اختلاف الأشعري والماتريدي

البريد الإلكتروني طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 3 ، ص 55 ـ  60
________________________________________
(55)
حصيلة البحث:
هذه المسائل العشر الّتي اختلف فيها الماتريدي والأشعري تميط السّتر عن وجه المنهجين، وتوقفنا على الاختلاف الهائل السائد عليهما، وتكشف عن أنّ منهج الماتريدي منهج يعلو عليه سلطان العقل، وعلى ضوء هذا لا يصحّ لمحقّق كتاب «التّوحيد» للماتريدي أن يقول: «إنّ توسّط الماتريدي (بين أهل الحديث والمعتزلة) هو بعينه توسّط الأشعري، وإنّ شيخي السنّة يلتقيان على منهج واحد، ومذهب واحد، في أهمّ مسائل الكلام الّتي وقع فيها الخلاف بين فرق المتكلّمين»(2).
لا شكّ أنّ الشيخين يلتقيان في عدّة من المسائل، كجواز رؤيته سبحانه في الآخرة، وأنّه متكلّم بالكلام النّفسي الّذي هو صفة له قديمة بذاته، وهو ليس من جنس الحروف والأصوات، إلى غير ذلك من الاُصول.
لكنّ الاتّفاق فيهما، وفي بعض الاُصول الاُخر الّتي اتّفق عليها أكثر المسلمين، لا يضفي لون الوحدة للمنهجين.
________________________________________
1. مقدمة التوحيد: ص 17 ـ 18 .
________________________________________
(56)
نعم هناك مسائل اختلف الداعيان فيها، ولا يعدّ الاختلاف فيها جذريّاً، ونحن نشير إلى قسم منها:
1ـ الوجود نفس الماهية أو غيرها؟
نقل البياضي في «إشارات المرام» أنّ المختار لدى الماتريديّة هو المغايرة، ولدى الأشعري هو الوحدة.
والظّاهر كون الاختلاف لفظياً، والمراد هو الوحدة في عالم العين والتحقّق، والمغايرة في عالم التصور والذهن
(1).
2ـ البقاء هو الوجود المستمر أو وصف زائد؟
البقاء لدى الماتريدي نفس الوجود المستمرّ وليس شيئاً زائداً على وجود الذات في الزمان الثّاني، خلافاً للأشعري حيث إنّ البقاء عنده صفة زائدة على الذّات مثل سائر الصفات حتّى في البارئ عزّ اسمه(2).
يلاحَظ عليه: أنّ البقاء وصف انتزاعيّ من استمرار وجود الشيء الزّماني: وليست له واقعيّة وراء استمراره.
وأمّا الوجود الخارج عن إطار الزّمان كالمجرّدات، فإطلاق الباقي عليه بملاك آخر، ليس هنا محلّ بيانه.
3 ـ القدرة غير التكوين، والتكوين غير المكوِّن:
وممّا اختلف فيه الدّاعيان، هو أنّ القدرة نفس التّكوين كما عليه الأشاعرة، أو غيره كما عليه الماتريديّة.
________________________________________
1. اشارات المرام: ص 53 و 94 . 2. لاحظ شرح المنظومة بحث اصالة الوجود ص 13 .
________________________________________
(57)
قالت الأشاعرة: إنّ الشأنيّ من الاستطاعة (إن شاء فعل) هو القدرة، والفعليّ منها (إذا شاء فعل) هو التّكوين، فليست هنا صفتان مختلفتان، بل وصف واحد بمعنى القدرة، له حالتان تحصلان باقتران المشيئة وعدمها، فالقدرة قديمة، والتّكوين حادث، وأمّا الماتريديّة فتتلقّاهما وصفين ذاتيّين مختلفين، والصفات الفعليّة من الخلق، والرّزق، والرّحمة، والمغفرة، تجتمع تحت وصف التكوين دون القدرة.
وعلى أيّ تقدير فهما يختلفان في مسألة اُخرى أيضاً، وهو كون التكوين بالمعنى المصدر، هل هو نفس المكوَّن (اسم المصدر) كما عليه الأشاعرة، أو غيره كما عليه الماتريديّة، فهناك فعل بمعنى الخلق والتكوين، وهناك مخلوق ومكوّن في الخارج، والمسألتان واردتان في كلام البزدوي وغيره.
قال البزدوي: قال أهل السنّة والجماعة: إنّ التكوين والإيجاد صفة الله تعالى غير حادث، بل هو أزلي كالعلم والقدرة (المسألة الاُولى) والمكوّن والموجود غير التكوين، وكذا التخليق والخلق صفة الله تعالى غير حادث بل أزليّ وهو غير المخلوق (المسألة الثّانية) وكذا الرحمة والإحسان وكذا الرزق والمغفرة، وجميع صفات الفعل للّه.
وقالت الأشعرية: إنّ هذه الصفات ليست بصفات الله تعالى، والفعل والمفعول واحد، وقالوا في صفات الذّات كالعلم والحياة مثل قولنا(1).
وقال البياضي: وصفات الأفعال راجعة إلى صفة ذاتيّة هي التكوين، أي مبدأ الإخراج من العدم إلى الوجود(2)، وليس بمعنى المكوّن(3).
والإمعان في هذه العبارات وأمثالها، يدلّ على أنّ صفات الفعل كالاحسان والرزق و.. عند الماتريديّة يجمعها وصف التكوين، فالكلّ واقع تحته، لا تحت القدرة، لأنّه يكفي فيها صحّة التعليق(إن شاء فعل) وإن لم يفعل، وهذا بخلاف وصف التكوين،
________________________________________
1. اُصول الدين للبزدوي ص 69. لاحظ «إشارات المرام» ص 69 . 2. اسارة إلى المسألة الاُولى . 3. اسارة إلى المسألة الثانية ص 53 .
________________________________________
(58)
وهو لا يصدق إلاّ مع وجود الفعل، وبما أنّ التكوين غير المكوّن، والأوّل قائم بذاته، بخلاف المكوّن والمخلوق إذ هو موجود منفصل عنه سبحانه، يكون التكوين أو الخلق وصفاً أزليّاً، بخلاف المكوّن والمخلوق فإنّهما حادثان بحدوث الموجودات.
يلاحظ عليه:
1ـ أنّ التكوين والخلق ليس إلاّ إعمال القدرة عند تحقّق المشيئة، فلا يكون وصفاً وراء ظهورها وشأنيّة التعلّق في القدرة، وفعليّته في التكوين، لا تجعلانهما شيئين مختلفين، بل أقصى الأمر وحدتهما جوهراً، واختلافهما مرتبة.
وعلى ذلك فتكون جميع الصفات الفعليّة مجتمعة تحت القدرة إذا انضمّت إليها المشيئة والإرادة.
2 ـ لو كان التكوين وصفاً ذاتيّاً أزليّاً، لاستلزمت أزليّته، أزليةَ بعض المكوّنات وقدمتها، إذ لا يفارق وصف التكوين وجوداً عن وجود المكوّن، وهو ينافي اُصول التوحيد، ولو فسّر بشأنية التكوين، يكون بمعنى القدرة لا شيئاً غيرها، وهو بصدد تصوير المغايرة.
وقد تفطّن البزدوي لهذا الإشكال، ونقله عن بعض مخالفيه وقال: «ربّما يقال: إنّ الايجاد بلا موجود مستحيل، كالكسر بلا مكسور، والضرب بلا مضروب، فلو قلنا بقدم الايجاد (التكوين) صرنا قائلين بقدم الموجودات، وذلك مناف للتّوحيد فلم يمكن القول بقدم الإيجاد».
لكنّه تخلّص عنه بقوله: «انّ للّه تعالى فعلاً واحداً غير حادث، بذلك الفعل يوجِد الأشياء في أوقاتها، كما أنّ لله تعالى قدرة واحدة، بتلك القدرة يقدر على إيجاد الأشياء في أوقاتها» (1).
________________________________________
1. اُصول الدين ص 73 .
________________________________________
(59)
يلاحظ عليه: أنّ الالتزام بقدم فعل الله سبحانه ولو واحداً، يخالف التوحيد ويضادّه، لأنّ قدم الشيء يلازم استغناءه عن الفاعل والموجد، والمستغنى عن العلّة واجب، كذات الواجب، وهل هذا إلاّ الشّرك الصّريح.
وأنا أجلّ البزدوي عن الاعتقاد بما ذكره، وإلاّ فأيّ فرق بين ذاك القول والثنويّة، ولكنّ الإصرار على تصحيح المنهج، والرأي المسبق، أقحمه في مهالك الضلال. قال الامام علي عليه السلام: « ألا وإنّ الخطايا خيل شُمُس حُمل عليها أهلها، وخُلعَت لجمها، فتقحّمت بهم في النّار»(1).
3ـ جعل التكوين غير المكوّن، والخلق غير المخلوق مبنيّ على التغاير الجوهريّ بين المصدر واسمه، فالايجاد هو المصدر، والموجود هو نتيجته، ولا أظنّ أن يقول به الماتريدي في سائر الموارد. فإذا ضرب زيد عمراً، فالصّادر من زيد، يسمّى بالمصدر، والواقع على عمرو يسمى باسمه، فهل يصحّ لنا أن نعتقد أنّ هنا أمرين، أمر قائم بالفاعل، وأمر قائم بالمفعول وهكذا غيره، أو أنّ هنا شيئاً واحداً إذا نسب إلى الفاعل يسمّى مصدرا.ً وإذا نسب إلى المفعول يصير اسم المصدر، وهذا هو الفرق بين الايجاد والموجود أيضاً.
4ـ الكلام النفسي لا يسمع:
الكلام النّفسي الّذي هو غير الحروف والأصوات لا يسمع خلافاً للأشعري. قال في «اشارات المرام»: «ولا يسمع الكلام النّفسي بل الدالّ عليه، واختاره الاُستاذ ومن تبعه كما في «التبصرة» للامام أبي المعين النسفي»(2).
وقد استند الأشعري في جواز السماع على الدّليل الّذي استند عليه في جواز
________________________________________
1. نهج البلاغة الخطبة 15 ص 44 . 2. إشارات المرام ص 55 .
________________________________________
(60)
رؤيته سبحانه، وجعل الملاك للسماع هو الوجود، كما جعل الملاك لوقوع الرؤية هو كون الشيء موجوداً.
وقد عرفت في الجزء الثاني عند عرض عقيدة الأشعري أنّ الكلام النفسي ليس شيئاً وراء العلم في الإخبار، وليس وراء الإرادة والكراهة في الإنشاء، والقائل به يريد أن يثبت وصفاً مغايراً للعلم والارادة.
كما عرفت بطلان كون المصحِّح للرؤية هو كون الشيء موجوداً، وأنّ كلّ موجود يرى. هذا، وإنّ ملاك السّماع ليس هو الوجود حتّى يستنتج منه أنّ كلّ موجود يسمع، وهذا واضح لمن له أدنى إلمام بالعلوم الطّبيعيّة.
هذا هو عرض إجمالي لمذهب الامام الماتريدي، وقد وقفت على مشخِّصات المنهج، وعرفت الاُصول الّتي اختلف فيها الداعيان، والاُصول الّتي اتّفقا فيها.
والتأمّل فيما ذكرناه من النصوص من نفس الماتريدي وتلاميذ منهاجه، يدفع الإنسان إلى القول بأنّ الشيخين الأشعري والماتريدي كانا في سبيل واحد من الدّعوة، وهو نصرة السنّة ومكافحة الاعتزال، ومع ذلك كلّه فلكلّ واحد اُسلوب خاصّ، والقول بوحدة المنهاجين وكون الاختلاف جزئيّاً، وأنّه في حلبة الدعوة إلى السنّة يقع الحافر على الحافر، مداهنة جدّاً وإخفاء للحقيقة، وإسدال الستر على وجهها.
 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية