القدرة المطلقة وإحياء الموتى

طباعة

القدرة المطلقة وإحياء الموتى

إنّ تخيّل استحالة المعاد ، الناشئ من توهّم أنّ إحياء الموتى خارج عن إطار القدرة ، جهل بالله سبحانه ، وجهل بصفاته القدسية ؛ فإنّ قدرته عامة تتعلّق بكلّ أمر ممكن بالذات ، ومن هنا نجد القرآن الكريم يندد بقصور المشركين وجهلهم في مجال المعرفة ، ويقول : وَمَا قَدَرُ‌وا اللَّـهَ حَقَّ قَدْرِ‌هِ وَالْأَرْ‌ضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ) (1). ومعنى عدم التقدير هنا ، عدم تعرّفهم على الله سبحانه حقّ التعرف ، ولذلك يعقبه بقوله : وَنُفِخَ فِي الصُّورِ‌ ) ، معرباً عن أنّ إنكار المعاد ينشأ من هذا الباب.

و في آيات أُخرى تصريحات بعموم قدرته ، كقوله : أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّـهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‌ ) (2).

و قوله تعالى : إِلَى اللَّـهِ مَرْ‌جِعُكُمْ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‌ ) (3).

والآيات الواردة في هذا المجال كثيرة (4).

ثمّ إنّ القرآن يسلك طريقاً ثانياً في تقرير إمكان المعاد ، وذلك عبر الإتيان بأُمور محسوسة أقرب إلى الإذعان والإيمان :

أ ـ القادر على خلق السموات ، قادر على إحياء الموتى

يقول سبحانه : وَلَمْ يَرَ‌وْا أَنَّ اللَّـهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْ‌ضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ‌ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ ) (5).

وكيفية الإستدلال بها واضحة ؛ فإنّ القادر على إبداع هذا النظم البديع ، أقدر على إحياء الإنسان.

ب ـ القادر على المبتدأ قادر على المعاد

إنّ من الضوابط العقليّة المحكمة أنّ أدلّ دليل على إمكان الشيء وقوعه ، وأنّ حكم الأمثال فيما يجوز ولا يجوز واحد ، فلو كانت الإعادة أمراً محالاً ، لكان ابتداء الخلقة مثله ؛ لأنّهما يشتركان في كونهما إيجاداً للإنسان ، وعلى ذلك قوله
سبحانه : وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُ‌فَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * ... فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَ‌كُمْ أَوَّلَ مَرَّ‌ةٍ ) (6).

وقوله سبحانه : أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَ‌كَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ‌ وَالْأُنثَىٰ * أَلَيْسَ ذَٰلِكَ بِقَادِرٍ‌ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ ) (7).

ج ـ القادر على إحياء الأرض بعد موتها قادر على إحياء الإنسان بعد موته

ويُري الذكر الحكيم في آياته إعادة الحياة إلى التراب بشكل ملموس ، وذلك بصورتين :

أوّلهما : أنّه إذا امتنع عود الحياة إلى التراب ، فكيف صار التراب إنساناً في بدء الخلقة ، وفي ذلك يقول سبحانه : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَ‌يْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَ‌ابٍ ... ) (8).

ويقول : مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِ‌جُكُمْ تَارَ‌ةً أُخْرَ‌ىٰ ) (9).

و ثانيتهما :  إنّ الأرض الميتة تحيا كلّ سنة بنزول الماء عليها فتهتزّ وتربو بعد جفافها ، وتنبت من كلّ زوج بهيج ، يقول سبحانه : وَتَرَ‌ى الْأَرْ‌ضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَ‌بَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّـهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‌وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَ‌يْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّـهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ‌ ) (10).

و يقول سبحانه : ( وَهُوَ الَّذِي يُرْ‌سِلُ الرِّ‌يَاحَ بُشْرً‌ا بَيْنَ يَدَيْ رَ‌حْمَتِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَ‌جْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَ‌اتِ ۚ كَذَٰلِكَ نُخْرِ‌جُ الْمَوْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُ‌ونَ ) (11).

فليس إحياء الإنسان من التراب إلّا كإحياء التراب الميّت ، باخضرار نباته ، وازهرار أشجاره.

وبهذه النماذج المحسوسة يثبت القرآن عموم قدرته تعالى ، مضافاً إلى البراهين العقليّة على عموم قدرته تعالى شأنه.

الهوامش

1. سورة الزمر : الآية 67.

2. سورة البقرة : الآية 148.

3. سورة هود : الآية 4.

4. لاحظ النحل : الآية 77 ، العنكبوت : الآية 20 ، الروم : الآية  50 ، فصلت : الآية 39 ، الشورى : الآية 9 و 29 ، الأحقاف : الآية 23 ، الحديد : الآية 2.

5. سورة الأحقاف : الآية : 33. ومثلها يس : الآية 81.

6. سورة الإسراء : الآيات 49 ـ 51.

7. سورة القيامة : الآيات : 36 ـ 40 ، وقد ورد في هذا المجال آيات أُخر ، فلاحظ يس : الآية 79 ، سورة الطارق : الآية 5 ـ 8.

8. سورة الحج : الآية 5.

9. سورة طه : الآية 55.

10. سورة الحج : الآيات 5 ـ 7.

11. سورة الأعراف : الآية 57. ولاحظ الزخرف : الآية 11 ، الروم : الآية 19 ، سورة فاطر : الآية 9 ، سورة ق : 9 ـ 11.

مقتبس من : كتاب « الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل »