قبل(4) .
________________________________________
1 . قد لخّص الماوردي مسؤوليات الامام في عشرة، لاحظ الأحكام السلطانية 15 ـ 16 .
2 . التمهيد للباقلاني (ت 403 هـ) 181 .
3 . الماوردي: الأحكام السلطانية 6 والتفتازاني: شرح مقاصد الطالبين في علم اُصول عقائد الدين 272 طبع مصر .
4 . الأحكام السلطانية 4 .
________________________________________
(173)
وقال العضدي: إنّها تثبت بالنص من الرسول، وفي الامام السابق بالاجماع، وتثبت ببيعة أهل العقد والحل(1) .
ثمّ إنّهم اختلفوا في عدد من تنعقد بهم الامامة على مذاهب شتّى، فقالت طائفة: لا تنعقد الامامة إلاّ بجمهور أهل العقد والحل من كل بلد ليكون الرضا به عامّاً.
وقالت طائفة: اقل ما تنعقد به منهم خمسة، بشهادة أنّ بيعة أبي بكر انعقدت بخمسة وهم عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة الجرّاح، واسيد بن حضير، وبشر بن سعد، وسالم مولى أبي حذيفة .
وقال آخرون: تنعقد بثلاثة، يتولاّها أحدهم برضا الاثنين، ليكونوا حاكماً وشاهدين، كما يصحّ عقد النكاح بولي وشاهدين .
وقالت طائفة اُخرى: تنعقد بواحد، لأنّ العباس قال لعلي: امدد يدك اُبايعك، فيقول الناس عم رسول اللّه بايع ابن عمّه فلا يختلف عليك اثنان، ولأنّه حكم وحكم الواحد نافذ(2) .
إنّ هذا الاختلاف الهائل فيما تنعقد به الامامة، ناجم عن القول بأنّ أمر الخلافة مفوّض إلى الاُمّة مع عدم النص على أصل التفويض ولا على خصوصياته. وهذا من عجيب الأمر، حيث إنّ النبىّ يفوّض ذلك الأمر الحيوي إلى الاُمّة، ولا يتكلّم بأصل التفويض ولا خصوصياته، فيترك الاُمّة في حيرة.
وقد وقف على ذلك، الكاتب المصري الخضري، قال: لم يرد في الكتاب أمر صريح بشكل انتخاب خليفة لرسول اللّه، اللّهمّ تلك الأوامر العامة الّتي تتناول
________________________________________
1 . شرح المواقف 3 / 265 .
2 . الأحكام السلطانية 4 .
________________________________________
(174)
الخلافة وغيرها، مثل وصف المسلمين بقوله تعالى: (وَأمْرُهُمْ شورى بَينَهُمْ)(1) .
وكذلك لم يرد في السنّة بيان نظام لانتخاب الخليفة، إلاّ بعض نصائح تبعد عن الاختلاف والتفرّق، كأنَّ الشريعة أرادت أن تكل هذا الأمر للمسلمين حتّى يحلّوه بأنفسهم، ولو لم يكن الأمر كذلك لمهّدت قواعده واُوضحت سبله، كما اُوضحت سبل الصلاة والصيام(2) .
إنّ ما ذكره الخضري لا يسمن ولا يغني من جوع، لأنّ الحكومة بعد النبي الأكرم كانت من عظائم الاُمور فلا يخطر ببال أحد أن يكتفي الرسول بجميع تفاصيلها وخصوصياتها الّتي لم تمارسها الاُمّة ولا ذاقتها طوال حياته بآية الشورى وهذا أشبه بالاكتفاء في اقامة الصلاة بالمجملات الواردة في نص الكتاب.
«كيف يخطر ببال أحد أن يهمل الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ القيادة السياسية للدولة الإسلامية الّتي أسّسها، وثبّت عناصرها، ومرتكزاتها، فلم يضع قاعدة معيّنة للخلافة كما زعموا، مع العلم بأنّ القيادة بالنسبة للدولة كالرأس من الجسد، وكالقلب من سائر الأعضاء والجوارح. أيهمل القيادة والرئاسة للدولة، ولا يتكلّم عنها بنفي أو اثبات؟ أيهملها ويتركها نهباً لأصحاب المطامع، والمطامح، والأهواء، ولشهوات أصحاب القوّة والفساد في الأرض؟ فتعود بذلك بعد موته، الجاهلية، وعبادة الطواغيت، بعد أن عان وأصحابه ما عانوا من متاعب، ومشقّات، وما قدّموه من تضحيات غالية وعزيزة للخلاص من أوبائها وتحرير العباد من فحشائها؟ أيتركها لتكون سبباً لإراقة الدماء وازهاق الأرواح؟ وهو المرسل رحمة لا نقمة للعالمين، ونوراً وهدىً للحائرين والضالّين .
________________________________________
1 . الشورى / 38 .
2 . محاضرات في تاريخ الاُمم الإسلامية 2 / 161 .
________________________________________
(175)
حاشاه حاشاه لقد وضع لاُمّته وبوحي من ربّه العليم الخبير كل قواعد واُسس الحياة الإنسانية بمجالاتها الواسعة، ولم يهمل حتّى آداب الأكل والشرب ولبس النعال وحتّى آداب التبوّل والتبرّز، ووضّح لاُمّته معالم الحياة الرفيعة الراقية وفي مقدّمتها الحياة السياسية، ورأسها المفكر وقلبها النابض، هو القيادة المعروفة في لغة القرآن والسنّة باسم ـ الامامة و الخلافة - والملك والسلطان - وبذلك نزلت البشرى من عالم الغيب والشهادة باكمال الدين، واتمام النعمة، والرضى بالاسلام قال تعالى: (اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ و أتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً) ـ المائدة / 3 ـ (1) .
لو كانت صيغة الحكومة قائمة على أساس الشورى، وكانت هي طريقاً لتعيين الحاكم، كان من الضروري أن يقوم النبي بتوعية الاُمّة، وايقافها بصورة واسعة على حدود الشورى وتفاصيلها وخطوطها العريضة، حتّى لاتتحيّر الاُمّة ولا تختلف في أمرها، ولكنّا رغم هذه الأهمية القصوى، لا نجد لهذه التوعية الضرورية أي اثر في الكتاب والسنّة في مجال انتخاب الحاكم. أجل إنّ مقتضى كون الدين الاسلامي ديناً خاتماً هو التعرّض لصلب الموضوع مُوكِلا شكله إلى نظر الاُمّة، حتّى يتماشى مع جميع العصور. ولا نعني من هذا أنّه يجب على الشارع اعطاء كل التفاصيل والخصوصيات الراجعة إلى الشورى، غير أنّ هناك اُموراً ترجع إلى جوهر الشورى وصميمها، فلا يصحّ للشارع أن يترك بيانها، إذاً هناك أسئلة تطرح نفسها في المقام لا يمكن الوقوف على أجوبتها، إلاّ عن طريق الشرع، وهي:
1- من هم المشاركون في الشورى، فهل العلماء وحدهم أو السياسيون وحدهم أو الضبّاط والعساكر وحدهم، أو المختلط منهم؟
________________________________________
1 . الزيدية نظرية وتطبيق تأليف علي بن عبدالكريم 102 ـ 103 طبع عمان 1405 .
________________________________________
(176)
2- من هم الذين يختارون أهل الشورى؟
3- لو اختلف أهل الشورى في شخص أو أمر، ما هو الملاك لتقديم رأي على آخر؟ إلى غير ذلك من الأسئلة المطروحة الّتي ترتبط بنظام الشورى المجمل، ولا يستطيع أحد أن يجيب عنها إلاّ رجماً بالغيب .
ثم إنّ القوم ربّما يعبّرون عن صيغة الحكومة باتّفاق أهل الحل والعقد، وهذه الكلمة أشد غموضاً من السابقة إذ لا يعرف الإنسان من هم أهل الحل والعقد، وماذا يُحلِّون وماذا يعقِدون؟ أهم أصحاب الفقه والرأي الذين يرجع إليهم الناس فيما ينوبهم من حوادث؟ وهل هناك درجة معيّنة من الفقه والعلم إذا بلغها الإنسان صار من أهل الحل والعقد؟ ما هي تلك الدرجة؟ وبأي ميزان توزن؟ ولأجل هذه الابهامات حول نظام الشورى أوّلا، وأهل الحل والعقد ثانياً، تنبّه بعض دكاترة العصر إلى وهن هذه النظرية .
قال الدكتور طه حسين: لو كان للمسلمين هذا النظام المكتوب أي نظام الشورى، لعرف المسلمون في أيام عثمان ما يأتون من ذلك، وما يدعون، دون أن تكون بينهم فرقة أو اختلاف .
وقال الخطيب: إنّ كلمة أهل العقد والحل لأغمض غموضاً من كلمة الأفراد المسؤولين(1) .
كل ذلك يعرب عن أنّ مسألة نظام الشورى انّما اخترعها المتقمّصون للخلافة في أيام الأمويين .
________________________________________
1 . الخلافة والامامة للخطيب عبدالكريم 271 .
________________________________________
(177)
آيتان حول الشورى:
إنّ القائلين بكون صيغة الحكم بعد رحلة الرسول الأعظم ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ هو الشورى، استدلّوا بأمرين:
1- الآيتان الواردتان حول الشورى .
2- انّ خلافة الخلفاء تمّت بالشورى .
ونحن نبحث عن كلا الموضوعين بوجه موجز، ونحيل التفصيل إلى الموسوعات الكلامية، وإليك الآية الاُولى وتحليلها:
1- (فَبِما رَحْمَة مِنَ اللّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ واستَغْفِرْ لَهُمْ وشاوِرْهُمْ فِى الأمْرِ فإذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ)(1) .
إنّ الاستدلال بها سببه الغفلة عن موردها ومضمونها فإنّ الخطاب فيها موجّه إلى الحاكم الّذي فرضه سبحانه حاكماً على الاُمة، فيأمره أن يشاور أفراد الاُمّة فلا صلة للآية بالمدعى. فإنّ أقصى ما تفيده الآية هو أن لا يكون الحاكم الاسلامي الّذي تمّت سلطته، مستبدّاً في أعماله، وأمّا أنّ الامام، يتعيّن عن طريق الشورى فالآية لا تدل عليه، والّذي يؤكّد ما قلناه انّه يأمر النبىّ بعد المشاورة. بالتوكّل عند العزم. وأنّ له الرأي النهائي والأخير .
والحاصل: انّ الآية خطاب للحاكم الاسلامي وأنّ عليه المشورة أوّلا وأخذ التصميم النهائي ثانياً، وأمّا أنّ الحاكم الاسلامي يتعيّن من جانب الشورى، فالآية أجنبية عنه فانّ الخطاب في الآية للحاكم لا لغيره .
وأمّا الآية الثانية: أعني قوله سبحانه في صفات المؤمنين: (وأمْرُهُمْ)
________________________________________
1 . آل عمران / 159 .
________________________________________
(178)
شُورى بَيْنَهُمْ))(1) فهي تحثّ المؤمنين إلى المشورة في جميع الاُمور المرتبطة بهم وأمّا أنّ أمر الخلافة والولاية، من الاُمور المرتبطة بهم فلا تظهر من الآية. والتمسّك بها في مثل هذا المقام المردّد بين كونه من اُمور المؤمنين أو ممّا يرجع إلى اللّه ونبيّه تمسّك بالعام عند الشبهة المصداقية.
وبعبارة اُخرى: انّ الامامة لو كانت أمراً إلهيّاً. متوقّفاً على ولاية مفاضة من اللّه سبحانه إلى الولي يكون من الأمور المربوطة باللّه ورسوله، وأمّا لو كانت امرة عرفية وولاية شعبية تكون من الاُمور المتعلّقة بالمؤمنين وفي مثله حيث الأمر مردّد لا يمكن التمسّك بالعموم واثبات انّ الولاية من شؤون المؤمنين .
أضف إلى ذلك أنّه لو كان أساس الحكم في الإسلام هو الشورى لوجب على الرسول الأكرم بيان تفاصيلها وخصوصياتها وخطوطها العريضة. على ما عرفت تفصيلا .
ولأجل عدم وجود أىّ ايضاح من قبل النبىّ حول النظام المذكور، التجأ الكاتب المصري إلى رفض أن يكون ذلك أساساً للحكم وانّما كانت تجربة من المسلمين بعد رحلة الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ .
يقول: «ينظر بعضهم إليه على انّه (أي تعيين الامام بالشورى) نواة صالحة لأوّل تجربة، وانّ الأيام كفيلة بأن تنميها وتستكمل ما يبدو فيها من نقص فلم تكن الأحوال الّتي تمّت فيها هذه التجربة تسمح بأكثر ممّا حدث، إذ لم يكن من المستطاع ـ حينذاك الوقوف على رأي الاُمّة كلّها، فرداً فرداً ـ فيمن يخلف النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وينظر بعض آخر إلى هذا الاسلوب بأنّه اُسلوب بدائي عالج أهم مشكلة في الحياة وقد كان لهذا الاسلوب أثر في تعطيل القوى المفكرّة
________________________________________
1 . الشورى / 38 .
________________________________________
(179)
للبحث عن اسلوب آخر من أساليب الحكم الّتي جربتها الاُمم»(1) .
ومعنى ذلك أنّ الرسالة العالمية الخاتمة لجميع الرسالات قد أهملت هذا الجانب المصيري في حياة الاُمّة، وانّه اهتمّ بكل صغير وكبير سوى هذا الأمر الخطير الّذي به يناط بقاء الإسلام واستمراره. علماً انّ الظروف كانت مساعدة لوصول ذلك ولا مانع يعترض الطريق .
خلافة الخلفاء ومسألة الشورى:
هذا كلّه حول الدليل الأول وأمّا الدليل الثاني. وهو انّ خلافة الخلفاء تمّت عن هذا الطريق فهو أوهن وأضعف من الأوّل فمن قرأ تاريخ السقيفة وانتخاب الخلفاء الثلاثة يقف على أنّه لم يكن هناك اي مشورة ولا استشارة وانّما تمّت خلافة الأول في جوّ إرهابي وفي محفل ساد فيه، السب والشتم والضرب. إلى غير ذلك من الأفعال الشنيعة الّتي لا تليق بمجلس كهذا .
كما أنّ خلافة الثاني تمّت بتنصيص من الخليفة الأول وانّه استبدّ بالأمر ولم يدع مجالا للاُمّة .
وأمّا خلافة الثالث فهي وإن كانت مصبوغة بصبغة الشورى ولكن الخليفة هو الّذي عيّن اعضاء الشورى واستبدّ بالأمر وعيّن المرشحين للخلافة بل كان ما قام به يؤدي إلى تعيّن الخليفة. ومثل ذلك لا ينطبق عليه شروط الشورى وانّما كان استبداداً في لباس الحرية .
وإن كنت في شك ممّا تلوناه عليك فلندرس تاريخ انتخاب الخلفاء عن كثب.
________________________________________
1 . الخلافة والامامة: عبدالكريم الخطيب 272 .
(180)
1- السقيفة وخلافة أبي بكر:
توفّي رسول اللّه وكان أبوبكر خارج المدينة فقام عمر بن الخطاب فقال: إنّ رجالا من المنافقين يزعمون أنّ رسول اللّه قد توفّي، وانّ رسول الله ما مات، ولكن ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى بن عمران فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل أنّه قد مات فواللّه ليرجعنّ رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ عمّا رجع موسى وليقطعنّ أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنّ رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ مات فما زال عمر يتكلّم حتّى أزبد شدقاه. فقال العباس: إنّ رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يأسن كما يأسن البشر. وانّ رسول اللّه قد مات فادفنوا صاحبكم أيميت أحدكم إماتة ويُميته إماتتين؟ هو أكرم على اللّه من ذلك فان كان كما تقولون فليس على اللّه بعزيز أن يبحث عنه التراب فيخرجه إن شاء اللّه .
وما زال الجدال مستمرّاً بين عمر والعباس وشاركهم سائر المسلمين إلى أن نزل أبوبكر من السُنح فسمع مقالة عمر فدخل البيت فكشف عن وجه النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فقبّله وقال: بأبي أنت واُمّي طبت حيّاً وميّتاً والّذي نفسي بيده لا يذيقك اللّه الموتتين أبداً(1). ثم خرج فقال: على رِسْلِك يا عمر. فجلس عمر. فحمداللّه أبوبكر وأثنى عليه ثم قال: ألا من كان يعبد محمّداً فإنّ محمّداً قد مات، ومن كان يعبد اللّه فانّ اللّه حىّ لا يَمُوت وقال: (إنّكَ مَيِّتٌ وإنَّهُمْ مَيِّتُونَ))وقال: (وما مُحَمَّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبلِهِ الرُّسُلُ أفَاِنْ ماتَ أوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً و سَيَجْزِى اللّهُ الشّاكرِينَ)) فتشنّج الناس. فقال عمر: واللّه ما هو إلاّ أن
________________________________________
1 . أين الوهابيون من موقف الخليفة هذا، حيث أخذ يخاطب النبي وهو ميّت، ويقبّله ويتبرّك به، ويقول بأبيه واُمّه له .
________________________________________
(181)
سمعت أبابكر تلاها فدهشت حتّى وقعت إلى الأرض، وعرفت أنّ رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قد مات(1) .
نقاش مع الخليفة:
هناك تساؤلات تطرح نفسها ولعلّه كان عند الخليفة أجوبة لها أو أنّ القارئ، يتفطّن للاجابة عنها وهي:
1- انّ موت النبي الأكرم ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لم يكن فُجائيّاً بل كان بعد مرض ألمّ به عدّة أيام فكانت القرائن والشواهد تدل على أنّه قد دنى فراقه للاُمّة وقد صرّح بذلك في غير واحد من أصحابه، آخرها طلبه للقلم والدواة وكتابة الصحيفة والوصية للاُمّة حتّى لا تضلّ الاُمّة من بعده وقد حال الخليفة الثاني بين النبي واُمنيته وقال ما قال(2) .
وعندئذ فكيف أذعن بأنّ النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ما مات وإنّما غاب كغيبة موسى وقد أصرّ على ذلك حتّى ازبد شدقاه ولم يكن بين الصحابة من يدافع عن تلك العقيدة. سوى نفسه .
فهل كان الخليفة موقناً بذلك جدّاً أو أنّه كان له في تبنّي هذه الفكرة (لساناً لا قلباً) هدفاً سياسيّاً يخبّىء فيه مصالحه أو مصالح الاُمّة؟
2- هل كانت الغيبة سنّة رائجة بين جميع الأنبياء أو كانت من مختصّات بعض الأنبياء كالكليم ونحوه. ولو صحّ الثاني كما هو الحق فما هو الوجه في الحاقه بالنادر؟
________________________________________
1 . السيرة النبوية: ابن هشام 655، الطبقات الكبرى 2 / 268 ـ 269 .
2 . البخاري: الصحيح، كتاب العلم 1 / 22 و ح 2 / 14 .
________________________________________
(182)
3- نرى أنّ عم النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ العباس، واجهه بما واجه به أبوبكر وهو أنّ النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أكرم من أن يُميته سبحانه موتتين. مع أنّه لم يقتنع بكلامه بل اقتنع بما ذكره أبوبكر .
4- انّه مصرّاً على الغيبة مادام ابو بكر غائباً عن المدينة، فلمّا نزل من السُنح وأدلى بمقاله سرعان ما تراجع عن موقفه، وأىّ سرّ كان في هذا الرجوع السريع عن فكرة كان يستميت في الدفاع عنها؟
5- كيف يقتنع القارئ بأنّ الخليفة لم يكن ذاكراً قوله سبحانه (إنَّك ميّت وإنّهم ميّتون)) وقوله سبحانه: (وما محمّد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل))وغيرهما؟
هذه الأسئلة لم نجد لها أجوبة شافية ومن المحتمل جداً أن يكون وراء الكواليس شيئاً ما. وأن تكون اطروحة الغيبة مناورة سياسية، الغاية منها منع المسلمين من اتّخاذ أىّ موقف في المسائل المصيرية للاُمّة حتّى يجيء أبوبكر من السُنح ويجتمعا على رأي واحد. ولأجل ذلك تنازل عن موقفه بعد ما جاء أبوبكر من خارج البلد. فاتّخذا موقفاً واحداً، تجاه المسائل المصيرية .
مأساة السقيفة:
كان علي بن أبي طالب وجمهور المهاجرين منهمكين في تجهيز النبي فوقف الخليفتان على اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة للتداول في مسألة الخلافة. فقال عمر لأبي بكر: انطلق بنا إلى اخواننا هؤلاء من الأنصار ما هم عليه فدخلا ومعهما بعض المهاجرين كأبي عبيدة بن الجراح وكان خطيب الأنصار ونقيبهم سعد بن عبادة يخطب ويحث الأنصار على الأخذ بمقاليد الخلافة بحجّة أنّهم آووا النبي الأكرم عندما أخرجه قومه. وضحّوا في سبيل دعوته بكل غال ورخيص .
________________________________________
(183)
فلمّا أتمّ كلامه ابتدأ أبوبكر بالبحث والكلام فاستند إلى أنّ اللائق بالخلافة هو قوم النبي وقبيلته بحجّة أنّهم أوسط العرب داراً وأحسنهم احساباً ولم يكتف بذلك حتّى أخذ بيد عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح ورشحهما للبيعة .
ترى أنّ الطائفتين اتّخذوا في حل مشكلة الخلافة قواعداً كانت سائدة في عصر الجاهلية فالأنصارترى نفسها أحق بالخلافة لحمايتها النبي الأكرم وتقديم المأوى له، وأمّا هؤلاء الحاضرون من المهاجرين فاحتجّوا بمثل ما احتجّت به الأنصار وهو أنّ قريش أوسط داراً وأحسن نسباً .
ولم يكن هناك من يذكّر ويوقفهم على أنّ الإسلام عصف بهذه الأساليب من الاحتجاجات وحطّم أحكام الجاهلية(1)
فلو كان هناك مشورة اسلامية كان عليهم أن يتفحّصوا عن أعلم القوم بالكتاب والسنّة وأكثرهم دراية بهما. وأسوسهم وأخشنهم في ذات الله وأسبقهم إلى الايمان والإسلام. كما هو الوارد عن الكتاب والسنّة قال سبحانه: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الاَْرضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وآتَوُاْ الزَّكَاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ ونَهَوْاْ عَنِ المُنكَرِ وللهِ عَاقِبةُ الاُمُورِ)(2).
وقال النبي الأكرم لا تصلح الإمامة إلاّ لرجل فيه خصال ثلاث:
1- ورع يحجزه عن معاصي اللّه .
2- وحلم يملك به غضبه .
3- وحسن الولاية على من يلي حتّى يكون كالأب الرحيم(3) .
________________________________________
1 . لاحظ: في الوقوف على احتجاج الطائفتين، السيرة النبوية لابن هشام 2 / 659، والطبقات الكبرى لابن سعد 2 / 269 وتاريخ الطبري 2 / 442 ـ 446 .
2 . الحج / 41 .
3 . الكافي للكليني 1 / 407 .
________________________________________
(184)
وقال الامام علي: «أيّها الناس إنّ أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه، وأعلمهم بأمر اللّه فإن شغب شاغب استعتب فإن أبي قوتل»(1) .
وقال ـ صلوات اللّه عليه ـ أيضاً عندما قال قائل كلام «إنّك على هذا الأمر يابن أبي طالب لحريص، فقلت: بل أنتم واللّه لأحرص وأبعد، وأنا أخصّ وأقرب، وانّما طلبت حقاً لي وأنتم تحولون بيني وبينه وتضربون وجهي(2) .
وقال الامام السبط الطاهر الحسين بن علي ـ عليهما السلام ـ فما الامام إلاّ الحاكم بالكتاب، الدائن بدين الحق، القائم بالقسط، الحابس نفسه على ذات اللّه(3) .
وأين هذه الملاكات والضوابط ممّا جاء في احتجاجات المهاجرين والأنصار وكأنّهم لم يسمعوا قول اللّه سبحانه: (أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّالِحُون)(4) .
ما سمعت من الكلمات، كانت احتجاجاتهم وشعاراتهم في نادي السقيفة وأمّا ما قاموا به من الأعمال المخزية أو ما صدر منهم من الضرب والسباب، فحدّث عنه ولا حرج. وبذلك تقف على أنّه لم تكن هنا أي مشورة، ولا تلاقح فكري وانّما كان أشبه بملعب يتسابق فيه الجميع لأخذ كرة الخلافة بأىّ طريق حص وإن كنت في شك منها فاستمع لما نتلوه عليك من المصادر الموثقة .
هذا الحباب بن المنذر الصحابي البدري الأنصاري قد انتضى سيفه على أبي بكر وكان داعياً إلى قيادة الأنصار وقال: «واللّه لا يرد عليَّ أحد ما أقول إلاّ
________________________________________
1 . نهج البلاغة، قسم الخطب برقم 173 .
2 . نهج البلاغة، قسم الخطب برقم 172 .
3 . روضة الواعظين 206 .
4 . الأنبياء / 105 .
________________________________________
(185)
حطّمت أنفه بالسف، أنا جُذيلها المحكّك (أصل الشجرة) وعُذيقها المرجَّب (النخلة المشتملة بالتمر) أنا أبو شبل في عرينة الأسد، يعزى إلىّ الأسد»(1) .
وهو بكلامه هذا يتهدّد كل من يحاول اخراج القيادة من الأنصار واقرارها لغيرهم .
وها هو آخر (وهو سعد بن عبادة) يخالف مبايعة أبي بكر وينادي: «أنا أرميكم بكل سهم في كنانتي من نبل، وأخضب منكم سناني ورمحي، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي واُقاتلكم مع من معي من أهلي وعشيرتي»(2) .
وها هو ثالث يتذمّر من تلك البيعة ويشب نار الحرب بقوله: «إنّي لأرى عجاجة لا يطفئها إلاّ الدم»(3) .
وهذا هو سعد بن عبادة أمير الخزرج الّذي طلب أن تكون الخلافة في الأنصار يداس بالأقدام، وينزى عليه وينادى عليه بغضب: «اقتلوا سعداً قتله اللّه إنّه منافق أو صاحب فتنة» وقد قام عمر على رأسه ويقول: «لقد هممت أن أطأك حتّى تندر عضوك أو تندر عيونك»(4) .
فإذا بقيس بن سعد يأخذ بلحية عمر ويقول: «واللّه لو حصصت منه شعرة ما رجعت وفي فيك واضحة! أو لخفضت منه شعرة ما رجعت وفي فيك جارحة»(5) .
وهذا نفس عمر بن الخطاب يصف تلك المشاجرة بقوله: «كثر اللغط
________________________________________
1 . شرح ابن أبي الحديد 2 / 16 .
2 . الغدير 7 / 76 .
3 . الامامة والسياسة 1 / 11، تاريخ الطبري 3 / 210 .
4 . مسند أحمد 1 / 56، تاريخ الطبري 3 / 210، وغيرهما .
5 . تاريخ الطبري 3 / 210، السيرة الحلبية 3 / 387 .
________________________________________
(186)
وارتفعت الأصوات حتّى تخوّفت الاختلاف، فقلت: ابسط يديك يا أبابكر، فبسط يده، فبايعته، ثم بايعه المهاجرون، ونزونا على سعد بن عبادة، فقال قائل منهم: قتلتم سعد بن عبادة، فقلت: قتل اللّه سعد بن عبادة»(1) .
إنّ الشورى الإسلامية حسب ما توحي كلمتها السامية، لا تنعقد إلاّ بدارسة الموضوع دراسة موضوعية واقعية، وأن تكون هناك حرّية في الرأي والنظر، ونزاهة في الكلام، ويقوم مندوب كل جماعة بإدلاء رأيه بدليل وبرهان، وربّما تتطلّب دراسة مثل ذلك الموضوع الحيوي عقد مجالس متعدّدة حتّى يصل من خلالها المسلمون إلى الأمثل فالأمثل في موضوع القيادة، وأمّا المجلس الّذي تسل فيه السيوف على المخالف، ويداس المقابل بالأقدام، فهذا أشبه بميدان الحرب والقتال لا المفاهمة والمشاورة، بل أشبه...
هذا حال السقيفة وأمّا ما جرى بعد السقيفة فحدّث عنه ولا حرج، فقد خرج الخليفة من السقيفة مع من بايعوه فلم يلاقوا أحداً في الطريق إلاّ وضعوا يده على يد الخليفة بيعة له .
ثمّ إنّ علياً وجماعة معه كانوا متخلّفين عن البيعة، ولمّا كان تخلّفه ومن معه من أصحابه اخلالا بالبيعة، بعث أبوبكر عمر بن الخطاب إلى بيت علي وفاطمة، ليتهدّدوا اللائذين به، الممتنعين عن مبايعته، وقال له: إن أبوا فقاتلهم، وأتى عمر إلى بيت فاطمة وهو يقول: واللّه لنحرقنّ عليكم أو لتخرجنّ إلى البيعة، فقالت فاطمة لمّا سمعت ذلك صائحة منادية: «يا أبت يا رسول اللّه ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة»(2) .
________________________________________
1 . السيرة النبوية لابن هشام 2 / 660 .
2 . تاريخ الطبري 3 / 210، الامامة و السياسة لابن قتيبة 1 / 13 .
________________________________________
(187)
ثمّ بعد هنّ وهنات اُخرج الامام من بيته، وقادوه إلى البيعة كما يقاد البعير المخشوش، وسيق سوقاً عنيفاً، وقالوا له: بايع، فيقول: «إن أنا لم أفعل فمه؟»
فيقال: واللّه الّذي لا إله إلاّ هو نضرب عنقك، فقال علي: «إذن تقتلون عبداللّه وأخا رسول اللّه»(1).
ولم يكن الضغط منحصراً في علي، بل لمّا سمع الزبير ما جرى في السقيفّة سلّ سيفه وقال: لا أغمده حتّى يبايع علي، فيقول عمر: عليكم الكلب، فيؤخذ سيفه من يده، ويضرب به الحجر فيكسر(2) .
هذه صورة اجمالية وضعناها أمام القارئ ليقف على مدى صحّة الشورى الّتي بنيت عليها خلافة الخليفة الأوّل، ثمّ هو عقد الخلافة بنفسه لعمر من دون أي مشاورة للمسلمين(3) كما فوّض الثاني أمر الخلافة إلى ستّة وقد استبدّ في تعيينهم من دون مشورة، وليس هذا شيئاً ينكر أو يشك فيه(4) .
وقد بلغت فضاحة الأمر في السقيفة إلى حدّ يصفه عمر بقوله: كانت بيعة أبي بكر فلتة كفلتة الجاهلية وقى اللّه المسلمين شرّها. أو قال: كانت بيعة أبي بكر فلتة فتمّت، وأنّها قد كانت كذلك إلاّ أنّ اللّه قد وقى شرّها، فمن بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين، فانّه لا بيعة له(5) .
________________________________________
1 . الامامة والسياسة 1 / 13 .
2 . تاريخ الطبري 3 / 199، الامامة والسياسة 1 / 11 .
3 . سيأتي مصدره .
4 . سيأتي مصدره .
5 . السيرة النبوية 2 / 658، تاريخ الطبري 2 / 446 .
________________________________________
(188)
الخلفاء وتناسي الشورى:
قد درسنا كيفية انعقاد الامامة لأوّل الخلفاء هلمّ معي ندرس خلافة غيره، فسوف ترى أنّه لم يكن هناك أىّ مشورة ولا أىّ استفتاء شعبي، ولا أىّ ديمقراطية كما يدّعيها بعض الكتّاب المعاصرين .
روى المؤرّخون: انّه دعا أبوبكر عثمان بن عفان، فقال: اكتب عهدي، فكتب عثمان وأملى عليه: بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا ما عهد به أبوبكر بن أبي قحافة آخر عهده بالدنيا، نازحاً عنها، وأوّل عهده بالآخرة داخلا فيها، إنّي أستخلف عليكم عمر بن الخطاب...(1) .
والإنسان عندما يقرأ هذه الصفحة من التاريخ، يقف على قيمة ما ذكره الامام، عندما رفعوا السيف على رأسه ليبايع أبابكر، فقال: «احلب يا عمر حلباً لك شطره، اُشدد له اليوم أمره، ليردّه عليك غداً، ألا واللّه لا أقبل قولك ولا اُبايع»(2) فواللّه، لقد تحقّق قول الامام حيث ردّ عليه الأمر من بعد، كما عرفت .
وهذا عمر بن الخطّاب، فبعدما جرح ودنا أجله قال: سأستخلف النفر الذين توفّي رسول اللّه وهو عنهم راض، فأرسل إليهم فجمعهم وهم: علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفّان، وطلحة، والزبير بن العوّام، وسعد بن أبي وقّاص، وعبدالرحمان ابن عوف، وكان طلحة غائباً .
فقال: يا معشر المهاجرين الأوّلين، إنّي نظرت في أمر الناس فلم أجد فيهم شقاقاً ولا نفاقاً فإن يكن بعدي شقاق ونفاق فهو فيكم فتشاوروا ثلاثة أيّام، فإن جاءكم طلحة إلى ذلك وإلاّ فأعزم عليكم أن لا تتفرّقوا من اليوم الثالث حتى
________________________________________
1 . الامامة والسياسية لابن قتيبة 18، الكامل في التاريخ 2 / 425 .
2 . الامامة والسياسة 23، الكامل 3 / 35 .
________________________________________
(189)
تستخلفوا أحدكم.
ثم قال لصهيب: «صلّ بالناس ثلاثة أيّام وأدخل هؤلاء الرهط بيتاً وقم على رؤوسهم فإن اجتمع خمسة وأبى واحد فاشدخ رأسه بالسف...وإن اتّفق أربعة وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما... فان رضى ثلاثة رجلا وثلاثة رجلا، فحكّموا عبداللّه بن عمر فإن لم يرضوا بحكم عبداللّه بن عمر، فكونوا مع الذين فيهم عبدالرحمان بن عوف واقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع عليه الناس»(1) .
«فلما دفن عمر جمعهم أبو طلحة ووقف على باب البيت بالسيف في خمسين من الأنصار، حاملي سيوفهم ثم تكلّم القوم وتنازعوا فأوّل ما عمل طلحة أنّه أشهدهم على نفسه أنّه قد وهب حقّه من الشورى لعثمان، وذلك لعلمه أنّ الناس لا يعدلون به عليّاً وعثماناً، وانّ الخلافة لا تخلص له وهما موجودان فأراد تقوية أمر عثمان وإضعاف جانب علي ـ عليه السلام ـ بهبة أمر لا انتفاع له به ولا تمكّن له منه.
ولمّا رأى الزبير أنّ علياً قد ضعف، وانخذل بهبة طلحة حقه لعثمان دخلته حميّة النسب فوهب حقه من الشورى لعلي. لأنّه ابن عمّته، وهي صفية بنت عبدالمطلب وأبو طالب خاله .
وقال سعد بن أبي وقاص: أنا قد وهبت حقي من الشورى لابن عمي عبدالرحمان وذلك لأنّهما من بني زهرة ولعلمه أنّ الأمر لا يتم له .
فلما لم يبق إلاّ الثلاثة: علي وعثمان وعبدالرحمان ولكل واحد صوتان وبما أنّ عمر بن الخطاب قال في وصيته لأبي طلحة الأنصاري: بأنّه إذا تساوت الآراء فرجّح الفئة الّتي فيها عبدالرحمان بن عوف. ومن المعلوم أنّ عبدالرحمان ما كان يميل إلى علي ويترك نفسه أو صهره عثمان، ولأجل ذلك قام بلعبة اُخرى يريد بها
________________________________________
1 . تاريخ الطبري 3 / 294 .
________________________________________
(190)
حرمان علي.
فقال عبدالرحمان لعلي وعثمان: أيّكما يخرج نفسه من الخلافة ويكون إليه الاختيار في الاثنين الباقيين؟ فلم يتكلّم منهما أحد، فقال عبدالرحمان: اشهدكم انّني قد أخرجت نفسي من الخلافة على أن أختار أحدكما، فامسكا فبدأ بعلي ـ عليه السلام ـ وقال له: اُبايُعك على كتاب اللّه وسنّة الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وسيرة الشيخين: أبي بكر وعمر، فقال: بل على كتاب اللّه وسنّة الرسول واجتهاد رأيي، فعدل عنه إلى عثمان فعرض عليه ذلك، فقال: نعم فعاد إلى علي ـ عليه السلام ـ فأعاد قوله، وفعل ذلك عبدالرحمان ثلاثاً، فلمّا راى أنّ علياً غير راجع عمّا قاله وأنّ عثمان يَنْعم له بالاجابة صفّق على يد عثمان، وقال: السلام عليك يا أميرالمؤمنين، فيقال: إنّ عليّاً ـ عليه السلام ـ قال له: واللّه ما فعلتها إلاّ لأنّك رجوت منه ما رجاه صاحبكما من صاحبه دقَّ اللّه بينكما عطر «منشم» .
قيل: ففسد ذلك بين عثمان وعبدالرحمان فلم يكلّم أحدهما صاحبه حتّى مات عبدالرحمان(1) .
شورى سداسية أو لعبة سياسية؟:
إذا ألقيت نظرة على كيفية تشكيل الشورى وأعضائها أدركت أنّها كانت لعبة سياسية وكان الهدف منها تسليم الخلافة إلى عثمان ولكن بصبغة شرعية وقانونية. إذ لم تكن الظروف تسمح بتنصيبه أو الايصاء به صريحاً. فدقَّ الخليفة باب الشورى
________________________________________
1 . الطبري: التاريخ 3، الجزري: الكامل 3 وشرح ابن أبي الحديد 1 / 188، و«منشم» اسم امرأة عطّارة بمكة وكانت خزاعة وجرهم إذا أرادا القتال تطيّبوا بطيبها وكانوا إذا فعلوا ذلك كثرت القتلى فكان يقال أشأم من عطر منشم، لاحظ الصحاح للجوهري .
________________________________________
(191)
حتّى يسّد به أفواه المعترضين بالقدر الميسور. وكانت الغاية واضحة لدى المطّلعين على خبايا الاُمور. منهم أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ حيث قال لعمّه العباس: عُدل بالأمر عنّي يا عم قال: وما عيبك، قال: قرن بي عثمان، وقال عمر: كونوا مع الأكثر فان رضى رجلان رجلا، ورجلان رجلا، فكونوا مع عبدالرحمان بن عوف، فسعد لا يخالف ابن عمه (عبدالرحمان بن عوف) وعبدالرحمان صهر عثمان لا يختلفان (1) .
وقال ابن عباس: الرجل يريد أن يكون الأمر في عثمان(2) .
وقد نال الخليفة بغيته من خلال الاُمور التالية:
1- إنّ الشخصيات المشاركة في الشورى فرضت من جانب الخليفة وقد احتكر ذلك الحق لنفسه وسلبه عن الاُمة، ولو كان الانتخاب بيد الاُمة ربّما كان المصير على خلاف ما أراده .فأدخل في الشورى رجالا يسيرون على الخط الّذي رسمه الخليفة في نفسه .
وبرّر الخليفة حصر أعضاء الشورى فيهم بأنّ النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ مات وهو راض عنهم وهو تبرير تافه، فانّ النبي مات وهو راض عن غير هؤلاء أيضاً ولقد أثنى على عدّة من أصحابه كأبي ذر الغفاري وعمّار بن ياسر وجابر بن عبداللّه الأنصاري، وأبي أيوب مضيّفه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وغيرهم بيد أنّ هؤلاء لمّا كانوا لا يحققون مطامع الخليفة أعرض عنهم وأدلى بأسماء هؤلاء الذين يتجاوبون مع ما يريد .
2- انتخب رجالا لعضوية الشورى كانوا مختلفي النزعة والهوى ولكن
________________________________________
1 . شرح النهج 1 / 191 .
2 . شرح النهج 1 / 189 .
________________________________________
(192)
الجامع بين أغلبهم هو الانحراف عن علي ـ عليه السلام ـ واضمار العداء له. فعند ذلك أصبح اقصاء علىّ أمراً محتوماً إن لم نقل انّ تعيين عثمان أضحى أمراً مفروضاً وذلك لأنّ طلحة بن عبيداللّه كان معروفاً بعدائه لعلي وانحرافه عنه. فلأجل ذلك وهب حقّه لعثمان تضعيفاً لجانب علي .
إنّ سعد بن أبي وقاص كان ابن عم عبدالرحمان بن عوف وكلاهما من بني زهرة فلا يميل إلى علي وفي الشورى واحد من عشيرته .
وعبدالرحمان بن عوف كان صهر عثمان. لأنّ اُمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط كانت زوجته وهي اُخت عثمان من اُمّه .
على هذا كانت تشهد القرائن على أنّ الخليفة كان يضمر حرمان علي من الخلافة. ولم يكن في الشورى منافس لعلي سوى عثمان، فطبع الحال كان يوحي بأنّ عثمان هو الّذي سيأخذ بمقاليد الحكم. إذ لم يكن لسائر الأعضاء الأربعة مكانة اجتماعية مثل علي وعثمان بل لم يكن لهم إربة في الخلافة وإنّما أطمعهم فيها الخليفة للتوصّل إلى مأربه .
3- انّه لما كان من المحتمل أن تتساوى الأصوات بين علي وعثمان جعل الرجحان والتقديم للفئة الّتي فيها عبدالرحمان بن عوف فكأنّه جعل صوته صوتين. وأمّا عبدالرحمان بن عوف (وهو ذلك الرجل الثري الذي ترك كمية هائلة من الذهب والفضة وقد كُسرت بالفؤوس عند تقسيمها) فهل يترك عثمان ويميل إلى علي وانّ الطيور على أشكالها تقع .
وبالتالي لم يفسد الخليفة على علي في هذه الواقعة فحسب بل أفسده على علي بعد رحيل عثمان حيث إنّ ادخال هؤلاء في الشورى أطمعهم في الخلافة وجعلهم يعتقدون في أنفسهم بانّهم مؤهلّين لها وأنّهم أعدال علي وأقرانه. ولأجل ذلك قاموا في وجه الامام علي يدّعون الخلافة لأنفسهم تحت غطاء أخذ الثأر لعثمان .
________________________________________
(193)
إنّ الامام أميرالمؤمنين ـ عليه السلام ـ قد أفصح بما يكنّه ضميره حول وصية الشورى، فقال في بعض خطبه:
«فياللّه والشورى، متى اعتراض الريب فيّ مع الأوّل حتّى صرت اُقرن إلى هذه النظائر، لكنّي أسففت إذ أسفّوا. وطرت إذ طاروا. فصغا رجل منهم لضغنه، ومال الآخر لصهره مع هن وهن»(1) .
هذا كلام علي في أواخر أيامه .فقد اعترض هو ايضاً في أيام الشورى وكذلك فعل أصحابه فروى الطبري أنّ عبدالرحمان قال: أيّها الناس أشيروا علىّ في هذين الرجلين؟ فقال عمّار بن ياسر: إنّ أردت أن لا يختلف الناس فبايع علياً. فقال المقداد: صدق عمّار، وإن بايعت علياً سمعنا وأطعنا، فقال عبداللّه بن أبي سرح: إن اردت أن لا تختلف قريش فبايع عثمان، وقال عبداللّه بن أبي ربيعة المخزومي: صدق، إن بايعت عثمان سمعنا وأطعنا، فشتم عمّار بن أبي سرح وقال له: متى كنت تنصح الإسلام؟!
فتكلّم بنو هاشم وبنو اُميّة وقام عمّار وقال: أيّها الناس إنّ اللّه أكرمكم بنبيّه وأعزّكم بدينه فإلى متى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيّكم. فقال رجل من بني مخزوم: لقد عدوت طورك يابن سمية وما أنت وتأمير قريش لأنفسها. فقال سعد: يا عبدالرحمان أفرغ من أمرك قبل أن يفتتن الناس فحينئذ عرض عبدالرحمان على علي ـ عليه السلام ـ العمل بسيرة الشيخين .
فقال: بل أجتهد برأيي فبايع عثمان بعد أن عرض عليه فقال: نعم، فقال علي ـ عليه السلام ـ ليس هذا بأوّل يوم تظاهرتم فيه علينا فصبر جميل واللّه المستعان على ما
________________________________________
1 . نهج البلاغة، قسم الخطب / الخطبة 3 .
________________________________________
(194)
تصفون واللّه ما ولّيته الأمر إلاّ ليردّه إليك واللّه كل يوم في شأن(1) .
وبهذا تبين أنّ الشورى كانت نظرية بدون تطبيق وكانت اسماً بلا مسمى.
إجابة عن سؤال:
إذا لم تكن الشورى مبدأ للحكم في الإسلام فماذا يعني الامام علي من قوله في رسالته إلى معاوية حيث يقول: إنّه بايعني القوم الذين بايعوا أبابكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يردّ، إنّما الشورى للمهاجرين والأنصار فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك للّه رضاً(2) .
نقول: إنّ ابن أبي الحديد أوّل من احتجّ بهذه الخطبة، على أنّ نظام الحكومة بعد وفاة النبىّ هو نظام الشورى، وتبعه البعض غفلة عن حقيقة المراد، وذلك لأنّ ملاحظة اسلوب الكلام، وما صدَّر به الامام رسالته، أعني قوله: «انّه بايعني الذين بايعوا أبابكر وعمر وعثمان» تدل بوضوح على أنّ الامام كان في مقام الاحتجاج بمسلَّم الخصم ـ أعني معاوية ـ، على قاعدة «ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم»، فإنّه خرج عن طاعة الامام مع اعتناقه إمامة من تقدّم، فالامام يحتجّ عليه بأنّه بايعني الذين بايعوا الثلاثة فما وجه البغي علىّ والطاعة لهم، ولو لم يكن في مقام الجدل وافحام الخصم، لما كان لذكر خلافة الخلفاء في صدر الرسالة وجه، مع أنّ للامام كلمات في تخطئة الشورى الّتي تمّت بها، أو بادّعائها خلافة الخلفاء، ومن تصفّح نهج البلاغة يقف عليها .
________________________________________
1 . شرح النهج: لابن أبي الحديد 1 / 193 ـ 194 .
2 . الامامة والسياسة 23، ونهج البلاغة قسم الرسائل، برقم 45 .
________________________________________
(195)
والعجب أنّ أحداً من المهاجرين والأنصار لم يستند في مأساة السقيفة، إلى نظام الشورى بل استند كل من اللفيفين باُمور لا تمت إلى هذا الأصل، فادّعى أبوبكر أنّ المهاجرين من أقوام النبىّ وعشيرته، واحتجّ الأنصار بأنّهم هم الذين آووا الرسول، وضحّوا بأنفسهم ونفايسهم لحراسته وحفظه، فانظر ماذاترى قاتل اللّه الأنانية، وحيّا اللّه الحقيقة وحماتها.
 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية