ابن تيمية وإقامة الصلاة عند قبور الأنبياء

البريد الإلكتروني طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 4 ، ص 220 ـ 224
________________________________________
(220)
(6)
ابن تيمية وإقامة الصلاة عند قبور الأنبياء
هذا هو الموضوع السادس الّذي قال في حقه ابن تيمية: «ولا تشرع الصلاة عندها، ولا يشرع قصدها لأجل التعبّد عندها بصلاة واعتكاف، أو استغاثة وابتهال ونحو ذلك، وكرهوا الصلاة عندها، ثم كثير منهم قال: الصلاة باطلة لأجل النهي عنها، إلى أن قال: وإنما دين اللّه تعالى تعظيم بيوت اللّه وحدها التي تشرّع فيها الصلوات جماعة وغير جماعة، والاعتكاف، وسائر العبادات البدنية والقلبية من القراءة والذكر والدعاء له(1) .
يقول محمد بن عبد الوهاب: لم يذكر أحد من أئمة السلف أنّ الصلاة عند القبور وفي مشاهدها مستحبّة، ولا أنّ الصلاة والدعاء هناك أفضل، بل اتفق الكل على أنّ الصلاة في المساجد والبيوت أفضل منها عند قبور الأولياء والصالحين(2) .
وجاء في الجواب المنسوب إلى علماء المدينة: «أمّا التوجه إلى حجرة النبي عند الدعاء فالأولى منعه، كما هو معروف من معتبرات كتب المذهب، لأنّ أفضل الجهات جهة القبلة» .
وقد تجاوزت هذه المسألة على مر الزمان مرحلة المنع إلى مرحلة الشرك ،
________________________________________
1. مجموعة الرسائل والمسائل ج 1 ص 60 .
2. زيارة القبور ص 159 ـ 160 .
________________________________________
(221)
حتّى أنهم اليوم يعتبرون ذلك شركاً، وكل من فعل ذلك يكون عندهم مشركاً، وإليك توضيح المسألة:
1- لا شك أنّ إقامة الصلاة عند القبور لغاية عبادة صاحب القبر أو اتخاذه قبلة شرك، ولكن لاتجد على وجه البسيطة مسلماً يفعل ذلك، بل لا يحوم حوله البعداء من الأوساط الإسلامية، فضلا عن المتحضّرين منهم، المتواجدين في الأوساط الدينية .
2- إنّ هدف المسلمين من إقامة الصلاة والدعاء عند قبور الأولياء، هو التبرك بالمكان الّذي احتضن جسد حبيب من أحبّاء اللّه، فيتمتع ذلك المكان بمنزلة سامية، فالصلاة والدعاء هناك يعودان بثواب أكثر على فاعلهما.
إنّ لمشاهد الأولياء ومراقدهم شرفاً وفضيلة خاصة لا توجد في غيرها، ولأجل ذلك أوصى الشيخان بدفنهما في جوار النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ ، فالمصلي لدى قبورهم لا يقصد سوى ما قصده الشيخان لا غير. فلو كان قصد التبرك بمكان شركاً فلماذا أوصى الشيخان بالدفن بجوار النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ ؟ .
3- إنّ القرآن الكريم يأمر حجاج بيت اللّه الحرام بإقامة الصلاة عند مقام إبراهيم، وهو الصخرة الّتي وقف عليها إبراهيم لبناء الكعبة، فيقول: (وَإذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ وَأمْناً وَاتَّخذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهيمَ مُصَلّىً)(1) .
إنّ الصلاة في مقام إبراهيم لأجل التبرك بمقام النبي إبراهيم، فلو كانت عبادة اللّه تبارك وتعالى مقرونة بالتبرك بمكان المخلوق شركاً، فلماذا أمر به سبحانه، فهل هناك فرق بين مقامهم ومثواهم؟ .
4- سأل المنصور العباسي مالك بن أنس وهما في مسجد رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ فقال: يا أبا عبد اللّه، أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول اللّه؟ فقال مالك: لم تصرف عنه، وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى اللّه يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به فيشفعك اللّه (2) .
________________________________________
1. سورة البقرة: الآية 125 .
2. وفاء الوفاء ج 4 ص 1376 .
________________________________________
(222)
والعجب أنّ الكاتب الوهابي (الرفاعي) حاول أن يكذب القصة، قال: «إنّ أبا جعفر المنصور كان من أعلم علماء عصره، فلا يصح أن يكون جاهلا فيستفسر» .
يا للعجب! من أين علم أنه كان مثل مالك بن أنس إمام المدينة المنورة؟
وهل له آثار في الفقه والحديث مثل مالك؟
ماهذه الكلمة الساقطة؟ وأي دليل على أنه لم يكن جاهلا بهذه المسألة فيستفسر مثله أو من هو أعلم منه ؟
5- روى السيوطي في أحاديث المعراج أنّ النبي الأكرم نزل في المدينة وطور وسيناء وبيت لحم، وصلّى فيها، فقال له جبرائيل: يا رسول اللّه أتعلم أين صلّيت؟ إنّك صليت في طيبة، وإليها مهاجرتك، وصلّيت في طور سيناء، حيث كلم اللّه موسى تكليماً، وصليت في بيت لحم حيث ولد عيسى(1) .
ولا أظن أن يتوهم أحد وجود الفرق بين المولد والمرقد بالتجويز في الأول دون الثاني .
6- إنّ المسلمين جميعاً يصلّون في حجر إسماعيل، مع أنّ الحجر مدفنه ومدفن أُمه هاجر، فأيٌ فرق بين مرقد النبي ومدفن أبيه إسماعيل؟
7- ولقد بلغت هاجر أُم إسماعيل مرتبة عند اللّه بسبب صبرها وتحمّلها المتاعب في سبيل اللّه سبحانه، فجعل اللّه موضع أقدامها محلا للعبادة، وأوجب على حجاج بيته الحرام أن يسعوا فيها كما سعت هاجر بين جبلي الصفا والمروة، فنسأل إذا كان صبرها على المكاره، وتحمّلها المتاعب في سبيل اللّه تعالى قد منحا الكرامة لموضع أقدمها، وأوجب اللّه على المسلمين أن يعبدوه سبحانه في ذلك المكان بالسعي بين الصفا والمروة، فلماذا لا يكون قبر النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ
________________________________________
1. الخصائص الكبرى لجلال الدين السيوطي ج 1 ص 154 .
________________________________________
(223)
مباركاً ومقدساً، في حين أنّه تحمّل أنواع المصاعب والمصائب والمكاره من أجل إصلاح المجتمع وإرشاده .
قال ابن القيم ـ تلميذ ابن تيمية ـ : «إنّ عاقبة صبر هاجر وابنها على البعد والوحدة والغربة والتسليم إلى ذبح الولد، آلت إلى ما آلت إليه من جعل آثارهما ومواطىء أقدامهما مناسك لعبادة المؤمنين، ومتعبّدات لهم إلى يوم القيامة، وهذه سنته تعالى فيمن يريد رفعه من خلقه»(1) .
8- إذا كانت الصلاة عند القبر محرّمة في الشريعة الإسلامية، فلماذا قضت عائشة عمرها في البيت الّذي دفن فيه الرسول؟ .
9- إنّ السيدة فاطمة الزهراء الّتي قال في حقها النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ : «إنّ اللّه يرضى برضى فاطمة ويغضب بغضبها»(2) كانت تزور قبر عمّها حمزة في كل جمعة أو في كل أسبوع مرتين، وكانت تبكي وتصلّي عند قبره .
يقول البيهقي: كانت فاطمة (رضي اللّه عنها) تزور قبر عمّها حمزة كل جمعة، فتصلّي وتبكي عنده(3) .
10- إنّ مراقد الأنبياء ومشاهدهم تعدّ جزءاً من مطلق الأرض الّتي جعلها اللّه سبحانه محلا لعبادته، وقال رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ : «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً»(4) .
فما الدليل على إخراج مشاهد الأنبياء والأولياء والصالحين عن إطلاق الحديث المتفق عليه، أفيزعم الوهابي ان الصلاة في مشاهد الأنبياء ومراقدهم أقل ثواباً من مطلق الأرض؟!
________________________________________
1. زاد المعاد في هدى خير العباد طبع مصطفى البابي الحلبي، القاهرة بإشراف طه عبدالرؤوف 1390 هـ ق .
2. صحيح البخاري ج 5 باب مناقب قرابة رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ ص 20 ومستدرك الحاكم ج 3 ص 154 .
3. السنن للبيهقي ج 4 ص 78 مستدرك الصحيحين للحاكم ج 1 ص 377 .
4. صحيح البخاري ج 1 ص 91، مسند أحمد ج 2 ص 222 .
________________________________________
(224)
وأخيراً نرى أنّ المسلمين يقيمون الصلاة طيلة أربعة عشر قرناً عند قبر النبي والخليفتين، من دون أن يختلج ببال أحد من أنّ إقامة الصلاة عند القبور حرام أو مكروه .
كيف، ولو كان مكروهاً أو حراماً لما أوصى الإمام الحسن بن علي بدفن جسده المطهر عند قبر جده المصطفى ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ حتّى حالت بنو أُمية دون إنفاذ وصيته .
هذه الوجوه العشرة كافية لمن أراد اتباع الحق، ولا أظنّ أنّ المنصف المتحرّي للحقيقة ـ إذا تجرّد عن الهوى ـ ينبذ هذه الأدلة وراء ظهره .
* * *
وفي الختام نذكر حكم الإضاءة عند القبور، فربّما يحكم بالحرمة لما رواه النسائي عن ابن عباس أنّ رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ لعن زائرات القبور والمتّخذين عليها المساجد والسرج(1).
إنّ هذا الحديث وأمثاله يهدف إلى ما إذا كانت الإضاءة تبذيراً للمال، أو تشبّهاً ببعض الأُمم والشعوب، وإلاّ فالإضاءة إذا كانت لغاية قراءة القرآن والدعاء لا تكون محرمة .
بل يقول العلامة السندي في شرحه على الحديث: «والنهي عنه لأنّه تضييع مال بلا نفع»(2) .
أضف إلى ما في الحديث من لعن زائرات القبور، مع أنّ عائشة زارت البقيع مع النبي، وقد علّمها كيفية الزيارة كما تقدم حديثه .
________________________________________
1. السنن للنسائي ج 3 ص 77 .
2. السنن للنسائي ج 3 ص 77 طبع مصر وج 4 ص 95 طبع بيروت شرح الجامع الصغير ج 2 ص 198 .
 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية