المنافسة والمنافرة بين الحنابلة والأشاعرة

البريد الإلكتروني طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 2 ، ص 297 ـ  307
________________________________________
(297)
خاتمة المطاف
نذكر فيها أمرين هامّين:

الأوّل: الإيعاز إلى المنافسة المستمرة بين الحنابلة والأشاعرة.
الثاني: ترجمة عدة من شخصيات الأشاعرة البارزة، الذين نضج بهم المذهب وكملت بهم أركانه، وإليك البيان:
المنافسة والمنافرة بين الحنابلة والأشاعرة
إنّ المنافرة بين الطائفتين كانت قائمة على قدم وساق منذ ظهور مذهب الإمام الأشعري بين أهل السنّة واستقطب مجموعة كبيرة من العلماء، واشتهر مذهباً خاصاً بين أهل السنّة، ولكن الحنابلة منذ أن تاب الأشعري عن الاعتزال وادّعى أنّه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، لم يقبلوا منه [ذلك].
وقد عرفت كلمة البربهاري عندما ذكر له الشيخ، ما نقلناه عنه سابقاً.(1)
وقد تجلّت تلك المنافسة عبر الزمان بصور مختلفة من مرحلة ضعيفة إلى مرحلة قوية أدت إلى الضرب و الشتم وحبس مشايخ الأشاعرة ونفيهم من أوطانهم، ولأجل إيقاف القارئ على هذه المنافرة نأتي ببعض ما يدلّ على ذلك:
________________________________________
1. لاحظ ص 30 من هذا الكتاب.
________________________________________
(298)
1.ترجمة الشيخ في كتب الذهبي
إنّ الشيخ الذهبي لم يقم بترجمة الشيخ على وجه يتلقّاه الأشاعرة بالقبول، بل اشتمل كلامه على لذع ولدغ، وفي هذا يقول السبكي:
وأنت إذا نظرت في ترجمة هذا الشيخ الذي هو شيخ السنّة وإمام الطائفة في تاريخ شيخنا الذهبي، ورأيت كيف مزّقها وحار كيف يضع من قدره، ولم يمكنه البوح بالغض منه خوفاً من سيف أهل الحق، ولا الصبر عن السكون لما جبلت عليه طويته من بغضه، بحيث اختصر ما شاء الله أن يختصر في مدحه، ثمّ قال في آخر الترجمة: «من أراد أن يتبحّر في معرفة الأشعري فعليه بكتاب «تبيين كذب المفتري» لأبي القاسم ابن عساكر. توفنا على السنّة، وأدخلنا الجنة، واجعل أنفسنا مطمئنة، نحب فيها أولياءك، ونبغض فيها أعداءك، ونستغفر للعصاة من عبادك، ونعمل بمحكم كتابك، ونؤمن بمتشابهه ونصفك بما وصفت به نفسك».
فعند ذلك تقضي العجب من هذا الذهبي، وتعلم إلى ماذا يشير المسكين؟!فويحه، ثم ويحه!إنّ الذهبي أُستاذي، وبه تخرّجت في علم الحديث، إلاّ أنّ الحقّ أحقّ أن يتبع ويجب عليَّ تبيين الحقّ فأقول:
أمّا حوالتك على «تبيين كذب المفتري» وتقصيرك في مدح الشيخ، فكيف يسعك ذلك مع كونك لم تترجم مجسماً يشبّه الله بخلقه إلاّ واستوفيت ترجمته؟! حتى إنّ كتابك مشتمل على ذكر جماعة من أصاغر المتأخرين من الحنابلة، الذين لا يؤبه إليهم،وقد ترجمت كلّ واحد منهم بأوراق عديدة، فهل عجزت أن تؤتي ترجمة هذا الشيخ حقّها وتترجمه كما ترجمت من هو دونه بألف ألف طبقة. فأي غرض وهوى نفس أبلغ من هذا؟! وأقسم بالله يميناً برّة ما بك إلاّ أنّك لا تحب شياع اسمه بالخير، ولا تقدر في بلاد المسلمين على أن تفصح فيه بما عندك من أمره، وما تضمره من الغموض منه، فإنّك لو أظهرت ذلك لتناولتك سيوف الله.
وأمّا دعاؤك بما دعوت به، فهل هذا مكانه يا مسكين؟!
وأمّا إشارتك بقولك: «نبغض أعداءك» إلى أنّ الشيخ من أعداء الله
________________________________________
(299)
وأنّك تتبغضه فسوف تقف معه بين يدي الله يوم يأتي وبين يديه طوائف العلماء من المذاهب الأربعة، والصالحين من الصوفية والجهابذة الحفّاظ من المحدّثين، وتأتي أنت تتكسع في ظُلم(1) التجسيم الذي تدّعي أنّك بريء منه وأنت من أعظم الدعاة إليه، وتزعم أنّك تعرف هذا الفن وأنت لا تفهم فيه نقيراً ولا قطميراً، وليت شعري من الذي يصف الله بما وصف به نفسه؟! من شبهه بخلقه؟! أمن قال:(لَيْسَ كمثله شيء و هو السَّميع البَصير) ؟
والأولى بي على الخصوص إمساك عنان الكلام في هذا المقام، فقد أبلغت، ثمّ احفظ لشيخنا حقّه وأمسك.(2)
2. استفتاء يتعلّق بحال الشيخ
وقد كتب استفتاء يتعلّق بحال الشيخ في زمان شيخ الأشاعرة أبي القاسم القشيري بخراسان عند وقوع الفتنة بين الحنابلة والأشاعرة عام ست و ثلاثين وأربعمائة، وإليك جواب القشيري وغيره عنه:
بسم الله الرّحمن الرّحيم. اتّفق أصحاب الحديث إنّ أبا الحسن علي بن إسماعيل الأشعري كان إماماً من أئمّة أصحاب الحديث، ومذهبه مذهب أصحاب الحديث، تكلّم في أُصول الديانات على طريقة أهل السنّة، رد على المخالفين من أهل الزيغ والبدعة، وكان على المعتزلة والروافض والمبتدعين من أهل القبلة والخارجين من الملة، سيفاً مسلولاً، ومن طعن فيه أو قدح أو لعنه أو سبّه فقد بسط لسان السوء في جميع أهل السنّة.
بذلنا خطوطنا طائعين بذلك في هذا الدرج(3) في ذي القعدة سنة ست وثلاثين وأربعمائة والأمر على هذه الجملة المذكورة في هذا الذكر وكتبه عبد الكريم بن هوازن القشيري.
وكتب تحته الخبازي: كذلك يعرفه محمد بن علي الخبازي وهذا خطه.
________________________________________
1. جمع الظلمة. 2. طبقات الشافعية:3/347ـ 354. 3. الدرج: الذي يكتب فيه.
________________________________________
(300)
والشيخ أبو محمد الجويني: الأمر على هذه الجملة المذكورة فيه، وكتبه عبد الله بن يوسف، وكتب نظير تلك الجملة المشايخ: أبو الفتح الشاشي، وعلي بن أحمد الجويني،وناصر العمري، وأحمد بن محمد الأيوبي، وأخوه علي،وأبو علي الصابوني، و أبو عثمان الصابوني، وابنه أبو نصر بن أبو عثمان، والشريف البكري، ومحمد بن الحسن الملقاباذي.(1)
يظهر من كتاب «تبيين كذب المفتري وطبقات الشافعية» أنّ بعض هؤلاء كتبوا تحت الورقة بعبارات فارسية، مثلاً كتب عبد الجبار الإسفرايني بالفارسية: «إن أبو الحسن الأشعري آن امام است كه خداوند عزوجل اين آيت در شأن وى فرستاد: (فسوف يأتي الله بقوم يحبّهم ويحبّونه...) (المائدة:54)(2) و مصطفى ـ عليه السَّلام ـ در آن روايت، به جد وى اشارت كرد فقال: هم قوم هذا».(3)
3. الفتنة التي وقعت بمدينة نيسابور
يظهر من كلام تاج الدين السبكي أنّ هذا الاستفتاء كان مقروناً بالفتنة التي وقعت بمدينة نيسابور قاعدة بلاد خراسان آنذاك، وقد آلت الفتنة إلى خروج إمام الحرمين، والحافظ البيهقي،وأبي القاسم القشيري من نيسابور، وكانت تلعب في ذلك يد الحنابلة تحت الستار، وإليك شرحه:
قال السبكي: كان طغرل بك السلجوقي ـ وهو أوّل ملوك السلاجقة ـ رجلاً حنفياً سنّياً، وكان له وزير يسمّى بـ : أبي نصر منصور بن محمد الكندري المعروف بعميد الملك، والسبكي يتّهمه بأنّه كان معتزلياً، رافضياً، ومشبهاً لله سبحانه بخلقه ممّا هو شائع بين الكراميةوالمجسمة(4). فحسّن عميد الملك
________________________________________
1. ولعلّه تعريب ملك آباد. 2. وقد عرفت حقّ المقال في ادّعاء نزول هذه الآية في حقّ أبي موسى الأشعري جدّ الشيخ الأعلى، فراجع. 3. طبقات الشافعية:3/374ـ 375. 4. نحن نشك في وجود هذه الصفات الثلاث في رجل مثقف مثل عميد الملك، كيف يمكن أن يكون معتزلي المبدأ، ورافضي العقيدة، وفي الوقت نفسه قائلاً بالتشبيه والتجسيم، وهل هذا إلاّ كالاعتقاد بالنقيضين؟!
________________________________________
(301)
على السلطان لعن المبتدعة على المنابر، فصدر الأمر بذلك، واتخذ عميد الدين ذلك ذريعة إلى ذكر الأشعرية، وصار يقصدهم بالإهانة والأذى والمنع عن الوعظ والتدريس، وعزلهم عن خطابة الجامع،واستعان بطائفة من المعتزلة الذين زعموا أنّهم يقلدون مذهب أبي حنيفة، فحببوا إلى السلطان الإزراء بمذهب الشافعي عموماً،وبالأشعرية خصوصاً، وهذه هي الفتنة التي طار شررها فملأ الآفاق، وطال ضررها فشمل خراسان والشام والحجاز والعراق، وعظم خطبها وبلاؤها، وقام في سب أهل السّنة(الأشاعرة) خطيبها وسفهاؤها، إذ أدّى هذا الأمر إلى التصريح بلعن أهل السنّة في الجُمَع، وتوظيف سبهم على المنابر، وصار لأبي الحسن الأشعري بها أُسوة لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه في زمن بعض بني أُمية،حيث استولت النواصب على المناصب، واستعلى أُولئك السفهاء في المجامع والمراتب.
وكان في بلدة نيسابور رجلاً جواداً ذا أموال جزيلة وصدقات دارّة وهبات هائلة يسمى أبا سهل الموفق، فشمّر عن ساعد الجد، و تردد إلى العسكر في دفع ذلك، وما أفاد شيء من التدبير، إذ كان الخصم الحاكم، والسلطان محجباً إلاّ بواسطة ذلك الوزير، ثمّ جاء الأمر من قبل السلطان طغرل بك بالقبض على الرئيس الفراتي، والأُستاذ أبي القاسم القشيري، وإمام الحرمين، وأبي سهل بن الموفق،ونفيهم ومنعهم عن المحافل، وكان أبو سهل غائباً إلى بعض النواحي ولما قرئ الكتاب بنفيهم، أُغري بهم الغاغة والأوباش، فأخذوا بالأُستاذ أبي القاسم القشيري،والفراتي يجرونهما ويستخفون بهما،وحبسا بالقهندر.
وأمّا إمام الحرمين، فإنّه كان أحس بالأمر واختفى، وخرج على طريق كرمان إلى الحجاز، ومن ثمّ جاور و سُمّي إمام الحرمين،وبقي القشيري والفراتي مسجونين أكثر من شهر، فتهيأ أبو سهل بن الموفق من ناحية باخرز وجمع من أعوانهم رجالاً عارفين بالحرب،وأتى باب البلد وطلب إخراج الفراتي
________________________________________
(302)
والقشيري فما أُجيب، بل هدد بالقبض عليه بمقتضى ما تقدّم من مرسوم السلطان، فلم يلتفت وعزم على دخول البلد ليلاً وإخراجهما مجاهرة، وكان متولّي البلد قد تهيأ للحرب،وبعد مفاوضات واشتباكات عنيفة توفق أبو سهل إلى إخراجهما من السجن، فلمّا تم له الانتصار، تشاور هو وأصحابه فيما بينهم وعلموا أنّ مخالفة السلطان لها تبعة، وأنّ الخصوم لا ينامون، فاتّفقوا على مهاجرة البلد إلى ناحية استواء.(1)ثمّ يذهبون إلى الملك. وبقي بعض الأصحاب بالنواحي مفرقين، وذهب أبو نصر إلى المعسكر وكان على مدينة الري، وخرج خصمه من الجانب الآخر فتوافيا بالري، وانتهى إلى السلطان ما جرى، وسعى بأصحاب الشافعي وبأبي سهل خصوصاً، فقبض على أبي سهل وأُخذت أمواله وبيعت ضياعه، ثمّ فرج عنه وخرج وحج.
وقد غادر كثير من علماء أهل السنة نيسابور ونواحيها، ومرو وما والاها، فمنهم أُخرجوا ومنهم من جاء إلى العراق، ومنهم من جاء الحجاز.
فممّن حجّ: الحافظ أبو بكر البيهقي، وأبو القاسم القشيري، وإمام الحرمين أبو المعالي الجويني وخلائق. يقال: جمعت تلك السنّة أربعمائة قاض من قضاة المسلمين من الشافعية والحنفية هجروا بلادهم بسبب هذه الواقعة، وتشتت فكرهم يوم رجوع الحاج، فمن عازم على المجاورة، ومن محيّر في أمره لا يدري أين يذهب؟
4. كتاب البيهقي إلى يد الملك
كتب البيهقي ـ و هو محدث زمانه و شيخ السنّة في وقته ـ كتاباً إلى عميد الملك يصفه ويطريه فيه، ويذكر في تلك الرسالة فضائل الشيخ أبي الحسن ومناقبه، واندفع في آخر الرسالة إلى السؤال عن عميد الملك في إطفاء النائرة وترك السب وتأديب من يفعله. يقول السبكي: وقد ساق الحافظ (ابن عساكر) الكتاب بمجموعه،فإن أردت الوقوف عليه كلّه فعليك بكتاب
________________________________________
1. كورة من نواحي نيسابور تشتمل على قرى كثيرة.
________________________________________
(303)
التبيين.(1)
5. رسالة القشيري إلى البلاد
وكتب الأُستاذ أبو القاسم القشيري رسالة مفتوحة إلى العلماء الأعلام بجميع بلاد الإسلام عام ست وأربعين وأربعمائة، يشكو فيها عمّا حلّ بأبي الحسن الأشعري والأشاعرة من المحنة. ابتدأ رسالته بقوله:
الحمد لله المجمل في بلائه، المجزل في عطائه، العدل في قضائه، والمكرم لأوليائه، المنتقم من أعدائه ـ إلى أن قال ـ: هذه قصة سميناها «شكاية أهل السنّة بحكاية ما نالهم من المحنة» تخبر عن بثّة مكروب ونفثة مغلوب... إلى أن قال:
وممّا ظهر ببلاد نيسابور من قضايا التقدير في مفتتح سنة خمس وأربعين وأربعمائة من الهجرة ما دعا أهل الدين إلى شق صدور صبرهم، وكشف قناع ضيرهم، بل ظلت الملة الحنيفية تشكو غليلها، وتبدي عويلها،وتنصب عزالي رحمة الله على من يستمع شكوها، وتصغي ملائكة السماء حتى تندب شجوها. ذلك ممّا أحدث من لعن إمام الدين، وسراج ذوي اليقين، محيي السنّة، وقامع البدعة، وناصر الحقّ،وناصح الخلق، الزكي الرضي، أبي الحسن الأشعري، قدس الله روحه وسقى بالرحمة ضريحه، وهو الذي ذب عن الدين بأوضح حجج، وسلك في قمع المعتزلة، وسائر أنواع المبتدعة أبين منهج. واستنفد عمره في النضح عن الحق، فأورث المسلمين وفاته كتبه الشاهدة بالصدق.
(2)
ومن لطيف ما جاء في تلك الرسالة قوله: وما نقموا من الأشعري إلاّ أنّه قال بإثبات القدر لله، خيره وشره، ونفعه وضره، وإثبات صفات الجلال لله، من قدرته، وعلمه، وإرادته، وحياته، وبقائه، وسمعه، وبصره،
________________________________________
1. طبقات الشافعية:3/389ـ 399. ولكن الكتاب غير موجود فيما طبع من تبيين كذب المفتري، وقد تفحصناه وما وجدناه فيه. 2. طبقات الشافعية:3/1ـ4،والرسالة طويلة أخذنا منها موضع الحاجة.
________________________________________
(304)
وكلامه، ووجهه، ويده، وأنّ القرآن كلام الله غير مخلوق، وأنّه تعالى موجود تجوز رؤيته، وأنّ إرادته نافذة في مراداته، وما لا يخفى من مسائل الأُصول التي تخالف (طريقه) طريق المعتزلة والمجسمة فيها، وإذا لم يكن في مسألة لأهل القبلة غير قول المعتزلة، وقول الأشعري قول زائد، فإذا بطل قول الأشعري، فهل يتعين بالصحة أقوال المعتزلة؟ وإذا بطل القولان فهل هذا إلاّ تصريح بأنّ الحقّ مع غير أهل القبلة؟ وإذا لعن المعتزلة والأشعري في مسألة لا يخرج قول الأُمّة عن قوليهما، فهل هذا إلاّ لعن جميع أهل القبلة؟
معاشر المسلمين الغياث الغياث! سعوا في إبطال الدين، ورأوا هدم قواعد المسلمين، وهيهات هيهات!(يُريدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ الله بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى الله إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) (1) وقد وعد الله للحق نصره وظهوره وللباطل محقه وثبوره، ألا إنّ كتب الأشعري في الآفاق مبثوثة، ومذاهبه عند أهل السنّة من الفريقين معروفة مشهورة، فمن وصفه بالبدعة علم أنّه غير محق في دعواه، وجميع أهل السنّة خصمه فيما افتراه.
وقال في مختتم الرسالة: ولما ظهر ابتداء هذه الفتنة بنيسابور، وانتشر في الآفاق خبره، وعظم على قلوب كافة المسلمين، من أهل السنة والجماعة أثره، ولم يبعد أن يخامر قلوب بعض أهل السلامة [والوداعة ]توهم في بعض هذه المسائل أنّ لعلّ أبا الحسن علي بن إسماعيل الأشعري ـ رحمه الله ـ ، قال ببعض المقالات، في بعض كتبه ، ولقد قيل من يسمع يخل، أثبتنا هذه الفصول في شرح هذه الحالة، وأوضحنا صورة الأمر، بذكر هذه الجملة، ليضرب كل[من ]أهل السنّة، إذا وقف عليها، بسهمه، في الانتصار لدين الله عزّ وجلّ، من دعاء يخلصه، واهتمام يصدقه، وكل عن قلوبنا بالاستماع إلى [شرح] هذه القصّة يحمله، بل ثواب من الله سبحانه على التوجع بذلك يستوجبه،والله غالب على أمره، وله الحمد على ما يمضيه من أحكامه، ويبرمه ويقضيه في أفعاله، فيما يؤخره و يقدمه، وصلواته على سيدنا محمد المصطفى و على آله و سلم تسليماً.
________________________________________
1. التوبة:32.
________________________________________
(305)
تمت الشكاية.(1)
6. استمرار الفتنة إلى زمان وزرارة نظام الملك
يظهر من السبكي أنّ فتيل الفتنة كان هو الوزير الكندري المعروف عميد الملك، ويظهر فيما ذكر من استفتاءات أُخر بقاء الفتنة حتى بعد وفاة طغرل بك وقيام ولده ارسلان مقامه و قتل عميد الملك وتصدّى نظام الملك للوزارة.(2)
إنّ وجود استفتاءات أُخر حول أبي الحسن الأشعري يدلّ على دوام المنافرة بين الأشاعرة وغيرهم من الحنابلة والمعتزلة، وإليك استفتاءين آخرين، يتعلّق ثانيهما بعصر أبي نصر القشيري ولد أبي القاسم القشيري، وقد توفّي الوالد عام 465هـ كما توفّي الولد عام 514هـ.
استفتاء آخر ببغداد
ما قول السادة الأئمة الأجلّة في قوم اجتمعوا على لعن فرقة الأشعري وتكفيرهم؟ ما الذي يجب عليهم؟!
فأجاب قاضي القضاة أبو عبد الله الدامغاني الحنفي:
قد ابتدع وارتكب ما لا يجوز، وعلى الناظر في الأُمور ـ أعز الله أنصاره ـ الإنكار عليه وتأديبه بما يرتدع به هو وأمثاله عن ارتكاب مثله، وكتب محمد بن علي الدامغاني.
وبعده كتب الشيخ أبو إسحاق الشيرازي ـ رحمه الله ـ : الأشعرية أعيان أهل السنّة،ونصّار الشريعة. انتصبوا للرد على المبتدعة من القدرية والرافضة وغيرهم، فمن طعن فيهم فقد طعن على أهل السنّة، وإذا رفع أمر من يفعل ذلك إلى الناظر في أمر المسلمين، وجب عليه تأديبه بما يرتدع به كلّ أحد. وكتب إبراهيم بن علي الفيروز آبادي.
وقد كتب مثله محمد بن أحمد الشاشي تلميذ الشيخ أبي إسحاق.
________________________________________
1.  طبقات الشافعية:3/399ـ 423. 2. طبقات الشافعية:3/393.
________________________________________
(306)
استفتاء ثالث في واقعة أبي نصر القشيري ببغداد
وهذا الاستفتاء أوعز إليه السبكي في طبقات الشافعية، في ترجمة الشيخ أبي الحسن الأشعري، وقال: «سنحكي إن شاء الله هذاالاستفتاء والأجوبة عند انتهائنا إلى ترجمة الأُستاذ أبي نصر ابن الأُستاذ أبي القاسم في الطبقة الخامسة»، ولكنّه لم يف بوعده.
وحكى في المقام خط الشيخ أبي إسحاق الشيرازي في جواب الاستفتاء أنّه كتب: وأبو الحسن الأشعري إمام أهل السنّة، وعامة أصحاب الشافعي على مذهبه، و مذهبه مذهب أهل الحقّ،وكتب نظير تلك الجملة عدّة من أعلام العصر من حنابلة وأحناف لا حاجة لذكر أسمائهم، ويظهر من السبكي أنّ هذا الاستفتاء بقي زماناً بين يدي العلماء كلّما جاءت أُمّة منهم كتبت بالموافقة.(1)
7. شكوى تاريخية للأشاعرة ضدّ الحنابلة

لقد بلغت المنافرة بين الأشاعرة والحنابلة إلى القمة في عصر الشيخ أبي نصر عبد الرحيم ابن الشيخ أبي القاسم القشيري، وبلغ السيل الزبي فقام أعاظم الأشاعرة لمساندة شيخهم أبي نصر برفع الشكوى إلى الوزير نظام الملك،وتمت الشكوائية بتوقيع كثير من علمائهم، وكان ذلك سنة 469هـ. وقد نقلنا تلك الشكوائية في الجزء الأوّل من هذه الموسوعة فراجع.(2)
الأشاعرة وعقيدة أبي جعفر الطحاوي
إنّ الرسالة المعروفة بعقيدة الطحاوي يتبنّاها أهل السنّة حتى الحنابلة في هذه الأيام، وهي من الكتب الدراسية في جامعة المدينة المنورة يومنا هذا، والمؤلف ينسب كلّ ما جاء فيه إلى أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني، وقد ادّعى تاج الدين السبكي أنّ الأشاعرة لا يخالفون عمّا ذكر في
________________________________________
1. طبقات الشافعية:3/375ـ 376. 2. لاحظ بحوث في الملل والنحل:1.
________________________________________
(307)
هذه الرسالة إلاّ في ثلاث عشرة مسألة، والاختلاف في بعضها معنوي، وبعضها الآخر لفظي، ثمّ قال: ولي قصيدة نونية جمعتُ فيها هذه المسائل، وضممت إليها مسائل اختلفت الأشاعرة فيها مع ما جاء في كتاب العقيدة للطحاوي، وإليك مستهلها:
الـورد خطك، صيغ مـن إنسـان * أم في الخـدود شقائـق النعمان؟!
والسيف لحظك سُلَّ من أجفانـه * فسـطا كمثــل مهنــد وسنـان!
إلى أن قال:
كـذب ابـن فاعلـة يقـول لجهـله * الله جســـم ليـس كالجسمـــان
لـو كان جسماً كـان كالأجسام يـا * مجنونُ فاصْغ وعد عـن البهتــان
واتْبَع صراط المصطفى في كل مـا * يـأتي وخـلّ وسـاوس الشيطان(1)
والقصيدة طويلة والغرض إيراد نماذج منها.
وأمّا الفرق بين الأشاعرة والماتريدية فهو يتوقف على تبيين عقيدة الشيخ الماتريدي مؤسس المنهج، وسيوافيك [الحديث عن] حياته ومنهجه في الجزء الثالث من هذه الموسوعة بإذن الله سبحانه.
(إِنَّما الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).(2)
________________________________________
1. طبقات الشافعية:3/379. 2. الحجرات:10.
 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية