رسائل في الرد على القدريّة

البريد الإلكتروني طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 3 ، ص 130 ـ 138
_______________________________________
(130)
رسائل ثلاث حول القدر
ولو طلب القارئ الكريم التعرّف على التشاجر الّذي كان قائماً على قدم و ساق في بيان معنى القدر و أنّه ماذا كان يراد منه، وأنّه هل كان الاعتقاد به يوم ذاك ملازماً للجبر أو لا؟ فعليه بدراسة ثلاث رسائل في هذا المجال، تعدّ من بدايات علم الكلام في الإسلام وقد نشرت تلك الرسائل حديثاً وهي:
1- الرسالة المنسوبة إلى الحسن بن محمّد بن الحنفيّة، والرسالة كتبت بايحاء من الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان (م 86 هـ) و يرجع تأريخ تأليفها إلى عام 73 هـ فيكون أقدم رسالة في هذا المجال إن صحّت النسبة إليه.
________________________________________
(131)
2- ما كتبه الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز (م 101 هـ) إلى بعض القدريّة المجهول الهوية وقد جاء القدر في الرسالتين مساوقاً للجبر. وقد فرض الحاكم الأموي قدريّاً ينكر علمه سبحانه الأزلي بالأشياء و أفعال العباد، فيردّ عليه بحماس على نحو يستنتج منه الجبر، والرسالة جديرة بالقراءة حتّى يعلم أنّ الأمويين من صالحهم إلى طالحهم كيف شوّهوا الإسلام، وصاروا أصدق موضوع لقول القائل «ولولاكم لعمّ الإسلام العالم كلّه».
وقدنشرت هذه الرسالة بصورة مستقلّة. وطبعت ضمن ترجمة عمر بن عبدالعزيز في كتاب حلية الأولياء ج 5 ص 346-353.
3- ما كتبه الحسن بن يسار المعروف بالحسن البصري (م 110 هـ) حيث إنّ الحجّاج بن يوسف كتب إلى الحسن: «بلغنا عنك في القدر شيء» فكتب إليه رسالة طويلة ذكر أطرافاً منها ابن المرتضى في المنية و الأمل ص 13-14.
قال الشهر ستاني : «ورأيت رسالة(1) نسبت إلى الحسن البصري كتبها إلى عبدالملك ابن مروان و قد سأله عن القول بالقدر والجبر. فأجابه فيها بما يوافق مذهب القدريّة واستدلّ فيها بآيات من الكتاب و دلائل من العقل. وقال: ولعلّها لواصل بن عطاء فما كان الحسن ممّن يخالف السلف في أنّ القدر خيره و شرّه من الله تعالى. فإنّ هذه الكلمات كالمجمع عليها عندهم. والعجب أنّه حمل هذا اللّفظ الوارد في الخبر على البلاء و العافية، والشدّة والرخاء، والمرض والشفاء، والموت والحياة، إلى غير ذلك من أفعال الله تعالى دون الخير والشرّ، والحسن والقبيح، الصادرين من اكتساب العباد. وكذلك أورده جماعة من المعتزلة في المقالات عن أصحابهم»(2).
ولا وجه لما احتمله من كون الرسالة لواصل، إلاّ تصلّبه في مذهب الأشعري و أنّ فاعل الخير والشر مطلقاً ـ حتّى الصادر من العبد ـ هو الله سبحانه دون العبد، ومن
________________________________________
1. نقل القاضي عبد الجبار نصّ الرسالة في كتابه «فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة» ص 215 ـ 223. 2. الملل والنحل ج 1 ص 47، لاحظ نصّ الرسالة في الجزء الأوّل من هذه الموسوعات ثمّ اقض.
________________________________________
(132)
كان هذا مذهبه، يستبعد أن ينسب ما في الرسالة إلى الحسن البصري ـ ذلك الإمام المقدّم عند أهل السنّة ـ.
وأمّا على المذهب الحقّ من أنّ الفاعل الحقيقي لأفعال الإنسان هو نفسه، لا على وجه التفويض من الله إليه، بل بقدرة مفاضة منه إليه في كلّ حين، واختيار كُوِّنت ذاته به، و حريّة فطرت بها فالفعل فعل الإنسان، وفي الوقت نفسه فعل الله تسبيباً، بل أدقّ وأرقّ منه كما حقّق في محلّه.
وأخيراً نلفت نظر القارئ إلى ما كتبه كافي الكفاة الصاحب إسماعيل بن عبّاد (ت: 326 ـ م ـ 385) في الردّ على القدريّة أسماها «الابانة عن مذهب أهل العدل بحجج القرآن والعقل».
وبما أنّ هذه الرّسالة طريفة في بابها نأتي بنصّ ما يخصّ بردّ القدريّة، ويريد من هذه اللّفظة القائلين بالقدر على وجه يستلزم الجبر و إليك نصّها:
رسالة الصاحب في الرد على القدريّة (المجبّرة)
زعمت المجبّرة القدريّة : أنّ الله يريد الظلم والفساد، ويحبُّ الكفر والعدوان، ويشاء أن يشرك به ولا يعبد، ويرضى أن يجحد و يسبّ و يشتم، وقالت العدليّة : بل الله لا يرضى إلاّ الصّلاح و لا يريد إلاّ الاستقامة والسّداد، وكيف يريد الفساد و قد نهى عنه و توعّد، وكيف لا يريد الصّلاح و قد أمر به ودعا إليه، ولو لم يفعل العباد إلاّ ما أراد الله تعالى لكان كلّهم مطيعاً لله تعالى، فإن كان الكافر قد فعل ما أراد منه مولاه فليس بعاص، وأطوع ما يكون العبد لمولاه إذا فعل ما يريده، وأيضاً فليس بحكيم من أراد أن يشتم، ولم يرد أن يعظّم، ورضى أن تجحد نعمه، وأحبّ أن لا تشكر مننه، قال الله تعالى : (وَمَا اللّهُ يُريدُ ظُلماً لِلْعِبادِ)(1) وقال تعالى : (ولا يَرضى لِعبَادِهِ الكُفْرَ)(2))
________________________________________
1. المؤمن / 31. 2. الزمر / 9.
________________________________________
(133)
وقال تعالى : (وَاللّهُ لا يُحِبُّ الفَسَادَ)(1) وقال تعالى في تكذيب من زعم أنّ الكفّار كفروا بمشيئة الله : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَ لاآبَاؤُنَا وَ لا حَرَّمْنَا مِنْ شَيء كَذَلِكَ ـ إلى قوله ـ و إِنْ أَنْتُمْ إلاّ تَخْرُصُونَ) (2) أي تكذبون.
فإن قالوا : وقال الله (وَمَا تَشَاءُونَ إلاّ أَنْ يَشَاءَ اللّهُ) (3) فقل: هذه الآية وردت على الخير دون الشرّ. وقال تعالى : (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إلاّ أَنْ يَشَاءَ اللّهُ)(4) )وقال تعالى في سورة اُخرى: (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً * وَ مَا تَشَاءُونَ إلاّ أنْ يَشَاءَ اللّهُ)) (5).
فإن قالوا : لو أراد من العبد شيئاً ولم يفعل لكان العبد قد غلبه، فهذا ينقلب في الأمر، لأنّه قد خولف ولم يكن مغلوباً، وكذلك الارادة. ألا ترى إلى من قال و أراد من مملوك شيئاً ولم يفعله، وأمر آخر بفعل فخالف لكان المخالف في الأمر أعظم في النفوس عصيانا، كلاّ...بل هو الغالب، و إنّما أمهل العصاة حلماً ولم يجبرهم على الإيمان، لأنّ المكره لا يستحقّ ثواباً، بل أزاح عللهم، وأقدرهم و أمكنهم، فمن أحسن فإلى ثوابه، ومن أساء فإلى عقابه، ولو شاء لأكرههم على الإيمان أجمعين كما قال تعالى: (وَلَو شَاءَ رَبُّكَ لاَمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتّى يَكُونُوا مُؤْمِنينَ)(6) وكقوله تعالى: (وَلَو شِئْنَا لاََتَيْنَا كُلَّ نَفْس هُداهَا ـ إلى قوله ـ )أَجْمَعِينَ)(7) وقال تعالى: (لاإِكْرَاهَ فِي الدّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ)(8).
وزعمت القدريّة: أنّ الله تعالى خالق الكفر و فاعله، و منشئ الزنا و مخترعه ومتولّي القيادة و موجدها، ومبتدع السرقة و محدثها، و كلّ قبائح العباد من صنعته، وكلّ تفاوت فمن عنده، وكلّ فساد فمن تقديره، وكلّ خطأ فمن تدبيره.
فإن قالوا على سبب التلبيس : إنّ العبد يكتسب ذلك، فإذا طولبوا بمعنى
________________________________________
1. البقرة / 205. 2. الأنعام / 148 . 3. الدهر / 30. 4. التكوير / 28 ـ 29 . 5. الدهر / 29 ـ 30. 6. يونس / 99 . 7. السجدة / 13. 8. البقرة / 256 .
________________________________________
(134)
الكسب لم يأتوا بشيء معقول، وقالت العدليّة: معاذالله أن يكون فعله إلاّ حكمة و حقّاً، وصواباً وعدلاً، فالزنا فعل الزاني انفرد بفعله، فكلّ قبيح منسوب إلى المذموم به، و إنّما تولّى المذمّة العاصي، إذ باع الآخرة بالدُّنيا، ولم يعلم أنّ ما عندالله خير وأبقى، ولو كان قد خلق أعمال العباد لما جاز أن يأمر بها وينهاهم عنها كما لم يجز أن يأمرهم بتطويل جوارحهم و تقصيرها، إذ خلقها على ما خلقها، ولو خلق الكفر لما جاز أن يعيب ما خلق، ولو كان فاعل الكفر لما جاز أن يذمّ و يعيب ما خلق و يذمّ مافعل، ولو كان مخترعَ الفساد لما جاز أن يعاقب على ما اخترع، ولا تنفكّ القبائح من أن تكون من الله تعالى فلا حجّه على العبد، أو من الله و من العبد فمن الظلم أن يفرده بعقاب ما شارك في فعله، أو من العبد فهو يستحقّ العقاب، وقال تعالى : (يَلْوون أَلْسِنَتَهُمْ بِالكِتَابِ ـإلى قوله ـ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ)(1) )فلو كان لوي ألسنتهم من خلق الله تعالى لما قال: (وما هو )من عند الله )(2).
وبعد، فالكفر قبيح و أفعال الله حسنة، فعلمنا أنّ الكفر ليس منها، و هكذا أخبر تعالى بقوله : (الّذي أحْسَنَ كُلَّ شَيْء خَلَقَهُ)(3) وقوله تعالى: (صُنْعَ اللّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْء)(4) ).
فإن سألوا عن قوله تعالى: (وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَ مَا تَعْمَلُونَ) (5) فقل: هذه الآية لو تلوتم صدرها لعلمتم أن لا حجّة لكم فيها، لأنّه تعالى أراد بالأعمال هيهنا الأصنام، والأصنام أجساد، وليس من مذهبنا أنّا خلقنا الأصنام، بل الله خلقها، ألا ترى أنّه قال تعالى : (أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ) *وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَ مَا تَعْمَلُونَ))(6) .
فإن قالوا: (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْأَلُونَ)(7) فقل: إنّه أدلّ على العدل، لأنّ العباد يُسألون عن أفعالهم لما كان فيها العبث و الظلم والقبيح، والله تعالى لمّا كانت أفعاله كلّها حسنة لا قبيح فيها، وعدلاً لا ظلم معها، تنزّه عن أن يسأل، ولم يرد بهذا ما
________________________________________
1. آل عمران / 78. 2. آل عمران / 78. 3. السجدة / 7 . 4. النمل / 88. 5. الصافات / 96 . 6. الصافات / 95 ـ 96. 7. الأنبياء / 23 .
________________________________________
(135)
تريده الفراعنة إذ قالت لرعيّتها: وقد سألناكم فلا تسألونا لم أظلمكم وأفسقكم (كذا)، كلاّ ... فإنّه تعالى لم يدع للسؤال موضعاً بإحسانه الشامل، وعدله الفائض، ولولا ذلك لم يقل: (لئلا يكون للنّاس على الله حجّة بعد الرسل)(1) فنحن نقول: إنّ أفعالنا الصالحة من الله ليس بمعنى أنّه فعلها، وكيف يفعلها و فيها خضوع وطاعة، والله تعالى لا يكون خاضعاً ولا مطيعاً، بل نقول: إنّها منه، بمعنى أنّه مكّن منها، ودعا إليها وأمر بها و حرّض عليها، و نقول: إنّ القبائح ليست منه لأنّه نهى عنها، وزجر وتوعّد عليها، وخوّف منها و أنذر، ونقول: إنّها من الشيطان بمعنى أنّه دعا إليها و أغوى، و مَنّى في الغرور (وَمَا رَبُّكَ بِظَلاّم لِلْعَبِيدِ)(2) ) (أنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَ الإحْسَانِ ـ إلى )قوله ـ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (3) و قال تعالى في صفة الشيطان: (يَعِدُهُمْ وَ يُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ )الشَّيْطَانُ إلاّ غُرُوراً) (4).
فإن قالوا: فقد قال تعالى: (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ) (5) قلنا: معنى الآية غير ما قدّرت ولو قدّرتها كما نقدّر لعلمت أن لا حجّة فيها لك، لأنّه تعالى يقول: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هِذِهِ مِنْ عِنْدِ اللّهِ ـ إلى قوله ـ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ)(6) فإنّما هذا في الكفّار حيث تطيّروا بنبيّ الله ـ عليه السلام ـ وكانوا إذا أتاهم الخصب يقولون هذا من عندالله و إذا أتاهم الجدب يقولون: هذا من عندك، كما قال تعالى: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةً يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَ مَنْ مَعَهُ ـ إلى قوله ـ لا يَعْلَمُونَ) (7)فبيّن الله تعالى أنّ ذلك كلّه ـ يعني الخصب والجدب ـ من عنده،إلاّ أنّه لم يقل: و إن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندنا على ما تذكره المجبّرة وقد دلّ الله على بطلان قولهم: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَة فَمِنَ اللّهِ وَ مَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَة فَمِنْ نَفْسِكَ) (8) .
وزعمت المجبّرة القدريّة أنّ الله خلق أكثر العباد للنّار، وخلقهم أشقياء بلا ذنب
________________________________________
1. النساء / 165. 2. فصلت / 46 . 3. النحل / 90. 4. النساء / 120 . 5. النساء / 78. 6. النساء / 78. 7. الاعراف / 131 . 8. النساء / 79.
________________________________________
(136)
ولا جرم، وغضب عليهم و هو حليم من غير أن يغضبوه، وخذلهم من قبل أن يعصوه، وأضلّهم عن الطّريق الواضح من غير أن خالفوه، وقالت العدليّة: خلق الله الخلق لطاعته، ولم يخلقهم لمخالفته، وأوضح الدّلالة والرّسل لصلاح الجماعة، ولم يضلّ عن دينه و سبيله.
وكذا أخبر بقوله تعالى:(وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَ الإنْسَ إلاّ لِيَعْبُدُون ) (1) وكيف يمنع إبليس من السّجدة ثمّ يقول: (مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ )(2).
فإن سألوا عن قوله تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الجِنَّ وَ الإنْسِ ) (3) قيل: «لام العاقبة» معناها أنّ مصيرهم إلى النار، كما قال تعالى: (فَالتَقَطَهُ آلُ فِرْعَونَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَ حَزَناً ) (4) و إن كانوا التقطوه ليكون لهم قرّة عين، وقد بيّن ذلك بقوله تعالى: (وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَونَ )قُرَّتُ عَيْن لِي وَلَكَ ) ـ إلى(5) آخره ـ وكذلك الجواب بقوله تعالى: (أنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إثْماً ) (6).
وزعمت المجبّرة القدريّة أنّ الله يضلّ أكثر عباده من دينه، فأنّه ما هدى أحداً من العصاة إلى ما أمرهم به، وأنّ الأنبياء ـ عليهم السلام ـ أراد الله ببعثهم الزيادة في عمى الكافرين، و قالت العدليّة: أنّ الله لا يضلّ عن دينه أحداً، ولم يمنع أحداً الهدى الّذي هو الدلالة، وقد هدى ومن لم يهتد فبسوء اختياره غوى. قال الله تعالى: (وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا العَمَى عَلَى الهُدَى )(7) على أنّا نقول أنّ الله يضلّ من شاء ويهدي، و أنّه يضلّ الظالمين عن ثوابه وجنّاته، وذلك جزاء على سيئاتهم، وعقاب على جرمهم، قال الله تعالى: (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إلاّ الفَاسِقِينَ ـ إلى قوله ـ أُولئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ)(8) فأمّا الضلال عن الدين فهو فعل
شياطين الجنّ والإنس، ألا ترى أنّ الله تعالى ذمّ عليهم فقال: (وَأَضَلَّهُمُ السّامِرِيُّ )(9)وقد حكى عن أهل النّار أنّم يقولون:
________________________________________
1. الذاريات / 56. 2. ص / 75 . 3. الأعراف / 179 . 4. القصص / 8. 5. القصص / 9 . 6. آل عمران / 178 . 7. فصلت / 16. 8. البقرة / 26 ـ 27 . 9. طه / 85 .
________________________________________
(137)
(وَمَا أَضَلَّنَا إلاّ المُجْرِمُونَ) (1) وما يقولون: وما أضلّنا إلاّ ربّ العالمين.
وقالت المجبّرة القدريّة: أنّ الله كلّف العباد ما لا يطيقون، وذلك بادّعائها أنّ الله خلق الكفر في الكفّار، ولا يُقدرهم على الإيمان ثمّ يأمرهم به، فإذا لم يفعلوا الإيمان الّّذي لم يُقدره عليهم، وفعلوا الكفر الّذي خلقه فيهم، وأراده منهم، وقضاه عليهم، عاقبهم عذاباً دائماً.
وقالت العـدليـّـة :معاذالله! إنّ الله لايكلّف العباد ما لايتّسعون له (الوسع: دون الطاقة) إذ تكليف ما لا يطاق ظلم و عبث، و أنّه لا يظلم ولا يعبث ولو جاز أن يكلّف من لا يُقدره على الإيمان لجاز أن يكلّف من لا مال له باخراج الزّكاة، وأن يكلّف المُقعد بالمشي والعدو وقال تعالى: (لايكلّف الله نفساً إلاّ وسعها) (2) فهو لايكلّف من لا يستطيع قبل الفعل أن يفعل، قال تعالى: (ولله عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إليهِ سبِيلاً ) ـ إلى آخره(3) ـ فهو يأمر بالحجّ قبل الحجّ، فكذلك استطاعته قبل أن يحجّ، ولو لم يستطيعوا الإيمان لم يقل لهم: (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ)(4) ولو نصرهم على الإفك لم يقل: (فَأَنّى يُؤْفَكُونَ) (5).
و ادّعت المجبّرة أنّ الأقدار المذمومة حتم من الله، ونفيناها عنه سبحانه، لأنّ تقديره لا يكون باطلاً ولا متناقضاً، فلمّا وجدنا الأشياء المتناقضة الباطلة علمنا أنّه لا يقدّرها و كفى القدريّة إذا أثبتوا ما تنازعنا فيه و نفيناه، ولو جاز لجاز أن يكون من ينفي التنصّر نصرانيّاً، ومن ينفي التهوّد يهوديّاً.
فإن قالوا: إنّكم أثبتّم ذلك لأنفسكم، ومثبت الشيء لنفسه أولى ممّن ينسبه إليه، فالجواب: أنّ التنازع بيننا لم يقع في كوننا قادرين، فأنّما تنازعنا في أنّ الأقدار المذمومة تثبت لله سبحانه و تعالى أوينزّه عنها، فأثبتوها إن كنتم قدريّة.
________________________________________
1. البقرة / 286 . 2. الشعراء / 99. 3. آل عمران / 97. 4. التكوير / 26 . 5. العنكبوت / 61.
________________________________________
(138)
وبعد: فلوكان من أثبتها لنفسه قدريّاً لكان على زعمكم قد أثبته الله لنفسه فهو قدريّ و بعد هذا القول، فلو كان هذا اسم ذمّ فهو لكم أليق، لأنّكم فعلتم القبائح وأضفتموها إلى الله تعالى البريء منها، وقد قال عزّ من قائل : (وَمَنْ يَكْسِبُ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمَاً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَريئاً ) ـ إلى آخرها ـ (1).
تمّ الكلام في القــدريّة
________________________________________
1. النساء / 112.
 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية