النتائج المحمودة لحفظ الآثار الإسلامية

البريد الإلكتروني طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 4 ، ص 181 ـ 191
________________________________________
(181)
النتائج المحمودة لحفظ الآثار الإسلامية
إنّ المحافظة على آثار الأنبياء وخاصة آثار النبي الأكرم من قبره وقبور زوجاته وأولاده وأصحابه والشهداء الذين ضحوا بانفسهم في سبيل دينه، نتائج محمودة لا تستغني عنها الأُمة الإسلامية في وقت من الزمن، فإنّ الشريعة الإسلامية خاتمة الشرائع، وكتابه خاتم الكتب، ونبيه خاتم الأنبياء، فهي حجة على الناس إلى قيام الساعة الّتي لا يحيط بوقتها إلاّ اللّه تعالى، قال سبحانه:
(قُلْ إنَّما عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي، لاَ يُجَلِّيَها لِوَقْتِهَا إلاّ هُوَ)(1) .
فمن الممكن أن تمر على عمر الدنيا، وبالتالي على عمر الشريعة الإسلامية آلاف السنين، فالقضاء على آثار الشريعة ومعالم وجود نبيها يجعلها في معرض التشكيك والتردد، وأنه هل لما يدّعيه المسلمون من الرجة الكبرى ببعث النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ ومواقفه وقضاياه وتشريعاته مسحة حق؟ بل ربما تحولها بعد مدة إلى أُسطورة تاريخية، حيث لا يجد الناس بعد حقب من الدهر آثاراً ملموسة من صاحب الشريعة، وليس هذا شيئاً غريباً، وهذه هي المسيحية قد مضى من عمرها عشرون قرناً، وقد تحول المسيح وأُمه العذراء
________________________________________
1. سورة الأعراف: الآية 187 .
________________________________________
(182)
وكتابه الإنجيل وتلاميذه إلى أساطير تاريخية، وصار بعض المستشرقين يشككون مبدئياً في وجود رجل اسمه المسيح واسم اُمه مريم وكتابه الإنجيل، وكادوا يعتبرونه أُسطورة خيالية تشبه اُسطورة (المجنون العامري وليلاه) وما هذا إلا لعدم وجود أثر ملموس منه، ولا من كتابه الواقعي وأصحابه وحوارييه .
وأمّا المسلمون فهم يواجهون العالم مرفوعي الرؤوس، ويقولون: يا أهل العالم قد بعث نبي في ارض الحجاز قبل ألف وأربعمائة سنة، وقدحقق نجاحاً في مهمته، وهذه آثار وجوده وحياته، فهذه هي الدار الّتي ولد فيها، وهذا هو غار حراء، مهبط وحيه في بدء الأمر، وهذا هو البيت الّذي دفن فيه، وهذه مدارس أولاده و...
فالإبقاء على الآثار الإسلامية وصيانتها من الزوال، صغيرة أو كبيرة، دعم لاستمرار رسالة هذا الدين وبقائه على مدى العصور والأزمان، وتدميرها سبب رئيس لتعريضها للشك والإنكار، وإعانة على أهداف المخالفين .
وقد اهتمّ المسلمون اهتماماً كبيراً بشأن آثار النبي وسيرته وسلوكه، حتّى أنهم سجلوا دقائق أُموره وخصائص حياته و مميزات شخصيته إلى درجة أنهم سجلوا حتّى ما يرتبط بخاتمه وحذائه، وسواكه وسيفه، ودرعه، ورمحه، وجواده وإبله وغلامه، والآبار الّتي شرب منها الماء، والأراضي التى وقفها لوجه اللّه سبحانه، و مشيته، وأكله، وشربه، وما يرتبط بلحيته المقدسة وخضابه لها وغير ذلك، ولا زالت آثار البعض باقية إلى يومنا هذا .
ولو كان ابن تيمية موجوداً في تلك الأعصار، وكان ينظر إلى الموضوع بالفكرة التي نشأ عليها، لرمى الصحابة الأجلاء والسلف الصالح بالشرك والوثنية، وزعم أنهم اتخذوا نبيهم وثناً يعبد، ولكن من حسن الحظ أنه لم يكن موجوداً فيها، ولكن كتب السير حافلة بذكرها فليقض عليهم بالحق.
وما أشبه عمل من يدمر الآثار النبوية تحت واجهة قلع الشرك بعمل الصبيان النوكى الذين يتلاعبون بميراث آبائهم بالتمزيق والتدمير، أوالبيع بثمن بخس .
________________________________________
(183)
ولأجل أن تعرف مدى شيوع هذه السيرة فارجع إلى ما يكتبه أحد الكتاب الوهابيين ويقول:
«وهذا أمر عمّ البلاد، وطبق الأرض شرقاً وغرباً، بحيث لا بلدة من بلاد الإسلام إلاّ فيها قبور ومشاهد، بل مساجد المسلمين غالباً لا تخلو من قبر ومشهد، ولا يسع عقل عاقل أن هذا منكر يبلغ إلى ما ذكرت من الشناعة ويسكت علماء الإسلام»(1) .
فلو كانت هذه سيرة المسلمين، فما معنى ادّعاء الإجماع على حرمة البناء ووجوب هدمه؟
فلو كان الهدم واجباً فلماذا لم يأمر الخليفة عمر بهدم قبور الأنبياء عندما فتح المسلمون بيت المقدس؟.
فهل الخليفة تسامح في هذا الأمر الخطير، أم أنه وسائر الصحابة الحضور في الواقعة، وجدوه أمراً مطابقاً للفطرة والشريعة الإسلامية، فلأجل ذلك أبقوها على حالها، وقام المسلمون بصيانتها وحفظها طوال القرون؟ .
إلى هنا تبين أنه لا إجماع في المسألة، بل لم تكن المسألة خلافية إلى عصر ابن تيمية، وقد خالف هو وحده وتبعه تلميذه ابن القيم، وكانت الفتوى مدفونة في الكتب إلى أن أحياها تلميذه في المنهج محمد بن عبدالوهاب، فنبش تلك الدفائن واستخرج هاتيك الكوامن والبذور المهلكة، فأثمرت قتل النفوس، وقطع الرؤوس كما سيوافيك تفصيل هذه الكوارث .
وقد استند ابن تيمية وأتباعه في ادّعاء الحرمة لحديث أبي الهياج، ونحن نذكر متن الحديث بالسند الّذي رواه مسلم في صحيحه.
«حديثنا يحيى بن يحيى، وأبوبكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب، قال يحيى: أخبرنا وقال الآخران: حدثنا وكيع عن سفيان، عن حبيب بن أبي
________________________________________
1. تطهير الاعتقاد ص 17 طبع مصر. ثم إنه حاول أن يجيب عن هذا الأمر بما الإعراض عن ذكره أحسن .
________________________________________
(184)
ثابت، عن أبي وائل عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علىّ بن أبي طالب: ألا ابعثك على ما بعثني عليه رسول اللّه، أن لا تدع تمثالا إلاّ طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلاّ سوّيته(1) .
زعم المستدل أن معناه: ولا قبراً عالياً إلاّ سوّيته بالأرض.
والاستدلال به باطل، لأنه ضعيف السند، قاصر الدلالة.
وأمّا السند فيكفي أن علماء الرجال ضعفوا هؤلاء الأربعة الواقعين في السند:
1- وكيع.
2- سفيان الثوري .
3- حبيب بن أبي ثابت .
4- أبو وائل الأسدي
(2).
ويكفي في ضعف الحديث أنه رواه أبو الهياج وليس له في الصحاح والمسانيد حديث غير هذا، فكيف يستدل بسند يشتمل على المدلسين والمضعفين والذين لا يحتج بحديثهم، كما ذكره ابن حجر في ترجمة هؤلاء الأربعة .
وإليك نقل اقوال العلماء في حقهم:
1- وكيع: هو وكيع بن الجراح بن مليح، الرواسي، الكوفي، روى عن عدة منهم سفيان الثوري، وروى عنه جماعة منهم يحيى بن يحيى، وهو مع ما مدحوه نقلوا فيه أيضاً قدحاً كثيراً، قال ابن حجر في تهذيب التهذيب:
قال عبداللّه بن أحمد عن أبيه (أحمد بن حنبل) قال: سمعت أبي يقول: كان وكيع أحفظ من عبدالرَّحمن بن مهدي كثيراً كثيراً، وقال في
________________________________________
1. صحيح مسلم، ج 3 كتاب الجنائز ص 61، السنن للترمذي ج 2 ص 256، باب ما جاء في تسوية القبور، السنن للنسائي ج 4 باب تسوية القبر ص 88 .
2. لاحظ تهذيب التهذيب للعسقلاني الأجزاء 3، 4، 11 ص 179، 115، 130، 125 .

________________________________________
(185)
موضع آخر: ابن مهدي أكثر تصحيفاً من وكيع: ووكيع أكثر خطأ منه .
وقال في موضع آخر: أخطأ وكيع في خمسائة حديث .
وقال ابن عماد: قلت لوكيع: عدّوا عليك بالبصرة أربعة أحاديث غلطت فيها، فقال: حدثتهم بعبادان بنحو من ألف وخمسمائة، وأربعة ليس بكثير في ألف وخمسمائة.
وقال علي بن المديني: كان وكيع يلحن، ولو حدث بألفاظه لكان عجباً.
وقال محمد بن نصر المروزي: كان يحدث بآخره من حفظه، فيغيّر ألفاظ الحديث كأنه كان يحدث بالمعنى، ولم يكن من أهل اللسان(1) .
وقال الذهبي في ميزان الاعتدال بعدما مدحه:
قال ابن المديني: كان وكيع يلحن، ولو حدث بألفاظه كان عجباً(2).
* * *
2- سفيان الثوري: وهو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي، أكثروا المدح في حقه، وقال الذهبي: مع أنه كان يدلس عن الضعفاء، ولكن كان له نقد وذوق، ولا عبرة بقول من قال: يدلس ويكتب عن الكذابين(3) .
وقال ابن حجر: قال ابن المبارك: حدث سفيان بحديث فجئته وهو يدلس، فلما رآني استحيى، وقال: نرويه عنك؟(4) .
وقال في ترجمة يحيى بن سعيد بن فروخ قال: أبوبكر، وسمعت يحيى يقول: جهد الثوري أن يدلس علي رجلا ضعيفاً فما أمكنه(5) .
________________________________________
1. تهذيب التهذيب ج 11 ص 123، 131 .
2. ميزان الإعتدال ج 4 ص 336 .
3. ميزان الإعتدال ج 2 ص 169 برقم 3322 .
4. تهذيب التهذيب ج 4 ص 115 في ترجمة سفيان .
5. تهذيب التهذيب ج 11 ص 218 .

________________________________________
(186)
والتدليس هو أن يروي عن رجل لم يلقه، وبينه وبينه واسطة فلا يذكر الواسطة.
وقال أيضاً في ترجمة سفيان: قال ابن المديني عن يحيى بن سعيد: لم يلق سفيان أبا بكر بن حفص، ولا حيان بن أياس، ولم يسمع من سعيد بن أبي بردة، وقال البغوي: لم يسمع من يزيد الرقاشي. وقال أحمد: لم يسمع من سلمة بن كهيل حديث المسائية، يضع ماله حيث يشاء ولم يسمع من خالد بن سلمة بتاتاً، ولا من ابن عون إلاّ حديثاً واحداً(1) .
وهذا تصريح من ابن حجر بكون الرجل مدلساً، وعندئذ يكون فاقداً لملكة العدالة، لأنه كان يصور غير الواقع واقعاً.
وقال الإمام الذهبي: قال صاحب الحلية: أخبرنا أبو أحمد الفطريفي، أخبرنا محمد بن أحمد بن مكرم، أخبرنا علي بن عبد الحميد، أخبرنا موسى بن مسعود، أخبرنا سفيان، دخلت على جعفر بن محمد وعليه جبة خز وكساء خز دخاني، فقلت: يابن رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ ليس هذا من لباس آبائك قال: كانوا على قدر اقتار الزمان، وهذا زمان قد اسبل عزاليه ثم حسر عن جبّة صوف تحته، وقال: لبسنا يا ثوري هذا للّه وهذا لكم، فما كان للّه أخفيناه وما كان لكم أبديناه(2) .
إنّ هذا الإعراض يدل على عدم فهمه للأُمور، وعدم معرفته بها .
* * *
3- حبيب بن أبي ثابت قيس بن دينار: تابعي، وثقه بعض، ولكن قال ابن حبان في الثقات: كان مدلساً، وقال العقيلي: غمزه ابن عون، وقال القطان: له غير حديث عن عطاء لا يتابع عليه، وليست محفوظة.
وقال ابن خزيمة في صحيحة: كان مدلساً.
وقال العقيلي: وله عن عطاء أحاديث لا يتابع(3) .
________________________________________
1. تهذيب التهذيب ج 4 ص 115 والمسائية: العبد المعتق .
2. تذكرة الحفاظ ج 1 ص 167 .
3. تهذيب التهذيب ج 2 ص 179 .

________________________________________
(187)
وقال ابن حجر ايضاً في تقريب التهذيب:
حبيب بن أبي ثابت: قيس، ويقال: هند بن دينار الأسدي، مولاهم أبو يحيى الكوفي، ثقة فقيه جليل، وكان كثير الإرسال والتدليس، من الثالثة، مات سنة تسع عشرة ومائة(1) .
ونقل ابن حجر عن كتاب الموضوعات لابن الجوزي من نسخة بخط المنذري أنه نقل فيه حديثاً عن أبي كعب في قول جبرئيل: لو جلست معك مثل ما جلس نوح في قومه ما بلغت فضائل عمر، وقال، ولم يعله ابن الجوزي إلاّ بعبد اللّه بن عامر الأسلمي شيخ حبيب بن أبي ثابت(2) .
* * *
4- أبو وائل الأسدي: وهو شقيق بن سلمة الكوفي، كان منحرفاً عن علىّ بن أبي طالب، قال ابن حجر: قيل لأبي وائل: أيهما أحب إليك: علىّ أم عثمان؟ قال: كان علىّ أحبّ إلىّ ثم صار عثمان(3) .
ولفظة «أحب» هناك ليست صيغة التفضيل بل المراد أنه كنت علوياً ثم صرت عثمانياً، وكان الحزبان يومذاك يبغض أحدهما الآخر.
ويشهد لذلك ما ذكره ابن أبي الحديد حيث قال: ومنهم أبو وائل شقيق بن سلمة، كان عثمانياً يقع في علىّ ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ ويقال إنّه كان يرى رأي الخوارج، ولم يختلف في أنّه خرج معهم، وأنّه عاد إلى علي ـ عليه السَّلام ـ منيباً مقلعاً. روى خلف ابن خليفة، قال: قال أبو وائل: خرجنا أربَعة آلاف فخرج إلينا علىّ فما زال يكلّمنا حتّى رجع منّا ألفان .
وروى صاحب كتاب «الغارات» عن عثمان بن أبي شيبة، عن الفضل بن دكين، عن سفيان الثوري قال: سمعت أبا وائل يقول: شهدت صفين وبئس الصفوف كانت!.
________________________________________
1. تقريب التهذيب ج 1 ص 148 تحت رقم 106 .
2. لسان الميزان ج 2 ص 168 في ترجمة حبيب بن ثابت .
3. تهذيب التهذيب ج 4 ص 362 .

________________________________________
(188)
قال وقد روى أبوبكر بن عاصم بن أبي النجود قال: كان أبو وائل عثمانياً(1).
ويكفي أنّه كان من ولاة عبيد اللّه بن زياد لعنه اللّه .
قال ابن ابي الحديد: وقال أبو وائل: استعملني ابن زياد على بيت المال بالكوفة(2) .
هذا كله حول سند الرواية، وقد عرفت أنّ سندها يشتمل على ضعاف، وعلى فرض ورود المدح في حقهم فو معارض بما عرفت من الجرح، وعند التعارض يقدّم الجارح على المادح فيسقط الحديث عن الاعتبار، و يرجع إلى أدلة أُخرى، وسيوافيك أنّ الأصل في المقام الجواز، كما سيأتي ذلك في آخر البحث .
* * *
وأمّا ضعفه دلالةً فإليك البيان .
إنّ تبيين ضعف دلالة الحديث يتوقف على توضيح معنى اللفظين الواردين في الحديث المذكور:
1- «قبراً مشرفاً».
2- «إلاّ سوّيته» .
أمّا الأول فقد قال صاحب القاموس: والشرف محركة: العلو. ومن البعير سنامه، وعلى ذلك فيحتمل أن يراد منه مطلق العلو، أو العلو الخاص كسنام البعير ولا يتعين ذلك إلاّ بالقرينة .
أمّا الثاني، أعني قوله: «سوّيته» فهو يستعمل على وجهين:
أ ـ يطلق ويراد منه مساواة شىء بشىء، فيتعدى إلى المفعول الثاني بحرف التعدية كالباء قال سبحانه (إذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ العَالَمِينَ)(3) .
________________________________________
1. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 4 ص 99 .
2. شرح نهج البلاغة ج 12 ص 223 .
3. سورة الشعراء: الآية 98 .

________________________________________
(189)
أي نعدّ الآلهة المكذوبة متساوين مع رب العالمين، فنضيف إليكم ما نضيف إلى رب العالمين. وقال سبحانه حاكياً عن حال الكافرين يوم القيامة (يَوْمَئِذ يَوَدُّ الّذينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوِّى بِهِمُ الأرْضُ وَ لاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً)(1) أي يودّون أن يكونوا تراباً أو ميتاً مدفوناً تحت الأرض .
ب ـ يطلق ويراد منه ما هو وصف لنفس الشيء، لا بملاحظة شيء آخر، فيكتفي بمفعول واحد، قال سبحانه: (الّذي خَلَقَ فَسَوَّى)(2) وقال سبحانه: (بَلَى قَادرينَ عَلَى أنْ نُسَوِّي بَنَانَهُ)(3) وقال سبحانه: (فَإذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهَ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدينَ)(4) في هذه الموارد وقعت التسوية وصفاً لنفس الشيء بلا إضافة إلى غيره. ويراد منه حسب اختلاف الموارد تارة كمال الخلقة واستقامتها في مقابل نقصها واعوجاجها، وهذا هو المقصود في الآيات الكريمة، وأُخرى تسطيحه مقابل اعوجاجه، وبسطه مقابل كونه كالسنام .
إذا عرفت ذلك فلنعد إلى الحديث ولنطبق الضابطة عليه، فبما أنّه استعمل مع مفعول واحد فلا يراد منه المعنى الأول، أي مساواته بالأرض، وإلاّ كان عليه أن يقول «سويته بالأرض» بل يراد منه ما هو وصف لنفس القبر والمعنى المناسب هو تسطيح القبر في مقابل تسنيمه، وبسطه في مقابل اعوجاجه، وهذا هو الّذي فهمه شراح الحديث، وبما أنّ السنة هي التسطيح، والتسنيم بدعة، أمر علىّ ـ عليه السَّلام ـ بأن تكافح هذه البدعة، ويسطّح كل قبر مسنم .
ويؤيد ما ذكرناه أنّ المحققين من أهل السنة لم يفهموا من الحديث إلاّ ما ذكرنا، وإليك نقل كلماتهم :
1- قال القرطبي في تفسير الحديث: «قال علماؤنا: ظاهر حديث أبي
________________________________________
1. سورة النساء: الآية 42 .
2. سورة الأعلى: الآية 2 .
3. سورة القيامة: الآية 4 .
4. سورة الحجر: الآية 29 .

________________________________________
(190)
الهياج منع تسنيم القبور ورفعها وأن تكون واطئة»(1) .
إنّ دلالة الحديث على منع تسنيم القبور ظاهرة، وأمّا دلالتها على عدم ارتفاعها فغير ظاهر، بل مردود باتفاق أئمة الفقه على استحباب رفعها قدر شبر(2) .
2- قال ابن حجر العسقلاني في شرحه على البخاري ما هذا نصه:
(مسنَّماً بضم الميم وتشديد النون المفتوحة أي: مرتفعاً. زاد أبو نعيم في مستخرجه: وقبر أبوبكر وعمر كذلك واستدل به على أنّ المستحب تسنيم القبور، وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد والمزني وكثير من الشافعية .
وقال أكثر الشافعية ونص عليه الشافعي: التسطيح أفضل من التسنيم، لأنّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ سطح قبر إبراهيم، وفعله حجة لا فعل غيره، وقول السفيان التمار «رأى قبر النبي مسنّماً في زمان معاوية» لا حجة فيه، كما قال البيهقي، لاحتمال أنّ قبره ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ وقبري صاحبيه لم تكن في الأزمنة الماضية مسنّمة ـ إلى أن قال ـ : ولا يخالف ذلك قول علىّ ـ عليه السَّلام ـ أمرني رسول اللّه أن لا أدع قبراً مشرفاً إلاّ سوّيته، لأنّه لم يرد تسويته بالأرض، وإنّما أراد تسطيحه جمعاً بين الأخبار، ونقله في المجموع عن الأصحاب
(3) .
3- وقال النووي في شرح صحيح مسلم: إنّ السنة أن القبر لا يرفع عن الأرض رفعاً كثيراً، ولا يسنم بل يرفع نحو شبر، وهذا مذهب الشافعي ومن وافقه، ونقل القاضي عياض عن أكثر العلماء أن الأفضل عندهم تسنيمها، وهو مذهب مالك(4) .
ويؤيد ذلك أنّ صاحب الصحيح (مسلماً) عنون الباب بـ (باب تسوية القبور) ثم روى بسنده إلى تمامه قال: كنّا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم ،
________________________________________
1. تفسير القرطبي ج 2 ص 380 تفسير سورة الكهف .
2. الفقه على المذاهب الأربعة ج 1 ص 42 .
3. إرشاد الساري ج 2 ص 468 .
4. صحيح مسلم بشرح النووي ج 7 ص 36 الطبعة الثالثة ـ دار إحياء التراث العربي .

________________________________________
(191)
فتوفي صاحب لنا، فأمر فضال بن عبيد بقبره فسوي، قال: سمعت رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ يأمر بتسويتها، ثم أورد بعده في نفس الباب حديث أبي الهياج المتقدم(1) .
وفي الختام نذكر أُموراً:
1- القول بوجوب مساواة القبر بالأرض مخالف لما اتّفقت عليه كلمات فقهاء المذاهب الأربعة، وكلهم متّفقون على أنّه يندب ارتفاع التراب فوق الأرض بقدر شبر(2) ولو أخذنا بالتفسير الّذي يرومه الوهابي من حديث أبي الهياج من مساواة القبر بالأرض يجب أن يكون القبر لاطئاً مساوياً معه .
2- لما عجز الوهابيون في مقابل سيرة المسلمين، حيث دفنوا النبي في بيته فصار القبر عليه بناء، عمد بعضهم إلى التفريق بين الأمرين فقال: الحرام هو البناء على القبر لا الدفن تحت البناء، وقد دفنوا النبي تحت البناء ولم يبنوا على قبره شيئاً(3) ولكنّه تفريق بلا وجه، لأنّ حديث أبي الهياج مطلق يعم الصورتين .
3- حديث أبي الهياج ـ على فرض صحة سنده ودلالته ـ يهدف إلى تخريب القبر ومساواته بالأرض، لا هدم البناء الواقع عليه، فالاستدلال به على الثاني استدلال عجيب.
* * *
________________________________________
1. المصدر السابق .
2. الفقه على المذاهب الأربعة ج 1 ص 42 .
3. رياض الجنة، بقلم مقبل بن الهادي طبع الكويت .

 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية