من أدلة المانعين

البريد الإلكتروني طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 4 ، ص 324 ـ 327
________________________________________
(324)
الدليل الأخير «لا تجعل قبري وثناً يعبد»
آخر ما في كنانة القوم من نبال مرشوقة إلى المؤمنين المحتفلين بمولد النبي الأكرم، ما روى أبو هريرة، قال: قال رسول اللّه: «لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلّوا علىّ فإنّ صلاتكم تبلغني حيث كنتم» .
وفي الاستدلال بالحديث مجال للنظر:
أولا:
إنّ إمام الحنابلة رواه في مسنده عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة. عن النبي أنه قال: «اللّهمّ لا تجعل قبري وثناً. لعن اللّه قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»(1) .
ورواه في كنز العمال بالنحو التالي:
«اللّهمّ لا تجعل قبري وثناً يصلّى إليه، فإنّه اشتدّ غضب اللّه على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»(2) .
وفي الوقت نفسه رواه إمام الحنابلة عن أبي هريرة: قال رسول اللّه: «لا تتخذوا قبري عيداً، ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً، وحيثما كنتم فصلّوا علّي فإنّ صلاتكم تبلغني»(3) .
وروى أبو داود في صحيحه عن أبي هريرة نفس هذا المتن(4) .
ومن المتحمل جداً طروء التصحيف على الرواية، فبدل «وثناً» إلى «عيداً» ويؤيد ذلك ذيل الرواية، أعني قوله: «ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً» فإنه يناسب قوله: «لا تجعل قبري وثناً» .
وثانياً: إنّ العيد في اللغة هو الموسم، وهو كل يوم فيه اجتماع أو تذكار
________________________________________
1. مسند أحمد: ج 2 ص 246 .
2. كنز العمال: ج 2 برقم 3802 .
3. مسند أحمد: ج 2 ص 367 .
4. سنن أبي داود: ج 2 ص 218، طبع دار إحياء التراث العربي .

________________________________________
(325)
لذي فضل، أو حادثة مهمة، سمّي عيداً لأنه يعود كل سنة بفرح مجدد.
فعلى هذا لا يصحّ أن يقع خبراً لقوله: «قبراً» إذا لا معنى لجعل القبر عيداً، فإنما يصحّ جعل موسم أو يوم مشخّص عيداً، فهو يقع خبراً أو صفة للزمان لا للمكان، ولو صحّ جعله صفة للمكان فإنما هو باعتبار اليوم الّذي يجتمع الناس فيه في ذلك المكان، فالتعبير الوارد في الحديث لا يوافق الذوق العربي السليم، فكيف يمكن نسبته إلى أشرف من نطق بالضاد، ولو أُريد منه ما يحاول المستدل أن يثبته كان الأولى أن يقول: لا تتخذوا مولدي عيداً، لا قبري عيداً، أو يقول: لا تتخذوا مولدي حول قبري عيداً.
وحصيلة الكلام أنّ يوم العيد هو يوم الفرح ويوم الزينة، ولا يمكن تطبيق هذا المعنى على القبر، إلاّ بارتكاب مجاز متكلف فيه .
وثالثاً: إنّ الرواية لم يعمل بها الصحابة حيث جعلوا بيت النبي قبوراً، إذ دفن فيه النبي الأكرم، وبعده أبو بكر وعمر، فصار بيته قبوراً.
وأمّا الاعتذار بأنّ للأنبياء خصوصية ليست لغيرهم وهي أنهم يدفنون حيث يقبضون، لا يدفع الإشكال، إذ ليست هذه الخصوصية في غيرهم كصاحبيه «أبي بكر وعمر» فلماذا جعل بيت النبي قبوراً .
ورابعاً: إنّ الحديث يحتمل معاني مختلفة وراء ما يرتئيه المستدل .
1- منها ما ذكره الحافظ المنذري من أنه يحتمل أن يكون المراد به الحث على كثرة زيارة قبر النبي، وأن لا يهمل حتّى يكون بمثابة العيد(1) .
2- ومنها ما ذكره السبكي حيث قال: «ويحتمل أن يكون المراد: لا تتخذوا وقتاً مخصوصاً لا تكون الزيارة إلاّ فيه، كماترى أنّ كثيراً من المشاهد، لزيارته يوم معين كالعيد، وزيارة قبره ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ ليس لها يوم بعينه، بل أي يوم كان(2)
________________________________________
1. شفاء السقام: ص 67، نقلا عن زكي الدين المنذري (أي: يزار بين المدة الطويلة كالعيد الّذي لا يكون في كل عام إلاّ يوماً واحداً أو يومين) .
2. المصدر نفسه .

________________________________________
(326)
3- ومنها ما ذكره أيضاً من أنه يحتمل أن يراد أن يجعل كالعيد في العكوف عليه، وإظهار الزينة والاجتماع وغير ذلك مما يعمل في الأعياد، بل لا يؤتى إلاّ للزيارة والسلام والدعاء ثم ينصرف عنه.
وقال العلامة السيد جعفر مرتضى العاملي: «يحتمل قوياً أن يكون المراد أنّ اجتماعهم عند قبره ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ ينبغي أن يكون مصحوباً بالخشوع والتأمل والاعتبار، حسبما يناسب حرمته واحترامه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ فإنّ حرمته ميتاً كحرمته حياً، فلا يكون ذلك مصحوباً باللهو واللعب والغفلة والمزاح وغير ذلك مما اعتادوه في أعيادهم، ثم عقبه بقوله: ولعل هذا مراد السبكي»(1) .
وخامساً: إنّ الحديث بكلتا صورتيه (وثناً ـ عيداً) ضعيف .
أمّا الصورة الأُولى فقد وقع في السند «سهيل بن أبي صالح» وهو ليس بالقوي في الحديث، والحديث ليس بحجة; قال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به، وقد كان اعتلّ بعلّة فنسي بعض حديثه، وقال ابن المديني: مات أخ لسهيل ووجد عليه فنسي كثيراً من الحديث، وقال ابن أبي خيثمة: ابن معين يقول: لم يزل أصحاب الحديث يثقون بحديثه، وقال مرة: ضعيف(2) .
وأمّا الصورة الثانية فقد وردت في مسند الإمام أحمد وأبي داود «عبداللّه بن نافع» قال البخاري: يعرف حفظه وينكر، وقال أحمد بن حنبل: لم يكن صاحب حديث، وكان ضعيفاً فيه، ولم يكن في الحديث بذاك، وقال أبو حاتم الرازي: ليس بالحافظ، هو لين يعرف حفظه وينكر، ووثّقه يحيى بن معين، وقال أبو زرعة: لا بأس به، وقال ابن عدي: روى عن مالك غرائب، وهو في رواياته مستقيم الحديث(3) .
هذا هو حال الحديث الّذي يحتج به ابن تيمية ومن يلعق قصعته من
________________________________________
1. المواسم والمراسم: ص 71 .
2. ميزان الاعتدال: ص 243 - 244، ونقل أقوال الآخرين في توثيقه، فالرجل مختلف فيه جداً .
3. شفاء السقام: ص 66 .

________________________________________
(327)
الوهابية، وبذلك أفتوا بحرمة الاحتفال بذكرى النبي الأكرم ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ .
وهذه هي أدلة المانعين وشواهدهم، وقد عرفت ضعفها وعدم دلالتها على ما يرتأون .
 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية