أئمّة الاباضية

البريد الإلكتروني طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج5 ، ص 337 ـ  356
________________________________________
(337)
أئمّة الاباضية في القرون الاُولى:
قد تعرّفت على الشخصيات البارزة للاباضية في القرن الأوّل وبداية القرن الثاني، غير أنّ أئمّتهم وشخصياتهم لاتحصر فيما ذكرنا، ونحن نأتي بقائمة أسمائهم فمن أراد التوسّع فليرجع إلى تراجمهم في الكتب المعدّة، فقد ذكروا أنّ لهم وراء من ذكرنا ترجمتهم، أئمّة بالأسماء التالية:
القرن الأوّل:
1 ـ جعفر بن السماك العبدي .
2 ـ أبوسفيان قنبر.
3 ـ الصحار العبدي.
القرن الثاني:
4 ـ صمّام بن السائب .
5 ـ أبو نوح صالح الدهان.
________________________________________
(338)
6 ـ الجلندي بن مسعود العماني .
7 ـ أبو الخطاب عبد الأعلى المعافري .
8 ـ هلال بن عطية الخراساني .
9 ـ أبو سنيان محبوب بن الرحيل .
10 ـ أبو صفره عبدالملك بن صفره.
11 ـ عبدالرحمن بن رستم .
12 ـ محمّد بن يائس.
13 ـ أبو الحسن الأيدلاتي .
القرن الثالث:
14 ـ أفلح بن عبدالوهاب .
15 ـ عبدالخالق القزاني.
16 ـ محكم الهواري.
17 ـ المهتا بن جيفر.
18 ـ موسى بن علي.
19 ـ أبو عيسى الخراساني.
20 ـ محمّد بن محبوب .
21 ـ محمّد بن عباد.
22 ـ الصلت بن مالك .
23 ـ أبو اليقظان بن أفلح .
24 ـ أبو منصور الياس .
25 ـ عمروص بن فهد .
________________________________________
(339)
26 ـ هود بن محكم.
القرن الرابع:
27 ـ أبو الخضر يعلى بن أيّوب.
28 ـ أبو القاسم يزيد بن مخلد.
29 ـ أبو هارون موسى بن هارون(1).
إنّ الكاتب المعاصر علي يحيى معمّر، ترجم جابر بن زيد و أبا عبيدة مسلم في الجزء الأوّل من كتابه «الاباضية في موكب التاريخ» تحت عنوان الاباضية في قيادة الاُمّة 145 ـ 155، ثمّ خصّ الجزء الثاني بترجمة أئمّتهم وذكر كثيراً منهم القاطنين في «ليبيا» بعد البحث عن «دخول المذهب الاباضي الى ليبيا» ومن اراد الوقوف فليرجع الى هذا الجزء 21 ـ 197 .
دول الاباضية:
قد قام باسم الاباضية عدد من الدول في أربعة مواضع من البلاد الإسلامية:
1 ـ دولة في عمان استقلّت عن الدولة العباسية في عهد أبي العباس السفّاح سنة 132، ولاتزال إلى اليوم.
2 ـ دولة في ليبيا سنة 140 ولم تعمّر طويلا فقد انتهت بعد نحو ثلاث سنوات.
3 ـ دولة قامت في الجزائر سنة 160، وقد بقيت إلى حوالي 190، ثمّ قضت عليها الدولة العبيدية.
________________________________________
1. علي يحيى معمّر: الاباضية بين الفرق الإسلامية: 1 / 27 ـ 28 .
________________________________________
(340)
4 ـ دولة قامت في الأندلس ولا سيّما في جزيرتي «ميورقة» و «مينورقة»، و«ليس لدينا من أخبارهم الكثير وقد انتهت يوم انتهت الأندلس وأطفأ التعصّب الغربي شعلة الإسلام في تلك الديار»(1) .
هذه الاباضية، وهذا ماضيهم وحاضرهم، وقد قدمّنا إليك صورة موجزة من تاريخهم، ونشوئهم وحروبهم وشخصياتهم وعقائدهم، وقد جرّدنا أنفسنا عن كل نزعة نفسانية تعرقلنا عن الوصول إلى الحق، والله وراء القصد.
وقد حان لنا انجاز الوعد الذي سبق منّا، وهو نشر ما كتبه «عبدالله بن اباض» إلى عبدالملك بن مروان، وإليك نصُّه:
رسالة عبدالله بن أباض
إلى عبدالملك بن مروان
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبدالله بن أباض إلى عبدالملك بن مروان: سلام عليك. فإنّي أحمد إليك الله الذي الا إله إلاّ هو و اُصويك بتقوى الله فإنّ العاقبة للتقوى والمرد إلى الله، واعلم أنّه إنّما يتقّبل الله من المتّقين .
أمّا بعد، جاءني كتابك مع سنان بن عاصم، وإنّك كتبت إليَّ أن أكتب إليك بكتاب، فكبت به إليك، فمنه ما تعرف ومنه ماتنكره، زعمت أنّما عرفت منه ما ذكرت به من كتاب الله وحضضت عليه من طاعة الله، واتّباع أمره، وسنّة نبيّه، وأمّا الذي أنكرت منه فهو عندالله غير منكر. وأمّا ما ذكرت من عثمان والذي عرضت به من شأن الأئمّة وأنّ الله ليس ينكر عليه أحد شهادته في كتابه بما أنزله على رسوله أنّه من لم يحكم بما أنزل الله فاُولئك هم الظالمون
________________________________________
1. علي يحيى معمّر: الاباضية بين الفرق الاسلامية 1/92 ـ 93 .
________________________________________
(341)
والكافرون والفاسقون (1). وانّي لم أكن أذكر لك شيئاً من شأن عثمان و الأئمّة إلاّ والله يعلمه أنّه الحق، وسأنزع لك من ذلك البيّنة من كتاب الله الذي أنزله على رسوله، وسأكتب إليك في الذي كتبت به، وأخبرك من خبر عثمان والذي طعنّا عليه فيه، وأبيّن شأنه والذي أتى عثمان.
لقد كان كما ذكرت من قدم في الإسلام وعمل به ولكنّ الله لم يجر العباد من الفتنة والردّة عن الإسلام، وإنّ الله بعث محمّداً بالحق ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ وأنزل الكتاب فيه بيّنات كل شيء يحكم بين الناس فيما اختلفوا ( هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْم يُؤْمِنُونَ)(2). فأحلّ الله في كتابه حلالا وحرّم حراماً وفرض فيه حكماً وفصّل فيه قضاءه وبيّن حدوده فقال: ( تِلْكَ حُدودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها)(3). وقال:( وَ مَنْ يَتَعَدَّ )حُدودَ اللهِ فاُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ)(4). وقسم ربّنا قسماً وليس لعباده فيه الخيرة، ثمّ أمر نبيّه باتّباع كتابه، فقال للنبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ : ( وَ اتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبُكَ)(5). وقال: (فَإِذَا قَرَأناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* )ثُمَّ إِنّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ )(6). فعمل محمّد ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ بأمر ربّه ومعه عثمان ومن شاء الله من أصحابه لايرون رسول الله يتعدّى من قبله شيئاً، ولايبدّل فريضة، ولايستحلّ شيئاً حرّمه الله، ولايحرّم شيئاً أحلّه الله، ولايحكم بين الناس إلاّ بما
________________________________________
1. قال الله تعالى في سورة المائدة 44 ـ 45 و 47. ( وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بما أَنْزَلَ اللهُ فَأولئِكَ هُمُ الكافِرُونَ).)( )وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بما أَنْزَلَ الله فَاُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُون)). )( وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ الله فَاُولئكَ هم الفاسِقُونَ).) 2. الأعراف: 52، ويوسف 111 .
3. البقرة: 187 .
4. البقرة: 229 .
5. الأحزاب: 2 .
6. القيامة: 18 ـ 19 .

________________________________________
(342)
أنزل الله، فكان يقول: ( إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبَّي عَذَابَ يَوْم عَظيِم)(1). فسّر ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ ما شاء الله تابعاً لما أمر الله، يتبع ما جاء من الله، والمؤمنون معه يعلّمهم وينظرون إلى عمله حتى توفّاه الله عليه الصلاة والسلام وهم عنه راضون، فنسأل الله سبيله وعملا بسنّته. ثم أورث الله عباده الكتاب الذي جاء به محمّد وهداه ولايهتدي من اهتدى من الناس إلاّ باتّباعه ولايضّل من ضلّ من الناس إلاّ بتركه.
ثمّ قام من بعده أبو بكر على الناس فأخذ بكتاب الله وسنّة نبّيه ولم يفارقه أحد من المسلمين في حكم حكمه، ولاقسم قسّمه حتى فارق الدنيا وأهل الإسلام عنه راضون وله مجامعون.
ثمّ قام من بعده عمر بن الخطاب قوّياً في الأمر، شديداً على أهل النفاق، يهتدي بمن كان قبله من المؤمنين، يحكم بكتاب الله، وابتلاه الله بفتوح من الدنيا ما لم يبتل به صاحباه، وفارق الدنيا و الدين ظاهر وكلمة الإسلام جامعة وشهادتهم قائمة، والمؤمنون شهداء الله في الأرض. وكذلك قال الله: (جَعَلْنَا كُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)(2). ثمّ أشار المؤمنون فولّوا عثمان، فعمل ماشاء الله بما يعرف أهل الإسلام حتى بسطت له الدنيا وفتح له من خزائن الأرض ما شاء الله. ثمّ أحدث اُموراً لم يعمل به صاحباه قبله، وعهد الناس يومئذ قريب بنبيّهم حديث. فلمّا رأى المؤمنون ما أحدث عثمان أتوه فكلّموه وذكّروه بكتاب الله وسنّة من كان قبله من المؤمنين.
وقال الله: ( )وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنّا مِنَ الُْمجرِمِيْنَ )
________________________________________
1. الأنعام: 15، ويونس: 15 .
2. البقرة: 143 .

________________________________________
(343)
مُنْتَقِمُونَ))(1). فسفَّه أن ذكّروه بآيات الله وأخذهم بالجبروت، وضرب منهم من شاء الله وسجن ونفاهم في أطراف الأرض من شاء الله منهم نفياً أن ذكّروه بكتاب الله وسنّة نبيّه ومن كان قبله من المؤمنين، وقال الله: ( وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَ نَسِىَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ)(2).
وإنّي اُبيّن لك يا عبدالملك بن مروان الذي أنكر المؤمنون على عثمان وفارقناه عليه فيما استحلّ من المعاصي عسى أن تكون جاهلا عنه غافلا وأنت على دينه وهواه !! لايحملنّك يا عبدالملك هوى عثمان أن تجحد بآيات الله وتكذّب بها!!! فإنّ عثمان لايغني عنك من الله شيئاً، فالله، الله يا عبدالملك بن مروان قبل التناوش من مكان بعيد، وقبل أن يكون لزاماً، وأجل مسمّى!! وإنّه كان ممّا طعن المؤمنون عليه وفارقوه وفارقناه فيه، فإنّ الله قال: ( وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِها اُولئِكَ مَا كانَ لَهُمْ أنْ يَدْخُلُوها إلاّ خائِفينَ لَهُمْ فِي الدُّنيا خِزىٌ وَ لَهُمْ فِى الآخِرَةِ عَذابٌ عَظيمٌ)(3). فكان عثمان أوّل من منع مساجد الله أن يقضى فيها بكتاب الله. وممّا نقمناه عليه وفارقناه عليه أنّ الله قال لمحمّد ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ ( )لاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَداةِ وَ العَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِم مِنْ شَىْء وَ ما مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِنْ شَيْء فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمينَ))(4).
فكان أوّل (5) هذه الاُمّة طردهم ونفاهم، فكان ممّن نفاهم من أهل المدينة
________________________________________
1. السجدة: 22.
2. الكهف: 57 .
3. البقرة: 114 .
4. الأنعام: 52 .
5. في نسخة «خيار» .

________________________________________
(344)
أبوذَرّ الغفاري، ومسلم الجهني، ونافع بن الحطام (1)، ونفى من أهل الكوفة كعب بن أبي الحلمة، وأبي الرحل الوجاج، و جندب بن زهير(2)، وجندب هو الذي قتل الساحر الذي كان يلعب به الوليد بن عقبة(3)، ونفى عمرو بن زرارة، وزيد بن صوحان (4)، وأسود بن ذريح، ويزيد بن قيس الهمداني، وكردوس بن الحضرمي، في ناس كثير من أهل الكوفة.
ونفى من أهل البصرة عامر بن عبدالله القشري، ومذعور العبدي ولا أستطيع لك عددهم من المؤمنين.
وممّا نقمنا عليه أنّه أمّر أخاه الوليد بن عقبة على المؤمنين، وكان يلعب بالسحرة ويصلّي بالناس سكران، فاسق في دين الله، أمّره من أجل قرابته، على المؤمنين المهاجرين و الأنصار، وإنّما عهدهم حديث بعهدالله ورسوله والمؤمنين.
وممّا نقمنا عليه إمارته قرابته على عبادالله وجعل المال دولة بين الأغنياء، وقال الله: ( كَيْ لاَ يَكُونَ دُوْلَةً بَيْنَ الأغْنِياءِ) (5). وبدّل كلام الله وبدَّل القول واتّبع الهوى.
________________________________________
1. ورد الاسم أيضاً: «نافع بن الحطامي».
2. جندب بن زهير الأزدي: ذكر الطبري أنّه قتل في صفّين وهو يحارب مع عليّ بن أبي طالب.
3. الوليد بن عقبة، أخ عثمان بن عفان لاُمّه، وروي أنّه وهو أمير على الكوفة، صلّى بالناس الصبح وهو سكران، ثمّ قال لهم: إن شئتم أن أزيدكم ركعة زدتكم، فلمّا بلغ عثمان ذلك لم يسرع إلى إقامة الحدّ عليه، بل أخّر ذلك. (انظر: ابن قتيبة: الإمامة والسياسة ج 1 ص 36).
4. زيد بن صوحان: قتل شهيداً يوم الجمل .
5. الحشر: 7 .

________________________________________
(345)
وممّا نقمنا عليه أنّه انطلق إلى الأرض ليحميها لنفسه ولأهله(1) حمى حتى منع قطر السماء والرزق الذي أنزله الله لعباده، لأنفسهم وأنعامهم. وقد قال الله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْق فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَ حَلالا قُلْ ءَاللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُون* وَ ما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ يَوْمَ القِيامَةَ)(2).
وممّا نقمنا عليه أنّه أوّل من تعدّى في الصدقات وقد قال الله: ( إنَّمَا الصَدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَ المَساكِينَ وَ العامِلِينَ عَلَيْهَا وَ المُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي الرِّقَابِ وَ الغَارِمينَ وَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السِّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَ اللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(3). وقال الله: ( وَ مَا كَانَ لِمُؤْمِن وَ لامُؤْمِنَة إِذَا قَضَى اللهُ وَ رَسُولُهُ أمْراً )أنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعصِ اللهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاَ مُبيناً)(4).
وأحدث عثمان منه فرائض كان فرضها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رحمة الله عليه ـ ، وانتقص أصحاب بدر ألّفاً من عطائهم، وكنز الذهب والفضة ولم ينفقها في سبيل الله، وقال الله: ( وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الفِضَّةَ ولا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذاب أَلِيم * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْها فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِهَا جِباهُهُمْ )
________________________________________
1. يقال حمى فلان الأرض يحميها حمى حتى لايقرب. والحمى موضع فيه كلأ يحمى من الناس أن يرعى. وقال الإمام الشافعي في تفسير قوله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ «لا حمى إلاّ لله ولرسوله»: كان الشريف من العرب في الجاهلية إذا نزل بلداً في عشيرته استعوى كلباً فحمى لخاصّته مدى عواء الكلب لا يشركه فيه غيره، فلم يرعه معه أحد، وكان شريك القوم في سائر المراتع حوله، فنهى النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ أن يحمى على الناس حمى كما كانوا في الجاهلية يفعلون. (انظر: دكتور حسن إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام السياسي ج 1 هامش صفحة 273) .
2. يونس: 59 ـ 60 .
3. التوبة: 60 .
4. الأحزاب: 36 .

________________________________________
(346)
وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظهُورُهُمْ هذا مَا كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ))(1) .
وممّا نقمنا عليه أنّه كان يضمّ كلّ ضالّة إلى إبله ولايرّدها ولايعرّفها، وكان يأخذ من الإبل والغنم ممّن وجد ما عنده من الناس وإن كانوا قد أسلموا عليها(2)، وكان لهم في حكم الله أنّ لهم ما أسلموا عليه. وقال الله: ( )وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلاتَعْثُوْا فِى الأرضِ مُفسدِينَ))(3). وقال: ( لاَ )تَأْكُلُوا أَمْولَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إلاّ أنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَراض مِنْكُمْ ولاتَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إنَّ الله كانَ بِكُمْ رَحِيماً * وَ مَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْواناً وَ ظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيِه ناراً وَ كانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً)(4) .
وممّا نقمنا عليه أنّه أخذ خمس الله لنفسه ويعطيها أقاربه ويجعل منهم عمّالا على أصحابه وكان ذلك تبديلا لفرائض الله، وفرض الله الخمس لله ولرسوله: ( وَلِذِي القُرْبَى وَ اليَتَامَى وَ المسَاكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَ مَا أنْزَلْنا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الفُرقَانِ يَوْمَ التَقَى الجَمْعَانِ واللهُ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ)(5).
وممّا نقمنا عليه أنّه منع أهل البحرين وأهل عُمان أن يبيعوا شيئاً من طعامهم حتى يباع طعام الإمارة، وكان ذلك تحريماً لما أحلّ الله: ( وَ اَحَلَّ اللهُ البَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا)(6).
فلو أردنا أن نخبر بكثير من مظالم عثمان لم نحصها إلاّ ما شاء الله، وكل ما عددت عليكم من عمل عثمان يُكفّر الرجل أن يعمل ببعض هذا.
________________________________________
1. التوبة: 34 ـ 35 .
2. أسلموا عليها: تصالحوا عليها.
3. هود: 85 .
4. النساء: 29 ـ 30.
5. الأنفال: 41.
6. البقرة: 275 .

________________________________________
(347)
وكان من عمل عثمان أنّه يحكم بغير ما أنزل الله وخالف سنّة نبي الله والخليفتين الصالحين أبي بكر و عمر وقد قال الله: ( وَ مَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَاتَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلّى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ سَاءَتْ مَصيِرَاً)(1).
وقال: ( وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بما أَنْزَلَ الله فَاُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُون).)(2)، ( أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى )الظَّالِمِينَ)(3)، ( وَ مَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرَاً)(4)، وقال: ( لاَ يَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ)(5)، وقال: (وَ لاَ تَرْكَنُوا إلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُون)(6) .
وقال: ( وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بما أَنْزَلَ الله فَاُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُون)،) والفاسقون (7) والكافرون(8)وقال: ( )ألا لَعَنةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِين)).)
وقال: ( ومَنْ يَلعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصيراً). وقال: ( وَلاَ تَرْكَنُوا إلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ). )وقال: ( كَذلِكَ حَقَّتْ كَلمةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَهُمْ لاَيُؤْمِنُونَ)(9). فكل هذه الآيات تشهد على عثمان، وإنّما شهدنا بما شهدت هذه الآيات: ( اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إلَيْكَ أنَزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَ المَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَ كَفَى بِاللهِ )
________________________________________
1. النساء: 115 .
2. المائدة 45.
3. هود: 18 .
4. النساء: 52 .
5. البقرة: 124.
6. هود: 113.
7. وفي سورة المائدة: (وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بما أَنْزَلَ الله فَاُولئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ) )آية 47 .
8. وفي سورة المائدة: (وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بما أَنْزَلَ الله فَاُولئِكَ هُمُ الكافِرُونَ) آية 44 .
9. يونس 33 .

________________________________________
(348)
شَهِيداً)).)(1)
وقال: ( فَوَرَبِّ السَّماءِ وَ الأرضِ إنَّهُ لَحَقٌ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ)(2) .
فلمّا رأى المؤمنون الذي نزل به عثمان من معصية الله، والمؤمنون شهداء الله ناظرون أعمال الناس، وكذلك قال الله:( اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ المُؤْمِنُونَ وَ سَتُرَدُّونَ إلَى عالِمِ الغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون)(3)
و ترك خصومة الخصمين في الحق والباطل ودفع ما وعد الله من الفتن، وقال الله: ( الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لاَيُفْتَنُونَ * وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الكاذِبينَ)(4).
فعلم المؤمنون أنّ طاعة عثمان على ذلك طاعة إبليس، فساروا إلى عثمان من أطراف الأرض، واجتمعوا في ملأ من المهاجرين والأنصار وعامّة أزواج النبيـ عليه الصلاة والسلام ـ فأتوه فذكّروه الله وأخبروه الذي أتى من معاصي الله، فزعم أنّه يعرف الذي يقولون، وأنّه يتوب إلى الله منه و يراجع الحق فيقبلوا منه الذي اتّقاهم به من اعتراف الذنب والتوبة والرجوع إلى أمر الله، فجامعوه وقبلوا منه، وكان حقّاً على أهل الإسلام إذا اتّقوا بالحق أن يقبلوه ويجامعوه ما استقام على الحق. فلمّا تفرّق الناس على ما اتّقاهم به من الحق نكث عن الذي عاهدهم عليه وعاد فيما تاب منه، فكتب في أدبارهم أن تقطع أيدهم و أرجلهم من خلاف. فلمّا ظهر المؤمنون على كتابه ونكثه على العهد الذي عاهدهم عليه رجعوا فقتلوه بحكم الله، وقال الله: (وَ إنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ )
________________________________________
1. النساء: 166 .
2. الذاريات: 23.
3. التوبة: 105 .
4. العنكبوت: 1 ـ 3 .

________________________________________
(349)
مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَ طَعَنُوا فِي دِيْنِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الكُفْرِ إنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ))(1). فجامع أهل الاسلام ما شاءالله، وعمل بالحق، وقد يعمل الإنسان بالاسلام زماناً ثم يرتد عنه. وقال الله: ( إنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَ أمْلَى لَهُمْ)(2).
فلمّا استحلّ معصية الله وترك سنّة من كان قبله من المؤمنين، علم المؤمنون أنّ الجهاد في سبيل الله أولى، وأنّ الطاعة في مجاهدة عثمان على أحكامه. فهذا من خبر عثمان والذي فارقناه فيه، ونطعن عليه اليوم، وطعن عليه المؤمنون قبلنا، وذكرت أنّه كان مع رسول الله وختنه(3)، فقد كان عليّ بن أبي طالب أقرب إلى رسول الله وأحبّ إليه منه، وكان ختنه ومن أهل الإسلام. وأنت تشهد عليه بذلك وأنا بعد على ذلك، فكيف تكون قرابته من محمّد ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ نجاةً إذا ترك الحق وضلّ كفراً(4) .
واعلم، إنّما علامة كفر هذه الاُمّة كفرها الحكم بغير ما أنزل الله، ذلك بأنّ الله قال: ( وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأولئِكَ هُمُ الكَافِرُون)(5) .فلا أصدق من الله قيلا، وقال: (فَبِأيِّ حَدِيث بَعْدَ اللهِ وَ )آياتِهِ يُؤْمِنُونَ)(6).
________________________________________
1. التوبة: 12 .
2. محمّد: 25 .
3. الختن: زوج الابنة. الجمع أختان .
4. قال سبحانه لنبيّه: ( لَئِنْ اَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) الزمر / 65، ولكن الكلام في وقوع الشرط. إنّ الإمام لم يشرك، ولم يضل أبداً. إنّما ترك الحق اُولئِكَ الذين ألجأوه إلى إجابة دعوة الشاميين، وحذّروه من مواصلة الحرب وقد كان الامام على أعتاب النصر، وقد بلغوا في اللجاج والعناد إلى حدّ لم يمهلوا القائد لقواته ـ الأشتر ـ عدوة فرس أو فواق ناقة، فلاحظ .
5. المائدة: 44 .
6. الجاثية: 6.

________________________________________
(350)
فلا يغرّنّك يا عبدالملك بن مروان، عثمان عن نفسك، ولاتسند دينك إلى الرجال يتمنّون ويريدون ويستدرجون من حيث لايعلمون ،فإنّ أملك الأعمال بخواتمها، وكتاب الله جديد ينطق بالحق أجارنا الله باتباعه أن نضل او نبغي(1) فاعتصم بحبل الله يا عبدالملك واعتصم بالله، وإنّه من يعتصم بالله يهده صراطاً مستقيماً. وهو حبل الله الذي أمر المؤمنين أن يعتصموا به ولايتفرّقوا. وليس حبل الله الرجال من أيّهم حَسُنَ ينهبون ويطعنون، فاُذكّرك الله لما أن تدبّرت القرآن فإنّه حق. وقال الله:( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوب أقْفالُها)(2).فكّن تابعاً لما جاء من الله تهتدي، وبه تخاصم من خاصمك من الناس، وإليه تدعو وبه تحتجّ، فإنّه من يكن القرآن حجّته يوم القيامة به يخاصم من خاصمه ويفلح في الدنيا والآخرة. فإنّ الناس فقد اختصموا( إنَّكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ)(3) فتعمل لما بعد الموت ولايغرّنّك بالله الغرور.
وأَمّا قولك في شأن معاوية بن أبي سفيان أنّ الله قام معه وعجّل نصره وأفلح حجّه وأظهره على عدوّه بطلب دم عثمان، فإن يكن يعتبر الدين من قبل الدولة أن يظهر الناس بعضهم على بعض في الدنيا فإنّا لانعتبر الدين بالدولة، فقد ظهر المسلمون على الكافرين لينظر كيف يعملون، وقد ظهر الكفّار على المسلمين ليبتلي المسلمين بذلك ويعلى الكافرين(4). وقال:( )وَ تِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَ اللهُ لايُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَ لُِيمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ الكافِرِين))(5).
________________________________________
1. وفي نسخة: «أن نبغي أو نضل».
2. محمّد: 24.
3. الزمر: 31.
4. وفي نسخة «ويملأ الكافرين».
5. آل عمران 140 ـ 141 .

________________________________________
(351)
فإن كان الدين إذا ظهر الناس بعضهم على بعض فقد سمعت الذي أصاب المشركون من يوم اُحُد، وقد ظهر الذين قتلوا ابن عفان عليه وعلى شيعته يوم الدار(1) وظهر أيضاً عليّ، على أهل البصرة وهم شيعة عثمان (2)، وظهر المختار على ابن زياد(3)، وأصحابه وهم شيعتهم، وظهر معصب الخبيث على المختار(4) وظهر ابن السجف على أخنس بن دلجة وأصحابه، وظهر أهل الشام على أهل المدينة(5)، وظهر ابن الزبير على أهل الشام بمكة يوم استفتحوا منها ما حرّم الله عليكم وهم شيعتكم.
فإن كان هؤلاء على الدين فلايعتبر الدين من قبل الدولة، فقد يظهر الناس بعضهم على بعض ويعطي الله رجالا ملكاً في الدنيا، فقد أعطى فرعون ملكاً وظهر في الأرض، وقد أعطى الذي حاجّ إبراهيم في ربّه، وقد أعطى فرعون ما سمعت.
ثمّ إنّما اشترى معاوية (6)الإمارة من الحسن بن علي، ثمّ لم يف له بالذي
________________________________________
1. اقتحم الثوار على عثمان بن عفان داره، بعد أن نشب القتال بينهم وبين من تصّدى للدفاع عنه وذلك في الثامن عشر من ذي الحجّة سنة 35 هـ وقتلوه وعرف ذلك اليوم بـ «يوم الدار» .
2. يشير إلى انتصار الإمام علي بن أبي طالب في وقعة الجمل، التي دارت بينه و بين عائشة وطلحة والزبير وذلك في جمادى الآخرة سنة 36 هـ .
3. أرسل المختار بن أبي عبيدة الثقفي، جيشاً بقيادة إبراهيم بن الأشتر لقتال عبيدالله بن زياد عامل الأمويين. وسار إبراهيم بن الأشتر حين لقى ابن زياد ومن معه من أهل الشام على نهر الخازر(نهر بين اربيل و الموصل ويصب في دجلة) فدارت الدائرة على ابن زياد وقتل هووكثير من أهل الشام وحمل رأسه إلى المختار.
4. هزم المختار وقتل في الكوفة سنة67 هـ في الحرب التي دارت بينه و بين مصعب بن الزبير .
5. حاضر مسلم بن عقبة المري، المدينة المنورة، من ناحية الحرة وفتحها وأباحها، وذلك في أثناء حكم يزيد بن معاوية.
6. تعبير خاطئ والصحيح: تصالح الإمام مع معاوية بعد ما أتمّ الحجّة على الاُمّة.

________________________________________
(352)
عاهده عليه، وقال: ( وُ أَوْفُوا بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَ لا تَنقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكيدِها وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا اِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَ لا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّة أنْكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّة إنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَ لَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ ما كُنْتُم فِيهَ تَخْتَلِفُونَ )(1).
فلا تسأل عن معاوية ولا عن عمله ولا صنيعه، غير أنّا قد أدركنا ورأينا عمله وسيرته في الناس ولا نعلم من الناس أحداً(2) أترك للقسمة التي قسمها اللّه، ولا لحكم حكمه الله، ولاأسفك لدم حرام منه، فلو لم يصب من الدماء إلاّ دم ابن سمية(3) لكان في ذلك ما يكفّره.
ثمّ استخلف ابنه يزيد فاسقاً من الناس لعيناً يشرب الخمر المكفر فيكفيه من السوء، وكان يتبع هواه بغير هدى من الله وقال الله:( وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ إنَّ الله لا يَهدِى القَوْمَ الظَّالِمِينَ)(4). فلم يخف عمل معاوية ويزيد على كل ذي عقل من الناس، فاتّق الله يا عبدالملك ولاتخادع من نفسك في معاوية!! فقد بلغنا أنّ أهل البيت يطعنون على معاوية ويزيد وعملهما وما رأى من خبر معاوية من بعدهما، فالذي طعنّا عليهما وعليه وفارقناه عليه، فإنّ منهم فتنة كمن يكون يتولّى عثمان ومن بعده. فإنّا نشهد الله والملائكة أنّا منهم
________________________________________
1. النحل: 91 ـ 92 .
2. كتب في المخطوطة: «شيئاً لأحد» .
3. يشير إلى ما عمله معاوية بن أبي سفيان في سنة 45 هـ حين ردّ اعتبار زياد بن سمية في نسبه فأحبّ أن يجعله أخاه وأتى بشهود شهدوا بأنّه ابن أبي سفيان، وهذا ما يعبّر عنه بالاستلحاق. وأصبح زياد يعرف باسم زياد بن أبي سفيان بعد أن كان يعرف باسم زياد بن سمية أو زياد بن أبيه. وقد دفع معاوية إلى ذلك الاعتبارات السياسية، ومنذ أن اعترف معاوية بن أبي سفيان بزياد أخاً له وابناً غير شرعي لأبيه، تفانى زياد في خدمة البيت الأموي.
4. القصص: 50 .

________________________________________
(353)
براء ولهم أعداء، بأيدينا وألسنتنا وقلوبنا، نعيش على ذلك ما عشنا ونموت عليه إذا متنا، ونبعث عليه إذا بعثنا، نحاسب بذلك عندالله.
وكتبت إليّ تحذّرني الغلو في الدين، وإنّي أعوذ بالله من الغلو في الدين، وساُبيّن لك ماالغلو في الدين إذا جهلته، فإنّه ما كان يقال على الله غير الحق ويعمل بغير كتابه الذي بيّن لنا وسنّة نبيه الذي بيّن لنا، اتباعك قوماً قد ضلّوا وأضلّوا عن سواء السبيل. فذلك عثمان والأئمّة من بعدهم وأنت على طاعتهم وتجامعهم على معصية الله، والله يقول: ( يا أهْلَ الكِتابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إلاَّ الحَقَّ)(1). فهذا سبيل أهل الغلو في الدين فليس من دعا إلى الله وإلى كتابه ورضى بحكمه، وغضب لله حين عصي أمره، وأخذ بحكمه حين ضيع وتركت سنّة نبيّه.
وكتبت إليّ تعرض على الخوارج، تزعم أنّهم يغلون في دينهم ويفارقون أهل الإسلام، وتزعم أنّهم يتّبعون غير سبيل المؤمنين، وإنّني اُبيّن لك سبليهم، إنّهم أصحاب عثمان، والذي أنكروا عليه ما أحدث من تغيير السنّة، فارقوه حين أحدث وترك حكم الله، وفارقوه حين عصى ربّه، وهم أصحاب عليّ بن أبي طالب حين حكّم عمرو بن العاص (2) وترك حكم الله، فأنكروه عليه وفارقوه فيه وأبوا أن يقرّوا لحكم البشر دون حكم كتاب الله، فهم لمن بعدهم أشدّ عداوة وأشدّ مفارقة. كانوا يتولّون في دينهم وسنّتهم رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ وأبا بكر وعمر بن الخطاب، ويدعون إلى سبيلهم ويرضون بسنّتهم على ذلك، كانوا يخرجون وإليه يدعون وعليه يفارقون. وقد علم من عرفهم من الناس ورأى عملهم أنّهم كانوا أحسن الناس
________________________________________
1. النساء: 171 .
2. لم يحكّم عمروبن العاص، وإنّما حكّم القرآن كما تشهد على ذلك وثيقة التحيكم.فلاحظ.

________________________________________
(354)
عملا وأشدّ قتالا في سبيل الله. وقال الله: ( قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفَّارِ وَ لْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَ اعْلَمُوا أنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ)(1).
فهذا خبر الخوارج، نشهد الله والملائكة انّا لمن عاداهم أعداء وانّا لمن والاهم أولياء، بأيدينا وألسنتنا وقلوبنا، على ذلك نعيش ماعشنا، ونموت على ذلك إذا متنا، غير أنّا نبرأ إلى الله من ابن الأزرق وأتباعه من الناس، لقد كانوا خرجوا حين خرجوا على الإسلام فيما ظهر لنا، ولكنّهم ارتدّوا عنه وكفروا بعد إيمانهم(2) فنبرأ إلى الله منهم.
أمّا بعد فإنّك كتبت إليّ أن أكتب إليك بجواب كتابك، وأجتهد في النصيحة، وإنّي اُبيّن لك إن كنت تعلم و أفضل ما كتبت إليك به، وذكّرتني بالله أن اُبيّن لك فإنّي قد بيّنت لك بجهد نفسي، وأخبرتك خبر الاُمّة، وكان حقَّاً عليّ أن أنصح لك واُبيّن لك ما قد علمت. إنّ الله يقول:( إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ البَيِّناتِ وَ الهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتابِ اُوْلئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَ أصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا فَأُولئِكَ أتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ أنا التَّوَّابُ الرَّحيمُ) )(3). فإنَّ الله لم يتَّخذني عبداً وأن أكفر بربّي، ولااُخادع الناس بشيء ليس في نفسي، واُخالف إلى ما أنهى عنه، فأمري علانية غير سرّ، أدعو إلى كتاب الله وليحلّوا حلاله ويحرّموا حرامه ويرضوا بحكمه ويتوبوا إلى ربّهم ويراجعوا كتاب الله، ولئن أدعوكم إلى كتاب الله ليحكم بيني وبينكم في الذي اختلفوا فيه، ونحرّم ما حرّم الله، ونحكم بما حكم الله، ونبرأ ممّن برىء اللهُ منه ورسوله، ونتولّى من يتولّاه الله، ونطيع من أحلّ لنا طاعة في كتابه، ونعصي
________________________________________
1. التوبة: 123 .
2. يشيرهنا إلى تبرّئ الاباضية من نافع بن الأزرق والأزارقة وذلك لغلوّهم وتطرّفهم في الدين.
3. البقرة: 159 ـ 160 .

________________________________________
(355)
من أمر الله بمعصيته. أن نطيعه فهذا الذي أدركنا عليه نبيّنا ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ . وإنّ هذه الاُمّة لم تحرّم حراماً ولم تسفك دماءً إلاّ حين تركوا كتاب ربّهم الذي أمرهم أن يعتصموا به، ويأمنوا عليه، وانّهم لايزالون مفترقين مختلفين حتى يراجعوا كتاب الله وسنّة نبيّه، وينتصحوا كتاب الله على أنفسهم، ويحكّموه إلى ما اختلفوا فيه. فإنّ الله يقول: ( وَ مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيِه مِنْ شَيء فَحُكْمُهُ إلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إلَيْهِ أُنيبُ)(1). وإنّ هذا هو السبيل الواضح لايشبّه به شيء من السبل، وهو الذي هدى الله به من كان قبلنا، محمّد ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ والخليفتين الصالحين من بعده، فلايضلّ من اتّبعه ولايهتدي من تركه، وقال:( وَ أَنَّ هذا صِرَاطِى مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوهُ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيِلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(2). فاحذر أن تفرّق بك السبل عن سبيله، ويزّين لك الضلالة باتّباعك هواك فيما جمعت إليه الرجال، فإنّهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً، إنّما هي الأهواء والدين. إنّما يتبع الناس في الدنيا والآخرة إمامين، إمام هدى، وإمام ضلالة. أمّا إمام الهدى فهو يحكم بما أنزل الله ويقسم بقسمه ويتبع كتاب الله، وهم الذين قال الله: ( وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ)(3) وهؤلاء أولياء المؤمنين الذين أمرالله بطاعتهم، ونهى عن معصيتهم. وأمّا إمام الضلالة فهو الذي يحكم بغير ما أنزل الله ويقسم بغير ما قسم الله، ويتبع هواه بغير سنّة من الله فذلك كفر كما سمّى الله، ونهى عن طاعتهم وأمر بجهادهم، وقال: ( فَلا تُطِعِ الكافِرينَ وَ جاهِدَهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبيرا)(4).
________________________________________
1. الشورى: 10 .
2. الأنعام: 153 .
3. السجدة: 24.
4. الفرقان: 52.

________________________________________
(356)
فإنّه حقّ أنزله بالحق وينطق به، وليس بعد الحق إلاّ الضلال فأنّى تصرفون. ولا يضربن الذكر عنك صفحاً،ولاتشكّنّ في كتاب الله، ولا حول ولاقوّة إلاّ بالله، فإنّه من لم ينفعه كتاب الله، لم ينفعه غيره.
كتبت إليّ أن أكتب إليك بمرجوع كتابك، فإنّي قد كتبت إليك، وأنا اُذكّرك بالله العظيم إنّ استطعت بالله لمّا قرأت كتابي ثمّ تدبّر فيه وأنت فارغ ثم تدبّره، فقد كتبت إليك بجواب كتابك وبيّنت لك ما علمت ونصحت لك. فإنّي اُذكّرك بالله العظيم لمّا قرأت كتابي وتدبّرته، واكتب إليّ إن استطعت بجواب كتابي إذا كتبت إليك، إنّما أتنازع فيه أنا وأنت، انزع عليه بيّنة من كتاب الله اُصدّق فيه قولك، فلاتعرض لي بالدنيا فإنّه لارغبة لي في الدنيا، وليست من حاجتي، ولكن لتكن نصحتك لي في الدين، ولما بعد الموت، فإنّ ذلك أفضل النصيحة، فإنّ الله قادر أن يجمع بيننا وبينك على الطاعة، فإنّه لاخير لمن لم يكن على طاعة الله. وبالله التوفيق وفيه الرضى، والسلام عليه، والحمد لله، وصلّى الله على نبيّه محمّد وآله وسلّم تسليماً(1) .
***
________________________________________
1. السير والجوابات لعلماء وأئمّة عمان 2/325 ـ 345 تحقيق الاُستاذة الدكتورة سيدة إسماعيل كاشف، ط وزارة التراث القومي والثقافة سلطنة عمان، والجواهر المنتقاة 156 ـ 162، وازالة الوعثاء عن اتباع أبي الشعثاء 86 ـ 101 .
 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية