ابن تيمية: حياته والرأي العام فيه

البريد الإلكتروني طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 4 ، ص 31 ـ 36
________________________________________
(31)
ابن تيمية: حياته والرأي العام فيه
هو أحمد بن عبد الحليم الحراني الدمشقي، ولد في العاشر من شهر ربيع الأول سنة 661 هـ ، بعد خمس سنوات من سقوط الخلافة الإسلامية في بغداد، وانغمار المسلمين في مشاكل كثيرة.
كان مولده بمدينة حران مهد الصابئة والصابئين من أقدم عصور الإسلام، وقد نشأ النشأة الأُولى إلى أن بلغ السابعة من عمره، فلما أغار عليها التتار، فرّ سكانها منها، وكان ممن هاجر أُسرة ابن تيمية، حيث هاجرت إلى دمشق، وقد اتّجه إلى العلم منذ صغره، وكان يدرس الفقه الحنبلي ويتتبّع سير ذلك المذهب، وكان أبوه من شيوخ هذا المذهب، ففي المدارس الحنبلية تخرج ابن تيمية، ودرس في كنف ابيه وتوجيهه ولم ير منه بادرة إلاّ بعد ما كتب رسالة في جواب سؤال أهل حماة، سألوه بقولهم: «ما قول السادة العلماء أئمة الدين ـ أحسن اللّه إليهم أجمعين ـ في آيات الصفات، كقوله تعالى: (الرّحمنُ عَلىَ العَرْشِ اسْتَوى) وقوله: (ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّماء) إلى غير ذلك من الآيات وأحاديث الصفات، وأيضاً كقوله (صلى الله عليه و آله): «إنّ قلوب بني آدم بين اصبعين من أصابع الرحمن» وقوله: «يضع الجبّار قدمه في النار» إلى غير ذلك، وما قالت العلماء فيه، وليبسطوا القول في ذلك مأجورين إن شاء اللّه؟»(1) .
________________________________________
1. الرسالة الحموية، ص 425 ـ طبعت في ضمن مجموعة الرسائل الكبرى ج 1 .
________________________________________
(32)
فأجاب بما هو نصّ في التجسيم، وإن ذيّل كلامه بشيء يريد به الستر على عاره، ولكنّه لا يسمن ولا يغني من جوع، وسيوافيك نصّه عند تبيين عقائده، فاوجد الجواب ضجة كبرى، وعرف بالشذوذ والانحراف، وكان ذلك عام 698 هـ.
يقول تلميذه «ابن كثير» في حوادث تلك السنة: «قام عليه جماعة من الفقهاء وأرادوا إحضاره إلى مجلس القاضي «جلال الدين الحنفي» فلم يحضر، فنودي في البلد في العقيدة الّتي كان قد سأله عنها أهل حماة، المسماة بالحموية...»(1) .
وقد كانت له محنة أُخرى في عام 705 هـ يذكره ابن كثير في حوادث تلك السنة ويقول: «وفي يوم الإثنين ثامن رجب حضر القضاء وفيهم «الشيخ تقي الدين ابن تيمية» عند نائب السلطنة بالقصر، وقرأت عقيدة الشيخ تقي الدين (الواسطية)، وحصل بحث في أماكن منها، وأُخّرت مواضع إلى المجلس الثاني، فاجتمعوا يوم الجمعة بعد الصلاة ثاني عشر الشهر المذكور، وحضر الشيخ صفي الدين الهندي وتكلم مع الشيخ تقي الدين كلاماً كثيراً، ثم اصطلحوا على أن يكون الشيخ كمال الدين الزملكاني هو الّذي يحاققه من غير مسامحة، فتناظرا في ذلك وشكر الناس من فضائل الشيخ كمال الدين الزملكاني، وجودة ذهنه، وحسن بحثه، حيث قاوم «ابن تيمية» في البحث وتكلم معه...
ثم عقد المجلس في يوم سابع شعبان بالقصر، واجتمع الجماعة على الرضى، إلى أن صدر القرار بنفي الشيخ إلى مصر إن لم يعزف عن بوادره وعقائده، فأدى به الأمر إلى انتدابه في مجلس بالقلعة اجتمع فيه القضاة، وانتدب للبحث معه شمس بن عدنان، وادّعى عليه عند «ابن مخلوف» المالكي أنّه يقول: إنّ اللّه فوق العرش حقيقة، وإنّ اللّه يتكلم بحرف وصوت، فحكم عليه القاضي بالحبس في برج أياما، ثم نقل منه إلى الحبس المعروف بالجب، وكُتِبَ
________________________________________
1. البداية والنهاية ج 14 ص 4 و 26 .
________________________________________
(33)
كتاب نودي به في البلاد الشامية والمصرية، وفيه الحط على الشيخ تقي الدين، فانضمّ إلى صفّه جماعة كثيرة من الفقهاء والفقراء، وجرت فتن كثيرة منتشرة، وحصل للحنابلة بالديار المصرية إهانة عظيمة(1) .
بقي الشيخ في السجن بسبب عقيدته الّتي لا تجتمع مع عقيدة جمهور المسلمين حتّى مطلع سنة (706 هـ) .
يقول ابن كثير: وفي ليلة عيد الفطر من تلك السنة، أحضر الأمير سيف الدين سلار نائب مصر، القضاة الثلاثة وجماعة من الفقهاء، فالقضاة: الشافعي والمالكي والحنفي، والفقهاء: الباجي، والجزري، والمنواري، وتكلموا في إخراج الشيخ تقي الدين ابن تيمية من الحبس، فاشترط بعض الحاضرين عليه شروطاً في ذلك منها أنّه يلتزم بالرجوع عن بعض عقائده، فأرسلوا إليه ليحضر ليتكلموا معه في ذلك، فامتنع عن الحضور .
استهلّت سنة (707 هـ) والشيخ معتقل في قلعة الجبل بمصر، إلى أن أُطلق سراحه يوم الجمعة 23 من ربيع الأول، وخيّر بين الإقامة بمصر أو الروح إلى موطنه الشام، وقد اختار هو الإقامة بمصر، ولكنّه لم يبرح في غلوائه وأفكاره إلى أن واجهته محنة ثالثة، وقد ذكرها ابن كثير ايضاً في تاريخه.
المحنة الثالثة
وفي شوال عام 707 هـ ، شكي منه أيضاً، فردّ الأمر إلى القاضي الشافعي، فعقد له مجلس، وادّعى له ابن عطاء بأشياء ورأى القاضي بدر الدين بن جماعة أنّ في آرائه قلة أدب بساحة النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ فحضرت رسالة إلى القاضي إلى أن يعمل معه ما تقتضيه الشريعة، فتمّ الأمر بحسبه في سجن القضاة، ودخل السجن، وأُفرج عنه في مستهل سنة 708 هـ وبقي في القاهرة إلى أن توجّه منفياً إلى الإسكندرية في ليلة سلخ صفر في عام 709 هـ وأقام هناك ثمانية أشهر إلى أن تغيرت الظروف، فعاد
________________________________________
1. المصدر نفسه .
________________________________________
(34)
الشيخ منها إلى القاهرة يوم عيد الفطر سنة 709 هـ فاقام بها إلى سنة 712 هـ ثم رجع إلى الشام (1).
وشغل الشيخ منصة التدريس والإفتاء إلى سنة 718 هـ . وقد صدر منه فتاوى شاذة، وكان مصرّاً عليها، فعقد له يوم الخميس ثاني رجب من شهور سنة 820 هـ مجلس بدار السعادة، فحضر نائب السلطنة، وحضر القضاة والمعنيون من المذاهب، وحضر الشيخ وعاتبوه، ثم حبس في القلعة خمسة أشهر، إلى أن ورد مرسوم من السلطان بإخراجه يوم الإثنين يوم عاشوراء، سنة 721 هـ .
وظل الشيخ بعد خروجه من الحبس مستمراً في التدريس إلى عام 726 هـ .
يقول جمال الدين يوسف بن تغري الأتابكي: «ورد مرسوم شريف من السلطان في شعبان سنة 726 بأن يجعل في قلعة دمشق، فاقام فيها مدة مشغولا بالتصنيف، ثم بعد مدة منع من الكتابة والمطالعة، وأخرجوا ما كان عنده من الكتب، ولم يتركوا عنده دواتاً[ دواةً] ولا قلماً ولا ورقاً»(2) .
وقال اليافعي: «مات بقلعة دمشق الشيخ الحافظ الكبير، تقي الدين أحمد، بن تيمية، ومنع قبل وفاته بخمسة أشهر عن الدواة والورق»(3) .
هذا، وقد لفظ الرجل نفسه ومات في قلعة دمشق عام 728 هـ وبذلك طويت صحيفة حياته، وبقيت آثاره، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
إنّ ما تلوناه عليك من حياته يعرب:
أولا: إنّه لم يكن رجلا موضوعياً يهمّه ما كان يعاني منه المسلمون في تلك الظروف العصيبة، الّتي كانت الدعوة إلى الوحدة فيها أحوج ما يحتاج إليه
________________________________________
1. البداية والنهاية ج 14 ص 52، وكانت إقامته بمصر سبع سنين.
2. المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي، ص 340 .
3. مرآة الجنان ج 4 ص 277 .

________________________________________
(35)
الناس، فكان يبثّ بذور الخلاف فترة بعد فترة، ويشغل الحكومات والقضاة عن القيام بالواجب بنقل الشيخ من مقام إلى مقام .
وثانياً: إنّ جماهير الفقهاء والقضاة كانوا يخالفونه فيما يبديه من الآراء الشاذة، في مجال الأُصول والفروع، وإنّ آراءه كانت مخالفة لما هو المشهور المجمع عليه بين العلماء .
وثالثاً: إنّ الرجل كان معروفاً بالقول بالتجسيم والتشبيه والجهة، وكان اعتقاله لأجل التفوّه بها، فكلّ من أراد تنزيهه عن هذه التهمة، خالف الرأي العام في حقّه وما عرف منه يوم حياته .
نعم إنّ هناك أُناساً ترجموا للرجل ترجمة وافية، فأثنوا عليه الثناء البالغ، وذكروا ذكاءه وتوقّد ذهنه، وإحاطته بالكتاب والسنّة، كما ذكروا آثاره العلمية من كتب ورسائل، ولكن يؤخذ عليهم بأنّه لماذا ركّزوا على جانب واحد من حياته، ولم يشيروا إلى الجانب السلبي منها، فإنّه لا يمكن لأحد تخطئة أولئك العلماء الذين ناظروه، وباحثوه، وأصدروا أرائهم فيه، وهم كثيرون، ولأجل ذلك نشير إلى المصادر الّتي أخذتها العصبية العمياء فجاءوا كأنّهم يعرفون رجلا أطبق علماء عصره على نزاهته وصفاء فكره، فمن أراد أن يقف عليها فليرجع إلى المصادر التالية:
1- تذكرة الحفاظ للذهبي 4/ 1496، بالرقم 1175. وإن استدرك زلّته هذه ببعث رسالة مستقلة إلى ابن تيمية يستنكر فيها عليه أعماله وأقواله كما ستوافيك .
2- شذرات الذهب في أخبار من ذهب لأبي الفلاح عبد الحي بن عماد الحنبلي (م 1098) 6/80 .
3- طبقات الحفاظ، لجلال الدين السيوطي، (ت 911 هـ)، ص 52 .
4- الذيل على طبقات الحنابلة، لابن رجب زين الدين، أبي الفرج، عبدالرحمن بن شهاب الدين أحمد البغدادي ثم الدمشقي الحنبلي، (736 ـ 795 هـ) 2/ 387، بالرقم 495 .
________________________________________
(36)
5- الوافي بالوفيات، لصلاح الدين، خليل بن أيبك الصفوي 7/15 ـ 33 بالرقم 2964 .
6- طبقات المفسرين، للحافظ شمس الدين محمد بن علي بن أحمد الداودي (م 945 هـ )، ص 45 ـ 49 بالرقم 42 .
7- تاريخ الشيخ زين الدين عمر، الوردي، المعروف بتاريخ ابن الوردي ج 2 ص 406 .
8- البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، تاليف محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ)، ج 1 ص 63 ـ 72 بالرقم 40 .
9- البداية والنهاية، للحافظ عماد الدين، أبي الفداء، إسماعيل بن عمر بن كثير، (م 744 هـ)، ج 14، في حوادث سنة (698 هـ)، وغيرها. ولكنّه أشار في مواضع آخر إلى بعض زلاته ومخالفته للرأي العام في ذلك اليوم كما عرفت .
10- الأعلام للزركلي، ج 1 ص 44 .
نعم هؤلاء هم الدين ركّزوا على الجانب الإيجابي وتناسوا الجانب السلبي، مع أنّ التقييم لا يصحّ إلاّ بملاحظة كلا الجانبين، ولكن هناك جماعة موضوعيين واقعيين، لم تملأ عيونهم كتب الرجل ورسائله، فجاءوا بتقييم آرائه فيما صار سبباً لاشتهاره، وإليك نصوص هؤلاء حتّى لا نخرج في التقييم عن حد العدل .
 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية