التأويل في القرآن الكريم

البريد الإلكتروني طباعة

التأويل في القرآن الكريم

تأويل القرآن

التأويل مأخوذ من آل يؤول : رجع ، قال الأعشىٰ :

أُوِّل الحكم إلى أهله

 

ليس قضائي بالهوى الجائر (1)

ويقول ابن منظور : الأُوْل الرجوع ، أل الشيء يؤول أولاً ومآلاً : رجع ، وأوّل إليه الشيء : رجّعه ، وآلت عن الشيء : ارتددت. (2)

وقال الراغب الإصفهاني : التأويل من الأُول ، أي الرجوع إلى الأصل ، ومنه المؤْئِل للموضع الذي يرجع إليه ، وذلك هو رد الشيء إلى الغاية المرادة منه ، علماً كان أو فعلاً. (3)

إذا كان التأويل بمعنى إرجاع الشيء إلى مآله وحقيقته ، فقد استعمله القرآن في موارد ثلاثة يجمعها شيء واحد ، وهو إرجاع الشيء المبهم من الكلام والعمل والنوم إلى واقعه.

الأوّل : إرجاع الكلام المبهم إلىٰ ما قصد منه برفع الإبهام من خلال القرائن الحافّة بها ، فقوله سبحانه : ( وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ) (4) كلام يكتنفه الإبهام ويثبت ظاهره انّ لله سبحانه أيد بنى بها السماء ، ولكن رفع الإبهام عن الآية بالإمعان في القرائن الحافّة بها تأويل لها ، أي إرجاع لها إلى ما قصد منه حقيقة ، وسيوافيك انّ تأويل المتشابه قسم من هذا النوع.

الثاني : إرجاع الفعل إلى واقعه بمعنى رفع الإبهام عنه بذكر مصالحه والدواعي التي حملت الفاعل إلى العمل ؛ وهذا كما في عمل مصاحب موسىٰ حيث أتى بأعمال مبهمة ومريبة من خرق السفينة وقتل الصبي وبناء الجدار الذي كاد أن ينقضّ ، فسأله موسى عن الدواعي فبيّنها وقال : ( ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ) (5) ، فالتأويل في الآية رفع الإبهام عن الفعل ، وإرجاع ظاهرة المريب إلى واقعه.

ومن هذا القبيل وصف الكيل المقرون بالعدل والإنصاف « بكونه أحسن تأويلاً » أي أحسن مآلاً ، يقول سبحانه : ( وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ) (6). فالمراد أحسن مآلاً لما يترتب على إجراء العدل في عملية الوزن من المصالح والغايات الصحيحة.

حتى أنّ القرآن يستعمله في مورد الرجوع إلىٰ قضاة العدل ، يقول سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ) (7) أي أحسن مآلاً ، لأنّ في الرجوع إلى الله والرسول إحقاقاً للحق وإبطالاً للباطل على خلاف الرجوع إلى الجبت والطاغوت.

الثالث : تأويل الرؤيا التي يكتنفها الإبهام ، فإنّ الرؤيا الصادقة على أقسام : منها ما تتصل نفس النائم بالواقع غير انّ النفس تتصرف فيما تراه قبل أن يستيقظ النائم من نومه فتختلف الرؤيا عن واقعه ، والتأويل عبارة عن إرجاع النوم إلى الأصل الذي اشتقت منه الرؤيا الفعلية ، وذلك علم خاص يرزقه الله تعالى لمن يشاء ، فرزقه الله ليوسف كما يقول : ( وَكَذَٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ) (8) ، فالتأويل الوارد في سورة يوسف في عدّة موارد عبارة عن إرجاع الرؤية الصادقة المتصرّفة فيه من قبل النفس إلى واقعها الذي تحولت عنه كما هو الحال في الموارد التالية :

١. رؤية يوسف سجود أحد عشر كوكباً مع الشمس والقمر له.

٢. رؤية أحد مصاحبيه في السجن انّه يعصر خمراً.

٣. رؤية مصاحبه الآخر انّه يحمل فوق رأسه خبزاً تأكل منه الطير.

٤. رؤية الملك سبع بقرات سمان وسبع عجاف ....

فالتأويل في هذه الموارد تأويل عمل تكويني وإرجاع له إلىٰ واقعه.

ومن هنا تبيّن انّ التأويل حسب مصطلح القرآن هو إرجاع الشيء إلى واقعه ، وأمّا التأويل بمعنى صرف الكلام عن ظاهره المستقر ، إلى خلافه ، فهو مصطلح حديث بين العلماء لا يمتّ إلى القرآن بصلة ، وإن اغتر ابن منظور بهذا المصطلح وذكره من أحد المعاني وقال : والمراد بالتأويل نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأصلي إلى ما يحتاج إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ. (9)

فلو صحّ ذلك الاستعمال ، فإنّما هو اصطلاح جديد لا يصحّ للمفسِّر أن يفسّر القرآن به. ولم نجد في القرآن آية يُلزمنا العقل والنقل إلى صرفها عن ظهورها المستقر الثابت ، وأمّا الظهور البدائي فليس ظهوراً له قيمة حتى يعدّ العدول عنه صرفاً للظاهر عن ظاهره.

تأويل المتشابه

قد عرفت معنى التأويل بوجه مطلق في القرآن الكريم وحان البحث في تأويل خصوص المتشابه حيث إنّ آيات القرآن تقسّم إلى محكم ومتشابه. يقول سبحانه :

( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ). (10)

فما معنى التأويل في هذه الآية أليس هو صرف الظاهر عن ظاهره ؟! فكيف تقول بأنّ التأويل بمعنى صرف الظاهر عن ظاهره مصطلح حديث لا يمتُّ إلى القرآن بصلة ؟

هذا هو السؤال وقد تقدّم في الفصل الماضي إنّ آيات الذكر الحكيم على قسمين : قسم منها ما يتمتع بدلالة واضحة في بدء الأمر بحيث لا يشتبه المراد بغير المراد ، كالآيات التي تتضمن نصائح لقمان لابنه (11) ، أو ما يذكره سبحانه في سورة الإسراء بعنوان الحكمة. (12)

فالناظر في هذه الآيات يقف على المراد في بدء الأمر ، لأنّها تتمتع بدلالة واضحة لا يشتبه المراد بغيره.

وهناك آيات لا تبلغ دلالتها على المعنى المراد هذا الحدَّ ، بل الناظر في بدء الأمر لا يميّز المراد عن غيره ، ويشتبه المراد بغير المراد ، كالأشجار المتشابهة مع اختلاف أثمارها كالرمّان والزيتون ، فتوصف بالآية المتشابهة لتشابه المراد بغيره ، والحقّ بالباطل.

وأمّا ما هو الوجه لنزول بعض الآيات علىٰ هذا الوصف فهو موكول إلى محله ، وقد ذكر المفسِّـرون هناك وجوهاً مختلفة لنزول الآيات المتشابهة. (13)

فهذه الآيات التي ليست لها دلالة قاطعة في بدء الأمر هي التي وقعت ذريعة عبر التاريخ في أيدي الذين في قلوبهم زيغ لإيجاد الفتنة والبلبلة الفكرية وإشاعة الباطل وستر الحقّ.

وتجد في الآيات التي تتعرض للمعارف ، هذا النوعَ من التشابه ، فالآيات التي يستشم منها التجسيم والتشبيه ورؤية الله تعالى بالحواس ، والجبر وأنّه ليس للإنسان دور في الضلالة والهداية ، كلّها من الآيات المتشابهة التي لم يزل أصحاب الزيغ يبتغون الفتنة من ورائها ، فهم يأوِّلون هذه الآيات بالأخذ بظواهرها من إرجاعها إلى محكماتها.

والراسخون أيضاً يأوّلونها.

أمّا الطائفة الأُولى فتأويلهم يتلخّص في الأخذ بالظهور المتزلزل غير المستقر إبتغاءً للفتنة ، فيغترون بظاهر قوله سبحانه : ( يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاء ) (14) ويبثّون فكرة الجبر الذي هو سلب الاختيار عن الإنسان في مجال الهداية والضلالة ، والإيمان والكفر.

وأمّا الراسخون فتأويلهم هو إرجاع الآية إلى واقعها ، بالإمعان في الآية والقرائن الحافّة بها ، منضماً إلى ما ورد في الآيات المحكمة في هذا الموضوع ، فيفسرون ما سبق من الآيات حول الهداية والضلالة ، بقوله سبحانه : ( وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) (15) ، وبقوله سبحانه : ( قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَىٰ نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ). (16)

فكلتا الطائفتين يأوّلون أي يرجعون الآية إلى المراد منها ، فيأخذ أصحاب الزيغ بالظاهر المتزلزل الموافق لهواهم ونزعتهم ، فيجعلونه ذريعة لنشر البدع والضلالة ؛ وأمّا الآخرون فيأوّلونه بإرجاع المتشابه إلى المحكمات التي هي أُمّ الكتاب.

هذه هي حقيقة المتشابه وحقيقة التأويل فيه ، وليس تأويل كلتا الطائفتين بمعنى صرف الظاهر المستقر عن ظاهره ، بل هو إمّا الأخذ بالظاهر البدوي لغاية الفتنة ، أو إرجاعه إلى الظاهر المستقر بالإمعان في نفس الآية والقرائن المكتنفة بها ، مضافاً إلى الآيات المحكمة الواردة في نفس ذلك الموضوع.

وقد عرفت هذا النوع من التأويل في تفسير اليد (17) في قوله سبحانه : ( وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ). (18)

وبما ذكرنا في المقام تقدر على تأويل عامة الآيات المتشابهة نظير :

١. العين ، كقوله سبحانه : ( وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي ). (19)

٢. اليمين ، كقوله سبحانه : ( وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ). (20)

٣. الاستواء ، كقوله سبحانه : ( الرَّحْمَـٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ ). (21)

٤. النفس ، كقوله سبحانه : ( تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ). (22)

٥. الوجه ، كقوله سبحانه : ( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ). (23)

٦. الساق ، كقوله سبحانه : ( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ ). (24)

٧. الجنب ، كقوله سبحانه : ( عَلَىٰ مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ ). (25)

٨. القرب ، كقوله سبحانه : ( فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ ). (26)

٩. المجيء ، كقوله سبحانه : ( وَجَاءَ رَبُّكَ ). (27)

١٠. الإتيان ، كما قال سبحانه : ( أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ ). (28)

١١. الغضب ، كما في قوله : ( وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ). (29)

١٢. الرضا ، كما في قوله : ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ). (30)

إلى غير ذلك من الصفات الخبرية التي وردت في القرآن الكريم وأخبر عنها الوحي ، فللجميع ظواهر غير مستقرة لا تلائم الأُصول الواردة في محكمات الآيات ، ولكن بالإمعان والدقة يصل الإنسان إلى مآلها ومرجعها وواقعها ، وهذا لا يعني حمل الظاهر على خلافه ، بل التتبع لغاية العثور على الظاهر ، إذ ليس للمتشابه ظاهر ظهور مستقرّ في بدء الأمر حتّى نتبعه.

وفي الختام نذكر نموذجين من تأويل المتشابه وراء ما ذكرناه حول تفسير « الأيدى » في قوله سبحانه : ( وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ ).

١. انّ الصفات الخبرية الواردة في القرآن كالوجه وغيره لها حكم عند الإفراد ولها حكم آخر إذا ما جاءت في ضمن الجمل ، فلا يصحّ حملها على المعاني اللغوية إذا كانت هناك قرائن صارفة عنها ، فإذا قال سبحانه : ( وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ) (31) فتحمل الآية على ما هو المتبادر من الآية عند العرف العام ، أعني : الإسراف والتقتير ، فبسط اليد كناية عن الإنفاق بلا شرط ، كما أنّ جعل اليد مغلولة إلى العنق كناية عن البخل والتقتير ، ولا يعني به بسط اليد بمعنىٰ مدها ، ولا غلّ اليد إلى العنق بمعنى شدّها إليه.

٢. قوله سبحانه : ( الرَّحْمَـٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ ) (32) نظير الآية السابقة فالعرش في اللغة هو السرير ، والاستواء عليه هو الجلوس ، غير انّ هذا حكم مفرداتها ، وأمّا مع الجملة فيتفرع الاستظهار منها ، على القرائن الحافّة بها ، فالعرب الأقحاح لا يفهمون منها سوى العلو والاستيلاء ، وحملها على غير ذلك يعد تصرفاً في الظاهر ، وتأويلاً لها ، فإذا سمع العرب قول القائل :

قد استوى بشر على العراق

 

من غير سيف ودم مهـراق

أو سمع قول الشاعر :

ولما علونا واستوينا عليهم

 

تركناهم مرعى لنسر وكاسر

فلا يتبادر إلى أذهانهم سوى العلو والسيطرة والسلطة لا العلو المكاني الذي يعد كمالاً للجسم ، وأين هو من العلو المعنوي الذي هو كمال الذات ؟!

وقد جاء استعمال لفظ الاستواء على العرش في سبع آيات (33) مقترناً بذكر فعل من أفعاله ، وهو رفع السماوات بغير عمد ، أو خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيّام ، فكان ذاك قرينة على أنّ المراد منه ليس هو الاستواء المكاني بل الاستيلاء والسيطرة على العالم كلّه ، فكما لا شريك له في الخلق والإيجاد لا شريك له أيضاً في الملك والسلطة ، ولأجل ذلك يقول في ذيل بعض هذه الآيات : ( أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ). (34)

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ التأويل في القرآن هو ما ذكرنا من إرجاع الشيء إلى واقعه من دون فرق بين الكلام والفعل والحقيقة التكوينية كالرؤيا.

ولكن يستفاد من الأحاديث النبوية والعلوية انّ للتأويل مصطلحاً آخر ، ويطلق عليه التأويل في مقابل التنزيل ، وهذا النوع من التأويل لا يعني التصرّف في الآية بإرجاعها إلى الغاية المرادة ، وإنّما يتبنّىٰ بيان مصاديق جديدة لم تكن في عصر نزول القرآن ، وهذا ما دعانا إلى عقد الفصل التالي.

التأويل في مقابل التنزيل

القرآن الكريم معجزة خالدة يشق طريقه للأجيال بمفاهيمه ومعانيه السامية ، فهو حجّة إلهية في كلّ عصر وجيل في عامّة الحوادث المختلفة صوراً والمتحدة مادة ، يقول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم : « فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن ، فإنّه شافع مشفّع ، وماحل مصدَّق ، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة ، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار ، وهو الدليل يدل على خير سبيل ، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل ، وهو الفصل ليس بالهزل ، وله ظهر وبطن ، فظاهره حكم وباطنه علم ، ظاهره أنيق وباطنه عميق ، له نجوم وعلى نجومه نجوم ، لا تُحصى عجائبُه ولا تُبلىٰ غرائبه ، فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة ». (35)

فقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : « لا تُحصى عجائبه ولا تبلىٰ غرائبه » يرشدنا إلى الإمعان في القرآن في كلّ عصر وجيل والرجوع إليه في الحوادث والطوارق ، كما أنّ قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : « وله ظهر وبطن » يرشدنا إلى أن نقف على ظهره وبطنه ، والمراد من البطن ليس هو التفسير بالرأي ، بل تحرّي المصداق المماثل للمصداق الموجود في عصر الوحي وبه فسّره الإمام الصادق عليه السلام حيث قال : « ظهره تنزيله ، وبطنه تأويله ، منه ما مضىٰ ، منه ما لم يجئ بعد ، يجري كما تجري الشمس والقمر ». (36)

فالتأويل هنا في مقابل التنزيل ، فالمصداق الموجود في عصر الوحي تنزيله ، والمصاديق المتحقّقة في الأجيال الآتية تأويله ، وهذا أيضاً من دلائل سعة آفاقه ، فالقرآن كما قال الإمام يجري كجري الشمس والقمر ، فينتفع منه كلّ جيل في عصره كما ينتفع بالشمس والقمر عامة الناس ، ولذلك يقول الإمام الصادق عليه السلام : « إذا نزلت آية على رجل ثمّ مات ذلك الرجل ، ماتت الآية مات الكتاب ! ولكنّه حيّ يجري فيمن بقي كما جرى فيمن مضىٰ ». (37)

فالقرآن منطو على مادة حيوية قادرة على علاج الحوادث الطارئة عبر الزمان إلى يوم القيامة ، وذلك عن طريق معرفة تأويله في مقابل تنزيله.

ولنأت ببعض الأمثلة :

نماذج من التأويل في مقابل التنزيل

١. يقول سبحانه : ( وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ‎ ). (38)

نصّ القرآن الكريم بأنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بشخصه منذر كما نصّ بأنّ لكلّ قوم هاد ، وقد قام النبي بتعيين مصداق الهادي في حديثه ، وقال : « أنا المنذر وعليٌّ الهادي إلى أمري » (39) ولكن المصداق لا ينحصر بعلي ، بل الهداة الذين تواردوا عبر الزمان هم المصاديق للآية المباركة ، ولذلك نرى أنّ الإمام الباقر عليه السلام يقول : « رسول الله المنذر ، وعليٌّ الهادي ، وكلّ إمام هاد للقرن الذي هو فيه ». (40)

فالهداة المتواردون كلّهم تأويل للآية في مقابل التنزيل.

٢. يقول سبحانه : ( وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ). (41)

فهذه الآية تعطي ضابطة كلية في حقّ الناكثين للعهد الشرعي ، قد احتجّ بها أمير المؤمنين عليه‌السلام في يوم الجمل ، روي عن الإمام الصادق عليه السلام قال : « دخل عليّ أُناس من أهل البصرة ، فسألوني عن طلحة والزبير ، فقلت لهم : كانا من أئمّة الكفر ، انّ عليّاً يوم البصرة لمّا صفَّ الخيول ، قال لأصحابه : لا تعجلوا على القوم حتى أُعذِّر فيما بيني وبين الله عزّ وجلّ وبينهم ، فقام إليهم فقال :

« يا أهل البصرة هل تجدون عليّ جوراً في حكم الله ؟ »

قالوا : لا.

قال : « فحيفاً في قسم ( جمع القسمة ) ؟! ».

قالوا : لا.

قال : « فرغبت في دنيا أخذتها لي ولأهل بيتي دونكم ، فنقمتم عليّ فنكثتم بيعتي ؟! ».

قالوا : لا.

قال : « فأقمت فيكم الحدود وعطّلتها عن غيركم ؟! ».

قالوا : لا.

قال : « فما بال بيعتي تُنكث ، وبيعة غيري لا تُنكث ؟! إنّي ضربت الأمر أنفَه وعينَه فلم أجد إلّا الكفر أو السيف » ، ثمّ ثنى إلى أصحابه ، فقال :

إنّ الله تبارك وتعالى يقول في كتابه : ( وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ).

فقال أمير المؤمنين عليه السلام : « والذي فلق الحبة وبرئ النسمة واصطفىٰ محمداً بالنبوة انّهم لأصحاب هذه الآية وما قوتلوا منذ نزلت ». (42)

ثمّ إنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هو الذي سمّىٰ هذا النوع من القتال ـ حسب ما ورد في الرواية ـ تأويلاً في مقابل التنزيل ، فقال مخاطباً لعليٍّ : « تقاتل علىٰ تأويل القرآن كما قاتلت معي على تنزيله ، ثمّ تقتل شهيداً تخضب لحيتك من دم رأسك ». (43)

روى ابن شهر آشوب عن زيد بن أرقم ، قال : قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم : « أنا أُقاتل على التنزيل ، وعليّ يقاتل على التأويل ». (44)

فهذا هو عمار قاتل في صفين مرتجزاً بقوله :

نحـن ضربناكم على تنزيله

 

فاليوم نضربكم علىٰ تأويله (45)

فوصف جهاده في صفين مع القاسطين تأويلاً للقرآن الكريم.

الهوامش

1. المقاييس : ١ ، مادة أول.

2. لسان العرب : ١١ ، مادة أول.

3. المفرادت : مادة أول.

4. الذاريات : ٤٧.

5. الكهف : ٨٢.

6. الإسراء : ٣٥.

7. النساء : ٥٩.

8. يوسف : ٦.

9. لسان العرب : ١١ ، مادة أول.

10. آل عمران : ٧.

11. لقمان : ١٣ ـ ١٩.

12. الإسراء : ٢٢ ـ ٣٩.

13. لاحظ المعجزة الخالدة للسيد الشهرستاني.

14. النحل : ٩٣.

15. الكهف : ٢٩.

16. سبأ : ٥٠.

17. لاحظ مبحث : دلالة القرآن ، قطعية ص ٥٣ ـ ٥٦.

18. الذاريات : ٤٧.

19. طه : ٣٩.

20. الزمر : ٦٧.

21. طه : ٥.

22. المائدة : ١١٦.

23. البقرة : ١١٥.

24. القلم : ٤٢.

25. الزمر : ٥٦.

26. البقرة : ١٨٦.

27. الفجر : ٢٢.

28. الأنعام : ١٥٨.

29. الفتح : ٦.

30. المائدة : ١١٩.

31. الإسراء : ٢٩.

32. طه : ٥.

33. الأعراف : ٥٤ ، يونس : ٣ ، الرعد : ٢ ، طه : ٥ ، الفرقان : ٥٩ ، السجدة : ٤ ، الحديد : ٤.

34. الأعراف : ٥٤.

35. الكافي : ٢ / ٥٩٩.

36. مرآة الأنوار : ٤.

37. نور الثقلين : ٢ / ٤٨٣ ح ٢٢.

38. الرعد : ٧.

39. نور الثقلين : ٢ / ٤٨٢ و ٤٨٥.

40. نور الثقلين : ٢ / ٤٨٢ و ٤٨٥.

41. التوبة : ١٢.

42. نور الثقلين : ٢ / ١٨٩ ؛ البرهان في تفسير القرآن : ٢ / ١٠٦.

43. بحار الأنوار : ٤٠ / ١ ، الباب ٩١.

44. المناقب : ٣ / ٢١٨.

45. الاستيعاب : ٢ / ٤٧٢ ، المطبوع في حاشية الإصابة.

مقتبس من كتاب : المناهج التفسيريّة في علوم القرآن / الصفحة : 171 ـ 183

 

أضف تعليق

القرآن الكريم وتفسيره

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية