الاَحداث الدافعة إلى خروجه

البريد الإلكتروني طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 7 ، ص 287 ـ  294
________________________________________
(287)
حول الاَحداث الجزئية الدافعة إلى الخروج :
قد تعرفت على الدافع الواقعي لثورته غير أنّ الموَرخين ذكروا أسباباً أُخرى لخروجه لو صحت فإنّما يعتبر كونها معدات للثورة، وأسباباً لتفجّرها وتقدّمها لا أنّها كوّنت فكرة الثورة في نفسه، وفي غضون ما نذكره من الاَسباب دلالة واضحة على أنّ الفكرة تكوّنت قبل وقوع هذه الاَسباب وإليك بيانها:
1 ـ اتهامه بأخذ الجائزة من خالد القسري :
كان خالد بن عبد اللّه القسري عامل هشام على العراق فعزله ونصب يوسف بن عمر مكانه، وتتبع الوالي الثاني مزالق أقدام خالد، العامل الاَوّل وكتب إلى هشام:
إنّ خالداً ابتاع من زيد، أرضاً بالمدينة بعشرة آلاف دينار، ثم ردّ الاَرض عليه، فكتب هشام إلى عامل المدينة أن يسيّرهم إليه، ففعل، فسألهم هشام عن ذلك فأقرّوا بالجائزة وأنكروا ما سوى ذلك وحلفوا، فصدّقهم وأمرهم بالمسير إلى العراق ليقابلوا خالداً، فساروا على كره وقابلوا خالداً، فصدّقهم، فعادوا نحو المدينة. فلمّا نزلوا القادسية راسل أهل الكوفة زيداً فعاد إليهم.
وقيل: بل ادّعى خالد بن عبد اللّه القسري أنّه أودع زيداً وداود بن علي ونفراً من قريش مالاً، فكتب يوسف بذلك إلى هشام، فأحضرهم هشام من
________________________________________
(288)
المدينة وسيّرهم إلى يوسف ليجمع بينهم وبين خالد فقدموا عليه، فقال يوسف لزيد: إنّ خالداً زعم أنّه أودعك مالاً. قال: كيف يودعني وهو يشتم آبائي على منبره؟! فأرسل إلى خالد فأحضره في عباءة، فقال: هذا زيد قد أنكر أنّك قد أودعته شيئاً. فنظر خالد إليه وإلى داود بن علي وقال ليوسف: أتريد أن تجمع مع إثمك فيّ إثماً في هذا؟ كيف أودعه وأنا أشتمه وأشتم آباءه على المنبر! فقالوا لخالد: ما دعاك إلى ما صنعت؟ قال: شدّدَ عليّ العذاب فادّعيت ذلك وأمَّلت أن يأتي اللّه بفرج قبل قدومكم. فرجعوا وأقام زيد وداود بالكوفة.
وقيل: إنّ يزيد بن خالد القسري هو الذي ادّعى المال وديعة عند زيد.
فلمّا أمرهم هشام بالمسير إلى العراق إلى يوسف استقالوه خوفاً من شر يوسف وظلمه، فقال: أنا أكتب إليه بالكفّ عنكم، وألزمه بذلك، فساروا على كره.
وجمع يوسف بينهم وبين يزيد، فقال يزيد: [ما] لي عندهم قليل ولا كثير. قال يوسف: أبيَ تهزأ أم بأمير الموَمنين؟ فعذبه يومئذ عذاباً كاد يهلكه، ثم أمر بالفرّاشين فضُـربوا وترك زيداً. ثم استحلفهم وأطلقهم، فلحقوا بالمدينة، وأقام زيد بالكوفة، وكان زيد قد قال لهشام لما أمره بالمسير إلى يوسف: ما آمن إن بعثتني إليه أن لا نجتمع أنا وأنت حيّين أبداً. قال: لابد من المسير إليه، فساروا إليه(1).
لا شك أنّ هذا الحديث مهما كان صحيحاً، لا يكون مبرراً للثورة، لو لم يكن هناك عنصر قوي دفعه إليها. وأظن أنّ الوالي المتتبع لعثرات الوالي الاَوّل اتّهمه بأنّه ابتاع من زيد أرضاً بالمدينة بعشرة آلاف دينار ثم ردّ الاَرض عليه ولم يكن هناك أي بيع وشراء، خصوصاً، البائع يقطن المدينة والمشتري والى العراق، والاَرض المشتراة في المدينة، ومن أين لزيد مثل هذه الاَرض بهذه القيمة العالية؟
________________________________________
(1) ابن الاَثير الجزري: 5|229 ـ 230.
________________________________________
(289)
وأمّا ما نقل عن خالد، من أنّه اعترف على زيد بأنّه أودع عنده، فلعله ذكره ليرفع العذاب عن نفسه ولم يكن عنده ولا عند غيره شيء فلذلك لما جمعهم يوسف ابن عمر تكلم بالحقيقة، وقال: كيف أودعه وأنا أشتمه وأشتم آبائه؟! وعلى كل تقدير فهذا الحدث وإن كان ثقيلاً على مثل زيد لكن لا يكوّن الثورة في نفسه بل يعرب عن تكوّنه قبل هذا الحدث ولاَجل ذلك قال لهشام: ما آمن إن بعثتني إليه أن لا نجتمع أنا وأنت حيين أبداً.
2 ـ التخاصم في الاَوقاف :
كان للنبي الاَكرم _ صلى الله عليه وآله وسلم _ وفاطمة وعلي ـ عليهما السلام ـ أوقافاً يتوّلاها بنو الحسن وبنو الحسين وربما جرت بينهما مشاجرات وقد نقله غير واحد من الموَرخين نأتي بنص الجزري حيث قال:
كان السبب في ذلك أنّ زيداً كان يخاصم ابن عمه جعفر بن الحسن بن الحسن بن علي في [ولايةج وقوف علي _ عليه السلام _، [وكان] زيد يخاصم عن بني الحسين _ عليه السلام _، وجعفر يخاصم عن بني الحسن _ عليه السلام _، فكانا يتبالغان [بين يدي الوالي إلىج كل غاية ويقومان فلا يعيدان مما كان بينهما حرفاً.
فلمّا مات جعفر نازعه عبد اللّه بن الحسن بن الحسن، فتنازعا يوماً بين يدي خالد بن عبد الملك بن الحارث بالمدينة، فأغلظ عبد اللّه لزيد وقال: يابن السندية! فضحك زيد وقال: قد كان إسماعيل لاَمة ومع ذلك فقد صبرت بعد وفاة سيدها إذ لم يصبر غيرها، يعني فاطمة ابنة الحسين أُم عبد اللّه، فإنّها تزوجت بعد أبيه الحسن بن الحسن، ثم ندم زيد واستحيا من فاطمة، وهي عمته، فلم يدخل عليها زماناً، فأرسلت إليه: يابن أخي إنّي لاَعلم أنّ أُمّك عندك كأُمّ عبد اللّه عنده. وقالت لعبد اللّه: بئس ما قلت لاَُم زيد ! أما واللّه لنعم دخيلة القوم كانت! قال: فذكر أنّ خالداً قال لهما: أُغدوا علينا غداً فلست لعبد الملك إن لم أفصل
________________________________________
(290)
بينكما. فباتت المدينة تغلي كالمرجل، يقول قائل: قال زيد كذا، ويقول قائل: قال عبد اللّه كذا.
فلما كان الغد جلس خالد في المسجد واجتمع الناس فمن بين شامت ومهموم، فدعا بهما خالد وهو يحب أن يتشاتما، فذهب عبد اللّه يتكلم، فقال زيد: لاتعجل يا أبا محمد، أعْتَقَ زَيد ما يملك إن خاصمك إلى خالد أبداً. ثم أقبل على خالد فقال: جمعت ذرية رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ لاَمرٍ ما كان يجمعهم عليه أبو بكر ولا عمر! فقال خالد: أما لهذا السفيه أحد؟ فتكلم رجل من الاَنصار من آل عمرو بن حزم فقال: يا ابن أبي تراب وابن حسين السفيه! أما ترى للوالي عليك حقاً ولا طاعة؟ فقال زيد: اسكت أيّها القحطاني فإنّا لا نجيب مثلك. قال: ولِـمَ ترغب عني؟ فو اللّه إنّي لخير منك، وأبي خير من أبيك، وأُمي خير من أُمّك. فتضاحك زيد وقال: يامعشر قريش هذا الدين قد ذهب فذهبت الاَحساب، فواللّه ليذهب دين القوم وما تذهب أحسابهم. فتكلم عبد اللّه بن واقد بن عبد اللّه بن عمر بن الخطاب، فقال: كذبت واللّه أيّها القحطاني! فواللّه لهو خير منك نفساً وأُماً وأباً ومحتداً. وتناوله بكلام كثير، وأخذ كفاً من حصباء وضرب بها الاَرض ثم قال: إنّه واللّه ما لنا على هذا من صبر.
وشخص (1) زيد إلى هشام بن عبد الملك، فجعل هشام لا يأذن له ، فيرفع إليه القصص، فكلّما رفع قصة يكتب هشام في أسفلها: أرجع إلى أميرك، فيقول زيد: واللّه لا أرجع إلى خالد أبداً. ثم أذن له يوماً بعد طول حبس ورَقِيَ (2)عليّة طويلة، وأمر خادماً أن يتبعه بحيث لا يراه زيد ويسمع ما يقول، فصعد زيد، وكان
________________________________________
(1) سياق العبارة: أنّ شخوصه إلى هشام كان لحل عقدة تولية الاَوقاف: ولكنه غير صحيح لما سيوافيك في تعليقنا للقصة.
(2) أي هشام بن عبد الملك.

________________________________________
(291)
بديناً، فوقف في بعض الدرجة، فسمعه يقول: واللّه لا يحب الدنيا أحد إلاّ ذلّ. ثم صعد إلى هشام فحلف له على شيء، فقال: لا أُصدقك، فقال: يا أمير الموَمنين إنّ اللّه لم يرفع أحداً عن أن يرضى باللّه، ولم يضع أحداً عن ألاّ يرضى بذلك منه. فقال هشام: لقد بلغني يازيد أنّك تذكر الخلافة وتتمناها ولست هنالك وأنت ابن أمة. قال زيد: إنّ لك جواباً. قال: فتكلم. قال: إنّه ليس أحد أولى باللّه ولا أرفع درجة عنده من نبي ابتعثه، وقد كان إسماعيل ابن أمة وأخوه ابن صريحة فاختاره اللّه عليه وأخرج منه خير البشر، وما على أحد من ذلك إذ كان جده رسول اللّه وأبوه علي بن أبي طالب ما كانت أُمّه. قال له هشام: أُخرج. قال: أخرجُ ثم لا أكون إلاّ بحيث تكره. فقال له سالم: يا أبا الحسين لاتظهرن هذا منك.
فخرج من عنده وسار إلى الكوفة، فقال له محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب: أُذكّرك اللّه يازيد لما لحقت بأهلك ولا تأت أهل الكوفة، فإنّهم لا يفون لك، فلم يقبل. فقال له: خرج بنا أُسراء على غير ذنب من الحجاز إلى الشام ثم إلى الجزيرة ثم إلى العراق إلى قيس ثقيف يلعب بنا، وقال:
بَكُرَت تخوّفني الحُتوف كأنّني * أصبحت عن عرض الحياة بمعزل (1)
إلفات نظر :
يظهر من الجزري أنّ زيداً دخل الشام مرتين وقابل فيهما هشاماً، أحدهما: لاَجل تحضير هشام إيّاه من المدينة وتسييره إلى يوسف بن عمر في قضية خالد بن عبد اللّه القسـري، وأُخرى: بعد النزاع في تولية الاَوقاف، وسياق كلام الجزري هو أنّ الرحلة الثانية كانت عقيب ذلك الحدث وذلك لاَنّه بعد ما فرغ من الكلام في النزاع في المدينة، قال:
________________________________________
(1) ابن الاَثير الجزري: 5|230 ـ 233.
________________________________________
(292)
«وشخص زيد إلى هشام بن عبد الملك فجعل هشام لا يأذن له فيرفع إليه القصص...»
مومياً إلى أنّ الرحلة الثانية كانت لاَجل فصل الخصومة عند هشام ولكن السياق متروك قطعاً ولو صحت الرحلة الثانية فإنّما كان لاَجل شكايات وقصص مختلفة وصلت إليه وأراد رفعها إلى هشام لا لاَجل فصل الخصومة بينه وبين بني الحسن في تولية الاَوقاف، ويدل على ذلك أمران:
1 ـ أنّه صاح على والي المدينة خالد بن عبد الملك عندما جمعه وعبد اللّه بن الحسن في المسجد لرفع الخصومة وقال: جمعت ذرية رسول اللّه لاَمر ما كان يجمعهم عليه أبو بكر ولا عمر، أفيصح بعد هذا أن يرفع الشكاية في ذلك الموضوع إلى هشام بن عبد الملك؟
2 ـ قال الجزري عند بيان الرحلة الثانية: «فيرفع إليه القصص فكلّما رفع قصة يكتب هشام في أسفلها: ارجع إلى أميرك ...» فظاهر العبارة أنّه كانت هناك شكايات وقصص عديدة أراد أن يلفت نظر هشام إلى تلك الجرائم.
وأظن أنّ ما ذكره المسعودي في مروجه وشيخنا المفيد في إرشاده ليس قضية أُخرى، بل هو نفس ما جاء به الجزري بتفصيل غير أنّ المسعودي اختزله. وإليك نصهما:
دخل زيد على هشام بالرصافة فلمّـا مثل بين يديه لم ير موضعاً يجلس فيه فجلس حيث انتهى به مجلسه وقال: يا أمير الموَمنين ليس أحد يكبر عن تقوى اللّه ولا يصغر دون تقوى اللّه، فقال هشام: أُسكت لا أُمّ لك، أنت الذي تنازعك نفسك في الخلافة، وأنت ابن أمة، قال: يا أمير الموَمنين إنّ لك جواباً إن أحببت أجبتك به وإن أحببت أسكت عنه، فقال: بل أجب. قال: إنّ الاَُمهات لا يقعدن بالرجال عن الغايات، وقد كانت أُم إسماعيل أمة لاَُمّ إسحاق _ صلى الله عليهما _
________________________________________
(293)
فلم يمنعه ذلك أن بعثه اللّه نبياً، وجعله للعرب أباً فأخرج من صلبه خير البشر محمداً _ صلى الله عليه وآله وسلم _ فتقول لي هذا وأنا ابن فاطمة وابن علي، وقام وهو يقول:
شـرده الخـوف وأزرى بـه * كذاك من يكره حرّ الجلاد (1)
فمضى عليه إلى الكوفة وخرج عنها ومعه القراء والاَشراف فحاربه يوسف ابن عمر الثقفي (2)
ونقل الشيخ المفيد وأكمله بقوله:
«فوثب هشام عن مجلسه (بعد ما أجابه زيد) وقال: لايبيتنّ هذا في عسكري الليلة، فخرج زيد وهو يقول: إنّه لم يكره قط قوم حدّ السيوف إلاّ ذلّوا فلمّا وصل إلى الكوفة اجتمع إليه أهلها فلم يزالوا به حتى بايعوه على الحرب ثم نقضوا بيعته وأسلموه، فقتل وصلب بينهم أربع سنين لا ينكر أحد منهم ولا يعينوه بيد ولا لسان(3).
3 ـ ردّ زيد على تجرّوَ هشام:
دخل زيد على هشام وقد احتشد المجلس بأهل الشام فقال: ما يصنع أخوك البقرة؟ فغضب زيد حتى كاد يخرج من إهابه وقال: سمّاه رسول اللّه الباقر، وأنت تسمّيه البقرة، لشد ما اختلفتما، لتخالفه في الآخرة كما خالفته في الدنيا فيرد الجنّة وترد النار، فانقطع هشام عن الجواب وبان عليه العجز، ولم يستطع دون أن صاح لغلمانه: أخرجوا هذا الاَحمق المالق، فأخذ الغلمان بيده فأقاموه (4)
________________________________________
(1) مضت الاَبيات: ص 98، فراجع.
(2) مروج الذهب: 3|206 ـ 207.
(3) المفيد: الاِرشاد: 268 ـ 269 وابن مهنا: عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب: 255 ـ 256.
(4) ابن قتيبة: عيون الاَخبار: 1|212، وابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة: 3|286، الطبرسي: أعلام الورى: 257.
________________________________________
(294)
وقال الصفدي: وفد على هشام بن عبد الملك فرأى منه جفوة، فكان ذلك سبب خروجه وطلبه للخلافة (1)
لو أنّ الصفدي ومن لفَّ لفَّه عرف نفسيات زيد، وروحياته الطاهرة، لوقف على أنّ هذا الحدث وما أشبهه، لم يكن سبباً للقيام، فإنّه كان مختمراً في النهضة أيام إقامته في المدينة قبل أن يفد إلى هشام حتى أنّ الصفدي يروي نفسه ويقول: «دخل زيد بن علي مسجد رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ في يوم حارّ من باب السوق فرأى سعد ابن إبراهيم في جماعة من القرشيين قد حان قيامهم، فقاموا، فأشار إليهم فقال: يا قوم أنتم أضعف من أهل الحرة! قالوا: لا، قال: وأنا أشهد أنّ يزيد ليس شراً من هشام فما لكم؟ فقال سعد لاَصحابه: مدة هذا قصيرة، فلم ينشب أن خرج وقتل (2)
________________________________________
(1) الصفدي: الوافي بالوفيات: 15|33.
(2) المصدر نفسه: 15|36.
 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية