شطحات ابن تيميّة التاريخيّة

البريد الإلكتروني طباعة

شطحات ابن تيمية التاريخية

إن الدراسات التاريخية باعتبارها علم مرن يحمل اشكالات متعددة تستلزم عقلاً منفتحاً يتكيف مع الأحداث والوقائع من أجل استيعابها واستخلاص النتائج الممكنة بعد عرض الأسباب الفاعلة في الحدث التاريخي ، ومنه الوصول إلىٰ النتيجة الحقيقية والواقعة الصحيحة ، لكن إذا كان الباحث للتاريخ صاحب عقل متعنت غلب عليه التعصب والعماء فإن العكس هو الصحيح ، وفعلا هذا ما حصل مع ابن تيمية حينما تطاول علىٰ التاريخ وسمح لنفسه أن يصبح مؤرخاً يعطي رأيه في الأحداث التاريخية لتزل قدمه مرّة أخرىٰ بعدما زل في ميدان العقائد.

لقد جاء كتابه منهاج السنة مليء بهذه الثغرات التاريخية والتعصبات المذهبيّة حتىٰ عرف كما قلنا سابقاً بكتاب الرد علىٰ الرافضي وبمعنىٰ آخر إن كتابه هذا أغلبه في الرد علىٰ الشيعة حتى بلغ به الأمر إلى التنقيص المستمر من آل محمد عليهم السلام باعتبارهم المعتمد عليهم عند الشيعة. وقد التفت ابن حجر العسقلاني إلىٰ هذه النقطة حيث قال : وكم من مبالغة لتوهين كلام ( الرافضي ) أدته أحياناً إلىٰ تنقيص علي رضي الله عنه (1) فقد صدر عنه بدون تورع واستحياء قوله أنه ليس في الأئمة الأربعة ولا غيرهم من أئمة الفقه من يرجع إلىٰ علي في فقهه ، أما مالك فإن علمه عن أهل المدينة ، وأهل المدينة لا يكادون يأخذون عن علي ، وأما أبو حنيفة والشافعي وأحمد فينهي ابن تيمية علمهم إلىٰ ابن عباس ، ثم يقول وابن عباس كان مجتهداً مستقلاً وكان إذا أفتىٰ بقول الصحابة أفتىٰ بقول أبي بكر وعمر لا بقول علي (2).

وهذا مما يتنافى مع ما تعارف عليه حيث أن الكل كان يستشهد بمنزلة علي عليه السلام (3) العلمية فابن عباس كان يقول أن ما أخذته من تفسير القرآن فعن علي ابن أبي طالب وعمر نفسه كان يقول لولا علي لهلك عمر ناهيك عما صدر عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : « أنا مدينة العلم وعلي بابها » (4) وكذلك قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم لفاطمة عليها السلام : « أما ترضين أن أزوجّكي أقدم أمتي سلما وأكثرهم علماً وأعظمهم حلماً » (5) كما ذكر صاحب طبقات الفقهاء ـ ابو اسحاق الشيرازي الشافعي ـ قولا لعبد الله ابن عباس يقول : أعطي علي تسعة أعشار العلم وإنه لأعلمهم بالعشر الباقي (6) من هنا يضمحل قول ابن تيمية أمام التبجيل العظيم والاعتراف الصريح بأفضلية علي عليه‌ السلام علىٰ جميع المسلمين.

لكن يا ليت ابن تيمية وقف عند هذا الحد ، بل تعداه إلىٰ شخصية الامام الجهادية والتي قامت مدافعة لرأب صدع الإسلام وجمع شتات المسلمين بحيث رأىٰ أن علياً لم يقاتل علىٰ طاعة الله ورسوله بل قاتل ليطاع هو (7). فلو كانت محاربته محاربة للرسول لكان المنتصر في آخر الامر هو ، ولم يكن الامر كذلك بل كان آخر الأمر يطلب مسالمة معاوية (8).

إن هذا الأمر ليس غريباً عن رجل مثله فهو أول رجل يحقق أحلام دمشق القديمة في خلق كتاب فضائل معاوية (9) وقد جمع لأول مرة في التاريخ كتاباً منفرداً بعنوان ـ فضائل معاوية وفي يزيد وأنه لا يسب ـ (10) علماً أن هناك بون شاسع بين المسلمين الأوائل ، والطلقاء أبناء الطلقاء ولسنا هنا في معرض الدفاع والرد علىٰ ما قاله بقدر ماهو طرح لهذه الافكار الشاذة والتي ما قال بها أحد قبله.

ولم يقف الامر عند هذا الحد بل أصبح يبيح قتل المسلمين وجعل القتل أمراً عادياً إذا كان في مكائد الحرب علماً أن المقتول هذه المرة هو الحسن بن علي عليه السلام وحبيب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والذي قال فيه رسول الله سيد شباب أهل الجنة وريحانته ، فكيف وأن الإسلام شد الوعيد علىٰ من قتل مسلماً متعمداً فجزاؤه جهنم لقوله تعالىٰ : ( مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ) (11).

فيأتي ابن تيمية ببرودة ويقول إن معاوية حين أمر بسم الحسن وقتله كان ذلك من باب القتال الدائر بينهما (12). وهذا من باب التبريرات التاريخية الواهية فكيف يأمر بسمه وقد عاهده علىٰ الصلح ولا أظن أن الامام الحسن عليه السلام ممن ينسىٰ أنّ وعد المسلم دين عليه. فحادثه التسميم كانت بعد الصلح وبهذا يصبح لا مبرر لهذا العمل الشنيع والذي لم يحرك له شيخنا الجليل ساكناً.

والأشنع من ذلك موقف ابن تيمية من ثورة الامام الحسين حيث يرىٰ أن مفسدة ثورة الامام الحسين عليه السلام أعظم من مصلحتها ، ورأى أن كل من خرج علىٰ إمام ذي سلطان إلا كان ما تولد علىٰ فعله من الشر أعظم مما تولد من الخير (13) ، وبهذا يصير يزيد الفاسق شارب الخمر واللاعب بالقرود إماماً والذي قام لإصلاح هذا الوضع حيث قال الحسين عليه السلام ( إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولكني خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدّي لآمر بالمعروف وأنهىٰ عن المنكر ) مفسداً.

إن هذه الرسالة الخالدة لم تحرك في ابن تيمية ساكناً بل يرىٰ أنه لم يكن في خروج الامام الحسين عليه السلام مصلحة لا في دين ولا في دنيا ، وكان في خروجه وقتله من الفساد ما لم يكن يحصل لو قعد في بلده ، وهذه رؤية مادية لا ترىٰ البعد الاستراتيجي لثورة الامام الحسين.

فخروجه أولا عن علم باستشهاده وكتب الحديث تشهد بذلك فقد مر علي عليه السلام بكربلاء في طريقه إلىٰ صفين فنادىٰ اصبراً أبا عبد الله بشط الفرات.

قيل له وما ذاك ؟

فقال دخلت علىٰ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ذات يوم وعيناه تفيضان ، فقلت ما أبكاك يا رسول الله ؟

فقال : « بلىٰ ، قام من عندي جبريل قبل فحدثني أن الحسين يقتل بشط الفرات وقال لي هل لك أن أشمك من تربته ؟

قال فمد يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها فلم أملك عيني أن فاضتا » (14) لكن ابن تيمية لم يلتفت إلى هذا.

والبعد الثاني والذي يرىٰ فيه مفسدة للدين لا أظنه إلّا العكس فلولا الحسين عليه السلام لذهبت كل القيم الإسلامية لأنه أول من فتح الثورة علىٰ الظلم والطغيان فجاءت ثورة التوابين والمختار الثقفي ، وزيد بن علي رضي الله عنه وابنه يحيىٰ ، واستيقظت الضمائر بعدما انحنت للظلم فاستشهد التابعي الجليل سعيد بن جبير. إذن كل هذا الإحياء الديني حركته ثورة الإمام الحسين عليه السلام ولكن الغريب أن نجد إنساناً غربياً يفهم هذه الأبعاد العظمىٰ للثورة الحسينية ولا يفهمها من يعيش داخل هذا الدين.

فقد قال ماربين في كتابه السياسة الإسلامية :

« إن حركة الحسين في خروجه علىٰ يزيد كانت عزمة قلب عزّ عليه الإذعان وعزّ عليه النصر العاجل فخرج بأهله وذويه ذلك الخروج الذي يبلغ به النصر الآجل بعد موته ، ويحيي به قضية مخذولة ليس لها بغير ذلك حياة.

هكذا فهم هذا الغربي البعد الحقيقي والسامي (15) لثورة الامام الحسين عليه السلام والذي قال فيه الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ( حسين مني وأنا من حسين ، أحب الله من أحب حسيناً ، حسين سبط من الأسباط ) (16).

إذن لماذا هذا الحب المفرط من رسول الله صلّى الله عليه وآله ؟ إذا لم يكن يعلم صلاحه ورشده لكن عالمنا النحرير لم تحركه هذه الأحاديث بل يرىٰ في قتل الإمام الحسين حالة عادية بحيث يرىٰ بأن يزيد ليس بأعظم جرما من بني إسرائيل ، كان بنوا إسرائيل يقتلون الأنبياء وقتل الحسين ليس بأعظم من قتل الأنبياء (17). وكأن الله تعالىٰ موافق علىٰ قتل أنبياء بني إسرائيل وحاشىٰ أن يكون هذا وهو القائل ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ) (18).

إن القتل بحد ذاته محرم داخل الشريعة الإلهية والأعراف وهذا للأشخاص العاديين فكيف إذن بمن كرمهم الله من انبياء وأئمة وعلىٰ يد من ؟ كفار وفساق أي ان حالة الحق والباطل ظاهرة. لكن حينما تعمىٰ الأبصار والعقول فلا حياة لمن تنادي.

الهوامش

1. ابن حجر العسقلاني ، لسان الميزان : 6 / 319.

2. ابن تيمية منهاج السنة : 4 / 142 ـ 143.

3. راجع كتاب إثبات حديث علىٰ باب مدينة العلم لعبد الله ابن الصديق الحسني المغربي.

4. سنن الترمذي : 5 / 637 ، ح 3723.

5. مسند أحمد : 5 / 26.

6. صائب عبد الحميد ، ابن تيمية حياته ، عقائده ص 328.

7. ابن تيمية ، منهاج السنة : 2 / 202 ـ 205.

8. المصدر السابق : 2 / 233 ـ 234.

9. صائب عبد الحميد ، ابن تيمية حياته ، عقائده ص 278.

10. الوافي بالوافيات : 7 / 16 بواسطة صائب عبد الحميد.

11. المائدة : 32.

12. منهاج السنة ، ابن تيمية : 2 / 225.

13. المصدر السابق : 2 / 241.

14. مسند أحمد : 1 / 85 ، البداية والنهاية : 8 / 201.

15. ابو الشهداء : 118 عن ماربين في كتابه بواسطة صائب عبد الحميد ابن تيمية حياته عقائده ص 402.

16. أخرجه البخاري في التاريخ الكبير : 8 / 1415 ، ح 3536.

17. ابن تيمية ، منهاج السنة : 2 / 247.

18. المائدة : 78.

مقتبس من كتاب : تاريخ الشيعة بين المؤرّخ والحقيقة / الصفحة : 71 ـ 77

 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية