التوحيد

البريد الإلكتروني طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 7 ، ص 475 ـ  483
________________________________________
(475)
العقد الثمين في معرفة ربّ العالمين
تأليف الاَمير الحسين بن بدر الدين محمد (582 ـ 662)

بعد أن أخرجت عقائد الزيدية من كتاب البحر الزخار، وقفت على رسالة مختصرة باسم العقد الثمين في معرفة ربّ العالمين لموَلّفه العلامة الاَمير الحسين بن بدر الدين محمد المطبوع باليمن، نشرته دار التراث اليمني صنعاء، و مكتبة التراث الاِسلامي بصعده وهي من أوائل الكتب الدراسية في حقل أُصول الدين والموَلّف من أجلّ علماء الزيدية، وأكثرهم تأليفاً وتعد كتبه من أهم الاَُصول التي يعتمد عليها علماء الزيدية ويدرسونها كمناهج (1)وإليك نصها:
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد للّه المختصّ بصفات الاِلهية والقدم، المتعالي عن الحدوث والعدم، الذي لم يسبقه وقت ولا زمان، ولاتحويه جهة ولا مكان، جلّ سبحانه. دلّ على ذاته بما ابتدعه من غرائب مصنوعاته، وعجائب مخلوقاته، حتى نطق صامتها بالاِقرار بربوبيته بغير مَذْوَد، وبرز مجادلاً لكل من عطّل وألحد.
وصلواته وسلامه على سيدنا محمد الذي هو بالمعجزات موَيد، وفي المرسلين مرَجّب ومسوّد، وعلى آله الغرّ الهداة، والولاة على جميع الولاة، وعلى

________________________________________
(1) إقرأ ترجمته في: تاريخ اليمن الفكري: 3|289 و 308، والاعلام: 2|255، التحف شرح الرلف: 178.
________________________________________
(476)
صحابته المكرّمين الموَيدين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
التوحيد
[الدلالة على أن اللّه تعالى خالق العالم ]
أيّها الطالب للرشاد، والهارب بنفسه عن هُوّة الاِلحاد.
فإذا قيل لك: من ربك؟
فقل: ربي اللّه.
فإن قيل لك: بم عرفت ذلك؟
فقل: لاَنّه خلقني، ومن خلق شيئاً فهو ربّه.
فإن قيل لك: بمَ عرفت أنّه خلقك؟
قل: لاَنّي لم أكن شيئاً ثم صرتُ شيئاً، ولم أكن قادراً ثم صرت قادراً، و [كنت] صغيراً ثم صرت كبيراً، ولم أكن عاقلاً ثم صرت عاقلاً، وشاهدت الاَشياء تحدث بعد أن لم تكن؛ فرأيت الولد يخرج ولا يعلم شيئاً، ثم يصير رضيعاً، ثم طفلاً، ثم غُلاماً، ثم بالغاً، ثم شاباً، ثم كهلاً، ثم شيخاً. ثم رأيت نحو ذلك من هبوب الرياح بعد أن لم تكن، وسكونها بعد هبوبها، وطلوع الكواكب بعد أُفولها، وأفولها بعد طلوعها، وظهور السحاب وزواله، وكذلك المطر والنبات والثمار المختلفات. وكل ذلك دلائل الحدوث.
وإذا كانت محدَثة فلا بد لها من محدِث، لاَنّها قد اشتركت في الجسميّة، ثم افترقت هيئاتها وصورها؛ فننظر سماءً، وأرضاً، وثماراً، وأشجاراً، وآباراً، وبحوراً، وأنهاراً، وإناثاً، وذكوراً، وأحياءً، وأمواتاً، وجمعاً، وأشتاتاً.
________________________________________
(477)
وكذلك ننظر إلى الاَعراض الضروريات المعلومات، فإنّها اشتركت في كونها أعراضاً، ثم افترقت وانقسمت بين شهوةٍ ونفرةٍ، وحياةٍ وقدرةٍ، ويبوسةٍ ورطوبة، وطُعومٍ مكروهة ومحبوبة، وروائح شتى، وحرّ وبرد، ووجاء وفناء، وألوان متضادّة على المحل، وموت يقطع الرزق والاَمل.
فنعرف أنّه لابد من مخالف خالف بينها، وأحدث ماشاهدنا حدوثه منها، وأنّه غيرٌ لها، لاَنّها لاتُحدِث نفسها، إذ الشيء لايُحدثُ نفسه، لاَنّه يُوَدّي إلى أن يكون قَبلَ نفسه، وغيراً لها، وكذلك لاتصوّر أنفسها، ولاتخالف بين هيئتها، ولايقع ذلك بشيء مما يقوله الجاهلون، من طبع أو مادّة، أو فلك، أو نجم، أو علّة، أو عقل، أو روح، أو نفس، أو غير ذلك مما يقولونه؛ لاَنّ ذلك إن كان من قبيل الموجبات لم تخلُ: أن تكون موجودة، أو معدومة. والموجودة لا تخل: أن تكون قديمة، أو محدثة. ولايجوز ثبوت ذلك لعلّة قديمة ولامعدومة، لاَنّه لو كان كما زعموا لكان يلزم وجود العالم بما فيه في الاَزل، واستغناوَه عن تلك العلل.
ولا يجوز أن يكون ثبوت ذلك لعلّة محدثة، لاَنّها لاتخلو: إمّا أن تكون مماثلة لما تقدم [منها]، أو مخالفة [له]، إن كانت مماثلة وجب أن يكون معلولها متماثلاً، وفي علمنا باختلاف ذلك العالم دلالة على بطلان القول بأنّه عن علة مماثلة أو علل متماثلات.
ولا يجوز أن يكون لعلة مخالفة، ولا علل مخالفة، لاَنّها حينئذ تكون قد شاركت العالم في الاختلاف؛ الذي لاَجله احتاج إليها، فيدور الكلام إلى ما لا يعقل ولا ينحصر من العلل.
فيجب الاقتصار على المحقّق المعلوم، والقضاء بأنّ الذي أحدثها وصوّرها، وخالف بينها هو الفاعل المختار، وهو الحيّ القيوم.
________________________________________
(478)
فصل [في أنّ اللّه تعالى قادر]
فإن قيل: ربّك قادر، أم غير قادر؟
فقل: بل هو قادر؛ لاَنّه أوجد هذه الاَفعال التي هي العالم، والفعل لا يصح إلاّ من قادر.
أوجده تعالى لا بمماسّة، ولا بآلة: "إنَّما أَمْرُهُ إِذَا أَرادَ شَيْئاً أنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون") [يس: 82].
فصل [في أنّ اللّه تعالى عالم]

فإنّ قيل: أربك عالم، أم غير عالم؟
فقل: بل هو عالم، وبرهان ذلك ما نشاهده فيما خلقه من بدائع الحكمة، وغرائب الصنعة؛ فإنّ فيها من الاِحكام والترتيب، ما يعجز عن وصفه اللبيب، [وكل ذلك لا يصح إلاّ من عالم، كما أنّ الكتابة المحكمة لا تصح إلاّ من عالم بها، وهو تعالى لا يختص بمعلوم دون معلوم، فيجب أن يعلم جميع المعلومات، على كل الوجوه التي يصح أن تعلم عليها.
وهو سبحانه يعلم ما أجنّه الليل، وأضاء عليه النهار، ويعلم عدد قطر الاَمطار، ومثاقيل البحار، ويعلم السرّ ـ وهو ما بين اثنين ـ وما هو أخفى ـ وهو ما لم يخرج من بين شفتين ـ "مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إلاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إلاّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أكْثَرَ إلاّ هُوَ مَعَهُمْ") [المجادلة: 7] بعلمه لايلاصقهم، وهو شاخص عنهم ولايفارقهم].
________________________________________
(479)
فصل [في أنّ اللّه تعالى حي]
فإن قيل: أربك حيّ، أم لا ؟
فقل: بل حيٌّ، لاَنّه تعالى لو لم يكن حيّاً لم يكن قادراً، ولا عالماً، لاَن الميّت والجماد لا يفعلان فعلاً، ولايحدثان صنعاً.
فصل [في أنّ اللّه تعالى قديم]
فإن قيل: أربّك قديم، أم غير قديم؟
فقل: هو موجود لا أوّل لِوجوده؛ لاَنّه لو كان لوجوده أوّلٌ لكان محدَثاً، ولو كان محدثاً لاحتاج إلى محدِث، إلى ما لا يتناهى، وذلك محالٌ، فهو قديم، قادر، حيٌّ، عليم، لم يزل ولا يزال، ولايخرج عن ذلك في حال من الاَحوال، لاَنّه لو لم يكن كذلك لم يكن له بدٌّ من فاعل فعله، وجاعلٍ ـ على صفات الكمال ـ جعله، أو يكون لعلّة، وقد ثبت أنّه تعالى قديم؛ فلايصح القول بشيء من ذلك.
فصل [في أنّ اللّه تعالى سميع بصير]
فإن قيل: أربك سميع بصير؟
فقل: أجل لاَنّه حيٌّ كما تقدم، ولايعتريه شيء من الآفات، لاَنّ الآفات لاتجوز إلاّ على الاَجسام، وهو تعالى ليس بجسم، لاَنّ الاَجسام محدَثة كما تقدم، وهو تعالى قديم أيضاً.
________________________________________
(480)
فصل [في أنّ اللّه تعالى لايشبه الاَشياء]
فإن قيل: أربّك مشبه الاَشياء؟
فقل: ربّي لايشبه الاَشياء؛ لاَنّ الاَشياء سواه: جوهرٌ، وعرَضٌ، وجسم. ولايجوز أن يكون جوهراً، ولا عرضاً؛ لاَنّهما غير حيّين ولاقادرين، وهو تعالى حيّ قادر، ولاَنّهما محدَثان وهو قديم ولا يجوز أن يكون جسماً، لاَنّا قد بيّنا أنّه خالق الاَجسام، والشيء لايخلق مثله، ولاَنّ الجسم موَلّف مصنوع، يفترق ويجتمع، ويسكن ويتحرّك، ويكون في الجهات، وتسبقه الاَوقات، وكل ذلك شواهد الحدوث، وقد ثبت أنّه تعالى قديم، فلا يجوز أن يكون محدَثاً بل ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
وإذا لم يكن جوهراً ولاجسماً ولاعرضاً لم يوصف بالكيف، ولا الاَين، ولا الحيث، ولا البين، ولا الوجه، ولا الجنب، ولا اليدين، لم يقطعه بعد، ولم يسبقه قبل، ولم يجزّئه بعضٌ، ولا جمعه كلٌّ، ليس في الاَرض ولا في السماء، ولا حلّ في متحيّز أصلاً، ولا حدّه فوقٌ ولاتحت، ولايمين، ولا شمال، ولا خلفٌ، ولا أمام، ولا يجوز عليه المجيء ولا الذهاب، ولا الهبوط ولا الصعود.
كان قبل خلق العالم ولا مكان، ويكون بعد فناء العالم ولا مكان، وهو خالق المكان مستغن عن المكان، وخالق الزمان فلم يتقدمه زمان، ليس بنور ولا ظلام، لاَنّ جميع ما ذكر فان في القدم.
ولاَجل ذلك نقول: إنّه لا يجوز أن يقال: هو طويل، ولا قصير، ولا عريض ولا عميق، ولا شويه ولامليح، ولا أن يقال: هو يسترّ أو يغتمّ، أو يظنّ أو يهتمّ، أو يعزمُ، أو يوَلّم، أو يلتذّ أو يشتهي، أو ينفرُ، لاَنّ ذلك كلّه شواهد الوجود بعد العدم، ومنافٍ لما هو عليه من صفات الكمال والعظمة والجلال.
________________________________________
(481)
فصل [في آيات الصفات]
فإن قيل: إنّه قد ذكر في القرآن: "يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ") (المائدة: 64) ، وإنّ له جنباً، وعيناً، وأعيناً، ونفساً، وأيدٍ، لقوله: "مِمّا عَمِلَتْهُ أَيْدِينا") [يس: 71] ووجهاً.
فقل: يداه نعمتاه، ويَدُهُ قُدْرَتُه، والاَيدي هي: القدرة، والقوة أيضاً.
وجنباً في قوله تعالى: "يَاحَسْرَتى عَلَى مَافَرَّطْتُ فِيْ جَنْبِ اللّه") [الزمر: 56]، أي: في طاعته.
ونفساً في قوله تعالى: "تَعْلَمُ مَا فِيْ نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ") [المائدة: 116]، المراد به: تعلم سرّي وغيبي، ولا أعلم سرّكَ وغيبك.
ووجهه: ذاته، ونفسه: ذاته، وقوله تعالى: "فَثَمَّ وَجْهُ اللّه") [البقرة: 115]، أي الجهة التي وجّهكم إليها.
وما ذكر من العين والاَعين فالمراد به الحفظ والكَلاءَة والعلم.
وقوله: "اسْتَوى عَلَى العَرْشِ") [الاَعراف: 54]، استواوَه: استيلاوَه بالقدرة والسلطان، ليس كمثله شيء، ولا يشبهه ميّت ولا حي.
فصل [في أنّ اللّه تعالى غني]
فإن قيل: أربك غني أم لا ؟
فقل: إنّه غنيٌّ لم يزل ولا يزال، ولاتجوز عليه الحاجة في حال من الاَحوال، لاَنّ الحاجة لاتجوز إلاّ على من جازت عليه المنفعة والمضرة، واللّذة والاَلم، وهذه الاَُمور لاتجوز إلاّ على من جازت عليه الشهوة والنفرة، وهما لا يجوزان إلاّ على الاَجسام؛ فيسترُّ الجسم بإدراك ما يشتهيه ويلتذ به، وينمو ويزداد بتناوله،
________________________________________
(482)
ويغتم بإدراك ما ينفر عنه ويتضرر به، وينقص بتناوله. وقد ثبت أنّه تعالى ليس بجسم، بل هو خالق الجسم، فكيف يخلق مثل ذاته، أو تشاركه الاَجسام في صفاته؟! بل لا يجوز عليه شيء من ذلك.
فصل [في أنّ اللّه لا يُرى بالاَبصار]
فإن قيل: أربك يرى بالاَبصار، أم لا يرى؟
فقل: هذه مقالة باطلة عند أُولي الاَبصار، لاَنّه لو رئي في مكان لدل ذلك على حُدُوثه، لاَنّ ما حواه محْدُودٌ محدث.
فإن قيل: إنّه يرى في غير مكان. فهذا لا يعقل، بل فيه نفي الروَية، وقد قال تعالى: "لاتُدْرِكُهُ الاََبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاََبْصَارَ") [الاَنعام: 103]، فنفى نفياً عاماً لجميع المكلفين، و [لجميع] أوقات الدنيا والآخرة.
وقال اللّه تعالى لموسى ـ لما سأله الروَية ـ: "لَنْ تَرَانِي") [الاَعراف: 143]، ولم يسأل موسى _ عليه السلام _ الروَية لنفسه، بل عن سوَال قومه، كما حكاه اللّه في قصص قومه: "فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوْا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ") [النساء: 153]، ولو سألها لنفسه لصعق معهم. ولما لم يقع منه خطيئة إلا سوَاله لهم الروَية من دون إذن، قال لربه عزّ وجلّ: "أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنّا") [الاَعراف: 155].
فصل [في أنّ اللّه تعالى واحد]
فإن قيل: أربّك واحدٌ لا ثاني له، أم لا ؟
فقل: بلى هو واحد لا ثاني له في الجلال، متفرد هو بصفات الكمال؛ لاَنّه لو
________________________________________
(483)
كان معه إله ثان لوجب أن يشاركه في صفات الكمال على الحد الذي اختصّ بها، ولو كان كذلك لكان على ما قدر قادراً، ولو كان كذلك لجاز عليهما التشاجر والتنازع، ولصح بينهما التعارض والتمانع، ولو قدّرنا هذا الجائز لاَدى إلى اجتماع الضدين من الاَفعال، أو عجز القديم عن المراد، وكل ذلك محال، تعالى عنه ذو الجلال؛ لقوله: "لَوْ كَان فِيهِمَا آلِهَةٌ إلاّ اللّه لَفَسَدَتا") (الاَنبياء: 22) ، ولقوله عزّ قائلاً: "أَم جَعَلُوا للّه شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّارُ") [الرعد: 16] فتبين أنّ الخلق يشهد بإله واحد، وأنّه ليس هناك خلق ثانٍ يشهد بإله ثان، وهذا واضح؛ فإنّ هذا العالم دليلٌ على إله واحد وهو الذي أرسل الرسل، وأوضح السبُل.
ويَدُل على ذلك قوله عزّ وجلّ: "فَاعْلَمْ أَنّهُ لا إِلهَ إلاّ اللّه") [محمد: 19]، وقوله: "شَهِدَ اللّه أَنّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَالمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُوْا العِلْمِ قَائِماً بِالقِسْطِ") [آل عمران: 18]، وقوله: "وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌج ")البقرة: 163]، وقوله: "قُلْ هُوَ اللّه أَحَدٌ") [الصمد: 1].
 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية