ثورة التوابين في الكوفة

البريد الإلكتروني طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 7 ، ص 246 ـ  257
________________________________________
(246)
3
ثورة التوابين في الكوفة

إنّ ثورة أهل المدينة على عامل يزيد وإخراجه من المدينة، وحركة ابن الزبير واستيلاوَه على الحجاز والعراق، لم يكن ردّ فعل مباشر لقتل الحسين ـ عليه السلام ـ وإن كانا متأثرين من ثورته وحركته، وهذا بخلاف حركة التوابين فقد كانت ردّ فعل مباشر لقتله، حيث أحسّوا أنّهم قصّروا في حقّ إمامهم، إذ دعاهم فلم يجيبوا، وذلك عار عليهم. يتبعهم عذاب أليم، وأنّه لا يغسل العار والاَثم عنهم إلاّ بالثورة على قاتليه وعلى رأسهم، النظام الحاكم.
يقول الطبري: «لما قتل الحسين بن علي ورجع ابن زياد من معسكره بالنخيلة فدخل الكوفة، تلاقت الشيعة بالتلاوم والتندّم، ورأت أنّها قد أخطأت خطأ كبيراً، بدعائهم الحسين إلى النصرة، وتركهم إجابته ومقتله إلى جانبهم، لم ينصروه، ورأوا أنّه لا يُغسل عارهم والاِثم عنهم في مقتله إلاّ بقتل من قتله أو القتل فيه ففزعوا بالكوفة إلى خمسة نفر من روَوس الشيعة:
1ـ سليمان بن صرد الخزاعي، وكانت له صحبة مع النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _.
2 ـ المسيب بن نَجَبة الفزاري، وكان من أصحاب علي _ عليه السلام _ وخيارهم.
3 ـ عبد اللّه بن سعد بن نفيل الاَزدي.
4 ـ عبد اللّه بن وال التيميّ.
5 ـ رفاعة بن شدّاد البجلي.
إنّ هوَلاء النفر الخمسة اجتمعوا في منزل سليمان بن صرد وكانوا من خيار
________________________________________
(247)
أصحاب علي ومعهم أُناس من الشيعة وخيارهم ووجوههم قال: فلمّا اجتمعوا إلى منزل سليمان بن صرد بدأ المسيب بن نجبة القوم بالكلام وقال:
1 ـ قـد ابتلينا بطول العمر والتعرض لاَنواع الفتن، فنرغب إلى ربّنا ألاّ يجعلنا ممن يقول له غداً: "أوَلَم نُعَمِّركُم ما يَتَذَكَّرُ فِيه مَن تَذَكَّر وجاءَكُمُ النَّذِير")(1).
فإنّ أمير الموَمنين _ عليه السلام _ قال:
العمر الذي أعذر اللّه فيه إلى ابن آدم ستون سنة، وليس فينا رجل إلاّ وقد بلغه وقد كنّا مغرمين بتزكية أنفسنا، وتفريط شيعتنا حتى بلا اللّه أخيارنا فوجدنا كاذبين، في موطنين من مواطن ابن ابنة نبينا _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وقد بلغتنا قبل ذلك كتبه وقدمت علينا رسله، وأعذر إلينا، يسألنا نصره عوداً وبدءاً، وعلانية وسرّاً فبخلنا عنه بأنفسنا حتى قُتِل إلى جانبنا، لا نحن نصرناه بأيدينا، ولا جادلنا عنه بألستنا ولا قوّيناه بأموالنا، ولا طلبنا له النصرة إلى عشائرنا، فما عذرنا إلى ربّنا وعند لقاء نبينا _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وقد قُتِلَ فينا ولده وحبيبه وذريته ونسله، لا واللّه لا عذر دون أن تقتلوا قاتله، والموالين عليه، أو تقتلوا في طلب ذلك فعسى ربّنا أن يرضى عنّا ذلك، وما أنا بعد لقائه، لعقوبته بآمن.
أيّها القوم ولّوا عليكم رجلاً منكم فإنّه لابد لكم من أمير تفزعون إليه، وراية تحفون بها أقول قولي وأستغفر اللّه لي ولكم.
2 ـ وتكلّم رفاعة بن شداد وقال: إنّ اللّه قد هداك لاَصوب القول ودعوت إلى أرشد الاَُمور، ودعوت إلى جهاد الفاسقين، وإلى التوبة من الذنب العظيم، فمسموع منك، مستجاب لك، مقبول قولك قلت: ولّوا أمركم رجلاً منكم، تفزعون إليه، وتحفون برايته وذلك رأي قد رأينا مثل الذي رأيت، فإن تكن أنت
________________________________________
(1) فاطر: 37.
________________________________________
(248)
ذلك الرجل تكن عندنا مرضياً، وفينا متنصّحاً وفي جماعتنا محباً، وإن رأيت ورأى أصحابنا ذلك ولّينا هذا الاَمر شيخ الشيعة صاحب رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وذا السابقة والقدم، سليمان بن صرد المحمود في بأسه ودينه، الموثوق بحزمه.
ثم تكلّم كل من عبد اللّه بن وال، وعبد اللّه بن سعد وتكلّما بنحو من كلام رفاعة بن شداد فذكرا المسيب بن نجبة بفضله، وذكرا سليمان بن صرد بسابقته ورضاهما بتوليته.
3 ـ تكلّم سليمان بن صرد وقال: فإنّي واللّه لخائف ألاّ يكون آخرنا إلى هذا الدهر الذي نكدت فيه المعيشة، وعظمت فيه الرزية وشمل فيه الجور أُولي الفضل من هذه الشيعة لما هو خير، إنّا كنّا نمد أعناقنا إلى قدوم آل نبينا، ونمنِّيهم النصر ونحثهم على القدوم، فلما قدموا ونَينا وعجزنا، وأدهنّا وتربصنا وانتظرنا ما يكون، حتى قتل فينا، ولدينا ولد نبينا وسلالته وعصارته وبضعة من لحمه ودمه، إذ جعل يستصرخ ويسأل النصف فلا يُعطاه، إتخذه الفاسقون غرضاً للنبل، ودريئة للرماح حتى أقصدوه، وعدوا عليه فسلبوه. ألا انهضوا فقد سخط عليكم ربّكم، ولا ترجعوا إلى الحلائل والاَبناء حتى يرضى اللّه، واللّه ما أظنه راضياً دون أن تناجزوا مَنْ قتله أو تبيروا، ألا لا تهابوا الموت فواللّه ما هابه امروَ قطّ إلاّ ذلّ، كونوا كالاولى من بني إسرائيل إذ قال لهم نبيهم "إنَّكُمْ ظَلَمتُمْ أنْفُسَكُمْ باتّخاذِكُمُ العِجْلَ فَتُوبُوا إلى بارِئِكُمْ فَاقتُلوا أنْفُسَكُمْ ذلكُمْ خَيرٌ لَكُمْ عِندَ بارِئِكُمْ") فما فعل القوم جثوا على الركب واللّه ومدّوا الاَعناق ورضوا بالقضاء حتى حين علموا أنّه لا ينجيهم من عظيم الذنب إلاّ الصبر على القتل، فكيف بكم لو قد دعيتم إلى مثل ما دعي القوم إليه، أشحذوا السيوف وركّبوا الاَسنة وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل حتى تدعوا حين تدعوا وتستنفروا:
4 ـ فقام خالد بن سعد بن نفيل فقال: أمّا أنا فواللّه لو أعلم أنّ قتلي نفسي
________________________________________
(249)
يخرجني من ذنبي ويرضي عنّي ربّي لقتلتها، ولكن هذا أُمر به قوم كانوا قبلنا، ونُهينا عنه فأُشهد اللّه ومن حضر من المسلمين أنّ كلّ ما أصبحت أملكه سوى سلاحي الذي أُقاتل به عدوّي، صدقة على المسلمين أُقوّيهم به على قتال القاسطين.
5 ـ وقام أبو المعتمر حنش بن ربيعة الكناني فقال: وأنا أُشهدكم على مثل ذلك، فقال سليمان بن صرد: حسبكم من أراد من هذا شيئاً، فليأت بماله عبد اللّه ابن وال التيمي تيم بكر بن وائل، فإذا اجتمع عنده كلّ ما تريدون إخراجه من أموالكم، جهزنا به ذوي الخُلَّة والمسكنة من أشياعكم (1)
6 ـ ثم أخذ سليمان بن صرد يكاتب وجوه الشيعة في الاَطراف وكتب سليمان بن صرد: إلى سعد بن حذيفة اليمان (2)يعلمه بما عزموا عليه، ويدعوه إلى مساعدتهم، ومن معه من الشيعة بالمدائن، فقرأ سعد بن حذيفة الكتاب على من بالمدائن من الشيعة فأجابوا إلى ذلك فكتبوا إلى سليمان بن صرد يعلمونه أنّهم على الحركة إليه والمساعدة له.
وكتب سليمان أيضاً كتاباً إلى المثنّى بن مخربة العبدي بالبصرة مثل ما كتب إلى سعد بن حذيفة فأجابه المثنى: إننّا معشر الشيعة حمدنا اللّه على ما عزمتم عليه، ونحن موافوك إن شاء اللّه للاَجل الذي ضربت وكتب في أسفله أبياتاً (3)
لم يزل القوم في جمع آلة الحرب والاستعداد للقتال ودعاء الناس ـ في السر ـ إلى الطلب بدم الحسين فكان يجيبهم القوم بعد القوم، والنفر بعد النفر ولم يزالوا على ذلك إلى أن هلك يزيد بن معاوية سنة أربع وستين.
فلمّـا مات يزيد جاء إلى سليمان أصحابه فقالوا: قد هلك هذا الطاغية،
________________________________________
(1) الطبري: التاريخ: 4|426 ـ 428.
(2) لاحظ نصّ الكتاب: تاريخ الطبري: 4|429 ـ 430.
(3) ابن الاَثير: الكامل: 4|158 ـ 162، الطبري: التاريخ: 431.

________________________________________
(250)
والاَمر ضعيف فإن شئت وثبنا على عمرو بن حريث، وكان خليفة ابن زياد على الكوفة ثم أظهرنا الطلب بدم الحسين وتتبّعنا قتلته ودعونا الناس إلى أهل هذا البيت المستأثر عليهم، المدفوعين عن حقهم.
فقال سليمان بن صرد: لاتعجلوا، إنّي قد نظرت فيما ذكرتم فرأيت أنّ قتلة الحسين هم أشراف الكوفة وفرسان العرب وهم المطالبون بدمه، ومتى علموا ما تريدون كانوا أشدّ الناس عليكم، ونظرت فيمن تبعني منكم فعلمت أنّهم لو خرجوا لم يدركوا ثأرهم، ولم يشفوا نفوسهم، وكانوا جَزَرَاً لعدوهم ولكن بثّوا دعاتكم وادعوا إلى أمركم هذا، شيعتكم وغير شيعتكم فإنّي أرجو أن يكون الناس اليوم حيث هلك هذا الطاغية أسرع إلى أمركم استجابة منهم قبل هلاكه، ففعلوا واستجاب لهم ناس كثير بعد هلاك يزيد، وهم يريدون قتال أهل الشام الذين أقاموا دعائم عرش يزيد، وعدم التعرض بمن في الكوفة من قتلة الحسين ـ عليه السلام ـ على جانب الخلاف من ثورة المختار.
مسير التوابين:
لما أراد سليمان بن صرد الخزاعي الشخوص سنة خمس وستين بعث إلى روَوس أصحابه فأتوه، فلمّا أهلّ ربيع الآخر خرج في وجوه أصحابه وكانوا تواعدوا للخروج في تلك الليلة، فلمّا أتى النخيلة دار في الناس فلم يعجبه عددهم فأرسل حكيم بن منقذ الكندي، والوليد بن عصير الكناني في الكوفة فناديا: يالثارات الحسين فكانا أوّل (1)خلق اللّه دعوا يالثارات الحسين.
فأصبح من الغد وقد أتاه نحو مما في عسكره، ثم نظر في ديوانه فوجدهم ستة عشر ألفاً ممن بايعه فقال: سبحان اللّه ما وافانا من ستة عشر ألفاً إلاّ أربعة
________________________________________
(1) لقد سبق أنّه أوّل من دعا به، هو امرأة من بني بكر بن وائل يوم عاشورا عند إضرام النار في الخيام.
________________________________________
(251)
آلاف. فأقام بالنخيلة ثلاثاً يبعث إلى من تخلف عنه فخرج إليه نحو من ألف رجل. ثم قام سليمان في أصحابه فقال: أيّها الناس من كان خرج، يريد بخروجه وجه اللّه والآخرة فذلك منّا، ونحن منه، ومن كان يريد الدنيا فواللّه ما نأتي فيئاً نأخذه وغنيمة نغنمها ما خلا رضوان اللّه. فتنادى أصحابه من كل جانب: إنّا لا نطلب الدّنيا وإنّما خرجنا نطلب التوبة والطلب بدم ابن بنت رسول اللّه نبينا _ صلى الله عليه وآله وسلم _ .
فسار سليمان عشية يوم الجمعة لخمس مضين من ربيع الآخر سنة خمس وستين فوصل دار الاَهواز، ثم ساروا فانتهوا إلى قبر الحسين فلمّا دخلوا صاحوا صيحة واحدة فما رئي أكثر باكياً من ذلك اليوم فترحموا عليه وتابوا عنده من خذلانه، وترك القتال معه، وأقاموا عنده يوماً وليلة يبكون ويتضرعون ويترحمون عليه وعلى أصحابه، وكان قولهم عند ضريحه: «اللّهمّ إرحم حسيناً الشهيد ابن الشهيد المهدي ابن المهدي، الصديق ابن الصديق، اللّهمّ إنّا نشهدك إنّا على دينهم وسبيلهم وأعداء قاتليهم، وأولياء محبيهم. اللّهمّ إنّا خذلنا ابن بنت نبينا _ صلى الله عليه وآله وسلم _ فاغفر لنا ما مضى، منّا وتب علينا وارحم حسيناً وأصحابه الشهداء الصديقين وإنّا نشهدك أنّا على دينهم، وعلى ماقتلوا عليه. وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين. وزادهم النظر إليه حنقاً.
ثم ساروا بعد أن كان الرجل يعود إلى ضريحه كالمودع له، فازدحم الناس عليه أكثر من ازدحامهم على الحجر الاَسود، ثم أخذوا على الاَنبار وكتب إليهم عبد اللّه بن يزيد كتاباً يثبطّهم عن السير إلى الشام وقتال العدو ولما وصل الكتاب إلى سليمان قرأه على أصحابه، فكتب إليه جواباً ـ بعد أن شكره وأثنى عليه ـ: أنّ القوم قد استبشروا ببيعهم أنفسهم من ربّهم، وأنّهم قد تابوا من عظيم ذنبهم وتوجهوا إلى اللّه وتوكلوا عليه ورضوا بما قضى اللّه عليهم.
________________________________________
(252)
ثم ساروا حتى انتهوا إلى «قرقيسيا» على تعبئة وبها زفر بن الحارث الكلابي وقد فتح باب حصنه بعد ما عرف أن فيهم المسيّب بن نجبة فأخرج لهم سوقاً وأمر للمسيب بألف درهم وفرس، فردّ المال وأخذ الفرس وقال: لعلّي أحتاج إليه إن عرج فرسي، وبعث «زفر» إليهم، بخبز كثير وعلف ودقيق حتى استغنى الناس عن السوق.
ثم ارتحلوا من الغد، وخرج «زفر» يشيّعهم وقال لسليمان أنّه قد سار خمسة أُمراء من الرقة هم: الحصين بن نمير، وشرحبيل بن ذي الكلاع، وأدهم بن محرز، وجبلة بن عبد اللّه الخثعمي، وعبيد اللّه بن زياد، في عدد كثير مثل الشوك والشجر، ثم اقترح عليهم أن ينزلوا بديرهم حتى يكونوا يد واحدة على العدو الشاميين، فإذا جاءنا هذا العدو، قاتلناهم جميعاً. فلم يقبل سليمان وقال: قد طلب أهل مصر ذلك منّا فأبينا عليهم. ثم ساروا مجدّين فانتهوا إلى عين الوردة فنزلوا غربيّها وأقاموا خمساً فاستراحوا وأراحوا.
وأقبل أهل الشام في عساكرهم حتى كانوا من عين الوردة على مسيرة يوم وليلة، فقام سليمان في أصحابه وذكر الآخرة ورغب فيها ثم قال: أمّا بعد فقد أتاكم عدوكم الذي دأبتم إليه في السير آناء الليل والنهار، فإذا لقيتموهم فأصدقوهم القتال واصبروا إنّ اللّه مع الصابرين ثم قال: إن أنا قتلت فأمير الناس مسيب بن نجبة، فإن قتل، فالاَمير عبد اللّه بن سعد بن نفيل، فإن قتل، فالاَمير عبد اللّه بن وال، فإن قتل، فالاَمير رفاعة بن شداد، رحم اللّه امرئاً صدق ما عاهد اللّه عليه.
كان أدنى عسكر من عساكر الشام هو عسكر شرحبيل بن ذي الكلاع، وكان على رأس ميل فسار المسيّب ومن معه مسرعين فأشرفوا عليهم وهم غارّون، فحملوا في جانب عسكرهم فانهزم العسكر وأصحاب المسيب منهم رجالاً فأكثروا فيهم الجراح وأخذوا الدواب وخلّـى الشاميون عسكرهم وانهزموا، فغنم
________________________________________
(253)
منه أصحاب المسيّب ما أرادوا ثم انصرفوا إلى سليمان موفورين.
وبلغ الخبر ابن زياد فسرّح الحصين بن نمير مسرعاً حتى نزل في اثني عشر ألفاً، فخرج أصحاب سليمان إليه لاَربع بقين من جمادي الاَُولى، وعلى ميمنتهم عبد اللّه بن سعد، وعلى ميسرتهم المسيّب بن نجبة وسليمان في القلب، وجعل الحصين على ميمنته جملة بن عبد اللّه (1) وعلى ميسرته ربيعة بن المخارق الغنوي فلمّا دنا بعضهم من بعض دعاهم أهل الشام إلى الجماعة على عبد الملك بن مروان، ودعاهم أصحاب سليمان إلى خلع عبد الملك وتسليم عبيد اللّه بن زياد إليهم وأنّهم يخرجون من بالعراق من أصحاب ابن الزبير ثم يرد الاَمر إلى أهل بيت النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ فأبى كل منهم، فحملت ميمنة سليمان على ميسرة الحصين، والميسرة أيضاً على الميمنة، وحمل سليمان في القلب على جماعتهم، فانهزم أهل الشام إلى عسكرهم، وما زال الظفر لاَصحاب سليمان إلى أن حجز بينهم الليل.
فلمّا كان الغد صبّح الحصين جيش مع ابن ذي الكلاع ثمانية الآف، أمدهم بهم عبيد اللّه بن زياد، وخرج أصحاب سليمان فقاتلوهم قتالاً لم يكن أشد منه جميع النهار، لم يحجز بينهم إلاّ الصلاة، فلمّا أمسوا تحاجزوا وقد كثرت الجراح في الفريقين، وطاف القصّاص على أصحاب سليمان يحرضونهم.
فلمّا أصبح أهل الشام أتاهم أدهم بن محرز الباهلي في نحو من عشرة آلاف من ابن زياد، فاقتتلوا يوم الجمعة قتالاً شديداً إلى ارتفاع الضحى، ثم إنّ أهل الشام كثروهم وتعطفوا عليهم من كل جانب، ورأى سليمان ما لقي أصحابه، فنزل ونادى: عباد اللّه من أراد البكور إلى ربّه والتوبة من ذنبه فإلي. ثم كسر جفنة سيفه ونزل معه ناس كثير وكسروا جفون سيوفهم ومشوا معه، فقاتلوهم، فقتل من أهل الشام مقتلة عظيمة وجرحوا فيهم فأكثروا الجراح. فلمّـا رأى الحُصين صبرهم
________________________________________
(1) كذا في النسخة.
________________________________________
(254)
وبأسهم، بعث الرجّالة ترميهم بالنبل واكتنفتهم الخيل والرجال، فقتل سليمان، رحمه اللّه، رماه يزيد بن الحصين بسهم فوقع ثم وثب ثم وقع.
فلمّا قُتل سلمان أخذ الراية المسيب بن نجبة وترحّم على سليمان ثم تقدّم فقاتل بها ساعة ثم رجع ثم حمل. فعل ذلك مراراً، ثم قتل، رحمه اللّه، بعد أن قتل رجالاً.
فلمّا قتل أخذ الراية عبد اللّه بن سعد بن نفيل وترحّم عليهما، ثم قرأ: "فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ ومنهُمْ مَنْ يَنْتَظِرْ وَما بَدَّلُوا تَبدِيلا") وحفّ به من كان معه من الاَزد. فبينما هم في القتال أتاهم فرسان ثلاثة من سعد بن حذيفة، يخبرون بمسيرهم في سبعين ومائة من أهل المدائن، ويخبرون أيضاً بمسير أهل البصرة مع المثنى بن مخربة العبدي في ثلاثمائة، فسرّ الناس فقال عبد اللّه بن سعد: ذلك لو جاءُونا ونحن أحياء.
فلمّا نظر الرسل إلى مصارع إخوانهم ساءهم ذلك واسترجعوا وقاتلوا معهم، وقتل عبد اللّه بن سعد بن نفيل، قتله ابن أخي ربيعة بن مخارق، وحمل خالد بن سعد بن نفيل على قاتل أخيه فطعنه بالسيف، واعتنقه الآخر فحمل أصحابه عليه فخلّصوه بكثرتهم وقتلوا خالداً، وبقيت الراية ليس عندها أحد، فنادوا عبد اللّه بن وال فإذا هو قد اصطلى الحرب في عصابة معه، فحمل رفاعة بن شداد فكشف أهل الشام عنه، فأتى فأخذ الراية وقاتل ملياً ثم قال لاَصحابه: من أراد الحياة التي ليس بعدها موت، والراحة التي ليس بعدها نصب، والسرور الذي ليس بعده حزن، فليتقرب إلى اللّه بقتال هوَلاء المحلّين، والرواح إلى الجنّة، وذلك عند العصر فحمل هو وأصحابه فقتلوا رجالاً وكشفوهم.
ثم إنّ أهل الشام تعطفوا عليهم من كل جانب حتى ردوهم إلى المكان الذي كانوا فيه، وكان مكانهم لا يوَتى إلاّ من وجه واحد، فلما كان المساء تولى قتالهم
________________________________________
(255)
أدهم بن محرز الباهلي فحمل عليهم في خيله ورجله، فوصل ابن محرز إلى ابن وال وهو يتلو: "ولا تَحْسَبَنَّ الّذِينَ قُتِلُوا في سَبيلِ اللّهِ أَمْواتاً") الآية، فغاظ ذلك أدهم بن محرز فحمل عليه، فضرب يده فأبانها ثم تنحى عنه وقال: إنّي أظنك وددت أنّك عند أهلك. قال ابن وال: بئس ما ظننت، واللّه ما أحبّ أنّ يدك مكانها إلاّ أن يكون لي من الاَجر مثل ما في يدي ليعظم وزرك ويعظم أجري. فغاظه ذلك أيضاً، فحمل عليه وطعنه فقتله وهو مقبل ما يزول. وكان ابن وال من الفقهاء العبّاد.
فلمّا قتل أتوا رفاعة بن شداد البجليّ وقالوا: لتأخذ الراية. فقال: إرجعوا بنا لعلّ اللّه يجمعنا ليوم شرهم. فقال له عبد اللّه بن عوف بن الاَحمر: هلكنا واللّه، لئن انصرفت ليركبنّ أكتافنا فلا نبلغ فرسخاً حتى نهلك عن آخرنا، وإن نجا منّا ناج أخذته العرب يتقرّبون به إليهم فقتل صبراً، هذه الشمس قد قاربت الغروب فنقاتلهم على خيلنا، فإذا غسق الليل ركبنا خيولنا أوّل الليل وسرنا حتى نصبح ونسير على مهل، ويحمل الرجل صاحبه وجريحه ونعرف الوجه الذي نأخذه. فقال رفاعة: نعم ما رأيت، وأخذ الراية وقاتلهم قتالاً شديداً، ورام أهل الشام إهلاكهم قبل الليل فلم يصلوا إلى ذلك لشدّة قتالهم، وتقدّم عبد اللّه بن عزير الكناني فقاتل أهل الشام ومعه ولده محمد وهو صغير، فنادى بني كنانة من أهل الشام وسلّم ولده إليهم ليوصلوه إلى الكوفة، فعرضوا عليه الاَمان، فأبى ثم قاتلهم حتى قتل.
وتقدّم كرب بن يزيد الحميري عند المساء في مائة من أصحابه فقاتلهم أشد قتال، فعرض عليه وعلى أصحابه ابن ذي الكلاع الحميري الاَمان، قال: قد كنّا آمنين في الدنيا وإنّما خرجنا نطلب أمان الآخرة، فقاتلوهم حتى قتلوا وتقدّم صخر ابن هلال المزني في ثلاثين من مزينة فقاتلوا حتى قتلوا.
فلما أمسوا رجع أهل الشام إلى معسكرهم، ونظر رفاعة إلى كل رجل قد
________________________________________
(256)
عُقِربه فرسُه وجُرِح فدفعه إلى قومه ثم سار بالناس ليلته، وأصبح الحصين ليلتقيهم فلم يرهم، فلم يبعث في آثارهم، وساروا حتى أتوا قرقيسيا فعرض عليهم زفر الاِقامة، فأقاموا ثلاثاً، فأضافهم ثم زودهم وساروا إلى الكوفة.
ثم أقبل سعد بن حذيفة بن اليمان في أهل المدائن فبلغ «هيت» فأتاه الخبر، فرجع فلقي المثنى بن مخرَّبة العبدي في أهل البصرة بصندوداء، فأخبره، فأقاموا حتى أتاهم رفاعة فاستقبلوه، وبكى بعضهم إلى بعض وأقاموا يوماً وليلة ثم تفرقوا، فسار كل طائفة إلى بلدهم.
ولما بلغ رفاعة الكوفة كان المختار محبوساً، فأرسل إليه: أمّا بعدّ فمرحباً بالعصبة الذين عظّم اللّه لهم الاَجر، حين انصرفوا ورضي فعلهم حين قُتِلوا، أما وربّ البيت ما خطا خاط منكم خطوة، ولا ربا ربوة، إلاّ كان ثواب اللّه له أعظم من الدنيا. إنّ سليمان قد قضى ما عليه، وتوفّاه اللّه، وجعل وجهه مع أرواح النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ولم يكن بصاحبكم الذي به تنصرون، إنّي أنا الاَمير المأمور، والاَمين المأمون، وقاتل الجبارين، والمنتقم من أعداء الدين، المقيّد من الاَوتار، فأعدوا واستعدوا وأبشروا، أدعوكم إلى كتاب اللّه، وسنّة نبيه، والطلب بدم أهل البيت، والدفع عن الضعفاء وجهاد المحلين، والسلام» (1)
هذه هي ثورة التوابين، المشرقة، وهممهم العالية، وتفاديهم في سبيل الهدى، وقد بُذل لهم الاَمان فلم يقبلوا فقد: "صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه") (2)فقد قاموا بواجبهم فما رجع منهم إلاّ قليل بعد اليأس من الغلبة على العدو فرجعوا إلى أوطانهم ولحقوا بعشائرهم وبذلك ابتغوا أنّ الوظيفة بعد باقية، على عاتقهم.
وهناك كلمة قيمة للمحقّق شمس الدين نأت بها: «لقد اعتبر التوابون أنّ
________________________________________
(1) الجزري: الكامل: 4|175 ـ 186.
(2) الاَحزاب: 23.

________________________________________
(257)
المسوَول الاَوّل والاَهم عن قتل الحسين _ عليه السلام _ هو النظام، وليس الاَشخاص وكانوا مصيبين في هذا الاعتقاد ولذا نراهم توجّهوا إلى الشام ولم يلقوا بالاً إلى من في الكوفة من قتلة الحسين _ عليه السلام _ (1)
إنّ هذه الثورة قد انبعثت عن شعور بالاِثم والندم، وعن رغبة في التكفير فمن يقرأ أقوالهم وكتبهم وخطبهم، يلمس فيها الشعور العميق بالاِثم والندم، والرغبة الحارة عن التكفير، وكونها صادرة عن هذه البواعث، جعلها ثورة انتحارية فالثائرون يريدون الانتقام والتكفير ـ ومع ذلك ـ إنّها أثّرت في مجتمع الكوفة تأثيراً عميقاً فقد عبّأت خطبُ قادات هذه الثورة وشعاراتهم، الجماهير في الكوفة للثورة على الحكم الاَموي.
________________________________________
(1) محمد مهدي شمس الدين: ثورة الحسين: 264.
 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية