المعاد مقتضى العدل الإلهي

طباعة

المصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج4 ، ص 170 ـ 173

 

 

(170)

الدليل الثاني : المعاد مقتضى العدل الإلهي


لزوم العمل بالعدل ، والاجتناب عن الظلم ، من فروع التحسين والتقبيح
العقليين ، اللّذين هما من أحكام العقل العملي . فمن قال بلزوم فعل الحسن
واجتناب القبيح ، يرى العمل بالعدل واجباً لكل فاعل مريد مختار ، من غير فرق
________________________________________


(171)

بين أن يكون ممكناً ، أو واجباً ؛ لأنّ الحسن حسن في كل حال ، والقبيح قبيح
كذلك.
وهناك جماعة من المتكلمين ـ كالأشاعرة ـ ينكرون التحسين والتقبيح
العقليين ، ويتركون المجال في القضاء بهما للوحي السماوي ، وهم أيضاً يقولون
بلزوم العمل بالعدل والاجتناب عن الظلم ، بحكم أن الشرع قد أمر بهما ، وأنّه
سبحانه وصف نفسه بالقيام بالقسط (1) ، فتكون النتيجة لزوم معاملة العباد
بالعدل.
ثمّ إنّ إثابة المطيعين من باب التفضل منه سبحانه ؛ لأنّهم يطيعونه تعالى
بفضل ما أنعمه عليهم من النعم الوجودية ، كما أنّ عقاب العصاة ، حق محض
له ، فله أن يعفو عنهم (2).
هذا هو حكم العقل في كل واحد من القسمين : المطيع والعاصي ، إذا
لوحظا مستقلين.
و لكن هناك كلام آخر ، وهو أنّه لو كان جميع العباد مطيعين سالكين نهج
الإمتثال ، فله التفضل بالثواب ، كما له تركه . وكذلك لو كان جميع العباد ،
عصاة سالكين نهج المخالفة ، فله سبحانه معاقبتهم أو العفو عنهم ، ولكنّ العباد ،
ينقسمون إلى قسمين ، فهم بين مطيع وعاص ، والتسوية بينهم بصورها
المختلفة ، خلاف العدل ؛ فإنّه لو أثاب الجميع أو عاقب الجميع ، أو تركهم سدىً
من دون أن يحشروا في النشأة الأُخرى ، كان ذلك كلّه على خلاف العدل ،
وخلاف ما يحكم به العقل من لزوم كون فعله تعالى حسناً ، فهنا يستقل العقل بأنّه
يجب التفريق بينهما من حيث المصير والثواب والعقاب ، وبما أنّ هذا غير متحقق في
النشأة الدنيوية ، فيجب أن يكون هناك نشأة أُخرى يتحقق فيها ذلك الَمْيز ،
ويفرّق فيه بين المطيعين والعاصين ، وهو المعاد.
و هذا الدليل العقلي يشير إليه القرآن الكريم في لفيف من آياته ، وهي على
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - سورة آل عمران : الآية 18. وسورة يونس: الآية 44.
(2)-  كل ذلك مع قطع النظر عن وعده ووعيده.
________________________________________


(172)

قسمين : قسم يندد بالتسوية وينكرها ، وقسم يصرّح بالفرق بين العاصي والمطيع
في النشأة الآخرة.
فمن القسم الأوّل:
ـ قوله سبحانه : { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ
فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (1).
ـ قوله سبحانه: { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ
تَحْكُمُونَ} (2).
ـ قوله سبحانه: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (3).
ومن القسم الثاني:
ـ قوله سبحانه  :{ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ
يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ
مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} (4).
ـ قوله سبحانه: { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا
لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ
وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ * لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ
الْحِسَابِ} (5).
ـ قوله سبحانه : {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - سورة ص : الآية 28.
(2) - سورة القلم : الآيتان 35 ـ 36.
(3) - سورة الجاثية : الآية 21.
(4) - سورة يونس : الآية 4.
(5) - سورة إبراهيم : الآيات 48 ـ 51.
________________________________________


(173)

تَسْعَى} (1).
فقوله: { لِيَجْزِيَ اللَّهُ } ، و: { لِتُجْزَى } ، إشارة إلى أنّ قيام القيامة ،
تحقيق لمسألة الثواب والعقاب ، اللذين هما مقتضى العدل الإلهي.
و في كلام الإمام علي إشارة إلى هذا البيان:
قال ـ عليه السَّلام ـ : « يوم يجمع الله فيه الأوّلين والآخرين لنقاش الحساب ،
وجزاء الأعمال » (2).
و قال ـ عليه السَّلام ـ : « فجدّدهم بعد إخلاقهم ، وجمعهم بعد تفرّقهم ، ثمّ
ميّزهم لما يريده من مسألتهم عن خفايا الأعمال وخبايا الأفعال » (3).


* * *


ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - سورة طه : الآية 15. ولاحظ سورة سبأ الآيات 3 ـ 5 ، سورة الزلزلة : الآية 6.
(2) - نهج البلاغة :  الخطبة 102.
(3) - نهج البلاغة : الخطبة 109.