القدريّة أسلاف المعتزلة

البريد الإلكتروني طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 3 ، ص 111 ـ 115
________________________________________
(111)
3
القدريّة
القدريّة أسلاف المعتزلة
خرج المسلمون من الجزيرة العربيّة بدافع نشر الاسلام وبسط نفوذه، فلمّا استولوا على البلاد واستتبّ لهم الأمر، تفاجأوا بثقافات وحضارات، وشرائع وديانات، لم يكن لهم بها عهد، ففرضت الظُّروف عليهم الاختلاط والتعايش مع غير المسلمين، وربّما انتهى الأمر إلى التفاعل والتأثير بمبادئهم وأفكارهم، فوقفوا على اُصول ومبادئ تخالف دينهم، فأوجد ذلك اضطراباً فكريّا بين الأوساط الإسلاميّة. كيف لا، وقد كان الخصم متدرّعاً بالسلاح العلمي، ومجهّزاً بأساليب كلاميّة، والمسلمون الغزاة بسطاء غير مجيدين كيفيّة البرهنة، والمجادلة العلميّة مع خصمائهم، فصار ذلك سبباً لطرح أسئلة ونموّ اشكالات في أذهان المسلمين خارج الجزيرة العربيّة وداخلها، وقد كان الغزاة ينقلون ما سمعوا أو ما تأثّروا به في حلّهم وترحالهم داخل المدن وخارجها.
وهذا التلاقح الفكري بين المسلمين وغيرهم أدّى إلى افتراق الاُمّة الاسلاميّة إلى طائفتين:
الطائفة الاُولى: وهم يشكّلون الأكثريّة الساحقة في المسلمين، جنحت إلى الجانب السلبي وأراحت نفسها من الخوض في تلك المباحث، وإن كانت لها صلة بصميم الدين كالقضاء والقدر، وعينيّة الصفات للذات أو زيادتها عليها، كيفيّة
________________________________________
(112)
الحشر والنشر، ووجود الشرّ في العالم، مع كون خالقه حكيماً إلى غير ذلك ممّا لا يمكن فصلها عن الدين، وأقصى ما كان لدى هؤلاء المتزمّتين، دعوة المسلمين إلى التعبّد بما جاء من النصوص في القرآن والسنّة، وقد تصدّر هذه الطائفة الفقهاء وأهل الحديث ولقد أثر عنهم قول وعمل يعرِّفان موقفهم في هذه التيّارات، ويرجع مغزى ذلك إلى الأخذ بالجانب السّلبي وترك الكلام الّذي هو أسهل الأمرين، ولأجل ذلك قامت تلك الطّائفة بتحريم علم الكلام والمنطق والفلسفة، وإن كان يهدف إلى تقرير العقائد الإسلاميّة عن طريق العقل والبرهان.
وإليك نماذج من أقوالهم في هذا المضمار:
1 ـ عن أبي يوسف القاضي (م 192): طلب علم الكلام هو الجهل، والجهل بالكلام هو العلم(1).
2 ـ وعن الشافعي: لأن يلقى الله تبارك وتعالى بكلّ ذنب ما خلا الشرك خير له من أن يلقاه بشيء من علم الكلام(2).
3 ـ وهذا الإمام مالك (م 179) لمّا سئل عن كيفيّة الاستواء على العرش؟ فقال: الاستواء معقول والكيف مجهول والايمان به واجب والسؤال عنه بدعة(3).
فهؤلاء صوّروا البحث عن قوانين الكون، وصحيفة الوجود جهلاً، والجهل بها علماً، والبرهنة على وجوده سبحانه أمراً مذموماً، والسؤال عن مفاد الآية ومرماها بدعة.فكأنّ القرآن أُنزل للتلاوة والقراءة دون الفهم والتدبّر، وكأنّ القرآن لم يأمر النّاس بالسؤال من أهل الذكر إذا كانوا جاهلين. فإذا كان هذا حال قادة الاُمّة وفقهائها، فكيف حال من يَقتدي بهم؟
4 ـ سأل رجل عن مالك وقال: ينزل الله سماء الدنيا؟ قال: نعم. قال: نزوله بعلمه أم بماذا؟ فصاح مالك: اسكت عن هذا وغضب غضباً شديدا (4).
5 ـ قد بلغ تطرّف إمام الحنابلة إلى حدّ أنّ أبا ثور (م 240) فسّر حديث رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم: «إنّ الله خلق آدم على صورته» على وجه لا يستلزم التجسيم والتشبيه بإرجاع الضمير إلى آدم حتّى يتخلّص من مغبّتهما، فهجره أحمد، فأتاه أبو ثور، فقال أحمد: أيّ صورة كانت لآدم يخلق عليها، كيف تصنع بقوله: (خلق آدم على صورة الرحمان) فاعتذر أبو ثور
________________________________________
1. تاريخ بغداد ج 14 ص 253. 2. حياة الحيوان للدميري ج 1 ص 11، كما في كتاب «المعتزلة» ص 242. 3. طبقات الشافعية: ج 3 ص 126. 4. الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، لابن قيم الجوزي، طبع مكة المكرمة، عام 1348 ج 2 ص 251، كما في «المعتزلة» ص 245.
________________________________________
(113)
وتاب بين يديه(1).
فالدواء عنده لكلّ داء هو الدّعوة إلى التعبّد بالنّصوص تعبّداً حرفياً من غير تحليل ولا تفسير.
6 ـ إنّ أحد أصحابه، الحارث المحاسبي (م 243) ألّف كتاباً في الردّ على المعتزلة، فأنكره أحمد وهجره. ولمّا اعترض عليه المحاسبي بأنّ الردّ على البدعة فرض، أجاب أحمد بقوله: إنّك حكيت شبهتهم أوّلاً ثمّ أجبت عنها فلم تأمن أطالع الشّبهة ولا ألتفت إلى الجواب أو أنظر إلى الجواب ولا أفهم كنهها(2).
يلاحظ عليه: أنّه لا شكّ في أنّ الردود على أصحاب البدع والضلالات، يجب أن تكون بشكل تهدي الاُمّة ولا تضلّها، وتقمع الإشكال ولا ترسّخه. فمن كانت له تلك الصلاحية فعليه القيام بالردّ والنقد. فهذا هو القرآن الكريم الأسوة المباركة، ينقل آراء المشركين ثمّ ينقضها ويدمِّرها، وإلاّ فمعنى ذلك أن يفسح المعنيّون من علماء الإسلام للأبالسة أن يهاجموا الإسلام و يضعضعوا أركانه، ويتّخذوا الأحداث والشبّان فريسة لأفكارهم يفتكون بهم، ويكون الغيارى من المسلمين القادرون على دفع هجومهم، متفرّجين في مقابل جرأة العاصي وحملة الماجن «ما هكذا تورد يا سعد الإبل». وكيف يرضى الشارع الّذي جعل الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر فريضة على المسلمين بهذه
________________________________________
1. نفح الطيب ج 3 ص 153، كما في كتاب «المعتزلة». 2. المنقذ من الضلال ص 45 راجع كتاب المعتزلة ص 245 ـ 251.
________________________________________
(114)
النكسة.
هذا حال الطائفة الاُولى وإليك نبذة عن وضع الطائفة الاُخرى.
الطائفة الثانية: وهم الأقليّة من أصحاب الفكر، وقد عاينوا المشاكل عن كثب وحاولوا حلّها بالدراسة والتحليل. فلأجل تلك الغاية تدرّعوا بمنطق الخصم وأساليبه الكلاميّة، فقلعوا بها الشبه وصانوا دينهم وايمان أحداثهم عن زيغ المبطلين. كلّ ذلك بدافع الذبّ عن حريم الدّين وصيانته، وتجسيداً للأصل الأصيل في الكتاب والسنّة ـالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ـ واسوةً بالنبي الأكرم صلَّى الله عليه و آله و سلَّم الّذي كان يدافع عن دين الله بسيفه وسنانه، وبنانه وبيانه، وكتبه ورسائله.
وقد نجم بين الاُمّة في هذه الطّائفة علماء أخيار اشتروا رضا الله سبحانه بغضب المخلوق، فكانوا يحمون جسد الإسلام من النّبال المرشوقة والموجّهة من السلطة الحاكمة إليه، تحت ستار الدفاع عن الدّين ومكافحة المضلّين، وقد أساء لهم التاريخ فأسماهم بالقدريّة، حطّاً من شأنهم، وإدخالاً لهم تحت الحديث المرويّ عن الرسول الأكرمصلَّى الله عليه و آله و سلَّم «القدريّة مجوس هذه الاُمّة» وكان العصر الأموي (من الوقت الّذي استولى فيه معاوية على عرش الملك إلى آخر من تولّى منهم)، يسوده القول بالجبر، الّذي يصوِّر الانسان والمجتمع أنّهما مسيّران لا مخيّران، وأنّ كلّ ما يجري في الكون من صلاح وفساد، وسعة وضيق، وجوع وكظّة، وصلح وقتال بين الناس أمر حتمي قضى به عليهم، وليس للبشر فيه أيّ صنع وتصرّف.
وقد اتّخذت الطغمة الأمويّة هذه الفكرة غطاءً لأفعالهم الشنيعة حتّى يسدّوا بذلك باب الاعتراض على أفعالهم بحجّة أنّ الاعتراض عليهم إعتراض على صنعه سبحانه وقضائه وقدره، وأنّ الله سبحانه فرض على الانسان حكم ابن آكلة الأكباد وابنه السكّير . وأبناء البيت الاموي الخبيث يعيشون عيشة رغد ورخاء وترف، ويعيش الآخرون على بطون غرثى وأكباد حرّى.
وقد كانت هذه الفكرة تروّج بالخطباء ووعّاظ السلاطين مرتزقة البلاط الاموي.
________________________________________
(115)
ففي هذه الظروف نهض رجال ذووا بصيرة لا يستسيغون هذه الفكرة، بل يرونها من حبائل الشيطان،اُلقيت لاصطياد المستضعفين، وسلب حرّياتهم ونهب إمكانيّاتهم، فثاروا على الفكرة وأصحابها وناضلوا من أجل ذلك بصمود وحماس، وكان عملهم هذا انتفاضة في وجه المجبّرة تنزيهاً لساحته سبحانه عمّا وصفه به الجاهلون، وسكت عنه الآخرون رهباً أو رغباً، فكان جزاؤهم القتل والصّلب والتنكيل بعد الحكم بتكفيرهم من جانب قضاة الجور، بدعوى مروقهم عن الدّين وخروجهم على أمير المؤمنين!! عبد الملك بن مروان!! وسيفه الشاهر الحجّاج بن يوسف.
ونقدّم إليك لمحات من حياتهم ونضالهم في طريق عقيدتهم،وأنّهم لم يكونوا يدينون بشيء ممّا رموا به إلاّ القول بأنّ الانسان مختار في حياته، وأنّه ليس له إلاّ ما سعى، ولم تكن عندهم فكرة التفويض التّي تعادل الشرك الخفيّ، وإنّما حدثت فكرة التفويض بعدهم بين المعتزلة. وعلى ذلك فهؤلاء المسمّون بالقدريّة ظلماً وعدوانا، أسلاف المعتزلة في الدعوة إلى حريّة الانسان، لا في الدعوة إلى التفويض البغيض.
واستغلّت الأشاعرة ومؤلّفو الملل والنّحل لفظ «القدريّة»، فاستعملوها في مخالفيهم تبعاً لأهل الحديث في هذه الظّروف، فأطلقوها على كلِّ من ادّعى للانسان حريّة في العمل واختياراً في الفعل الّذي هو مناط صحّة التكليف، ومدار بعث الرسل، فدعاة الحريّة عندهم قدرية إمّا لاتّهامهم ـ كذباً وزوراً ـ بانكار تقدير الله وقضائه، من باب إطلاق الشيء (القدريّة) وإرادة نقيضه (انكار القدر ونفيه)، أو لاتّهامهم بأنّهم يقولون نحن نقدّر أعمالنا وأفعالنا و... وسيوافيك بحث حول هذه اللفظة عند خاتمة البحث.
 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية