النسخ في القرآن الكريم

البريد الإلكتروني طباعة

النسخ في القرآن الكريم

إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون

النسخ في اللغة : إبطال شيء وإقامة آخر مقامه ، وفي التنزيل ( مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ) (1) والآية الثانية ناسخة والأُولى منسوخة. (2)

وفي الاصطلاح : رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخّر على وجه لولاه لكاد سائداً. (3)

والفرق بين النسخ والتخصيص هو انّ الأوّل تخصيص في الأزمان ، أي مانع من استمرار الحكم بعد النسخ لا عن ثبوته قبله ؛ بخلاف التخصيص ، فانّه مانع عن شمول الحكم لبعض الأفراد من أوّل الأمر.

ولذلك يشترط في التخصيص وروده قبل حضور العمل بالحكم ، بخلاف النسخ فيشترط فيه وروده بعد حضور العمل به فترة قصيرة أو طويلة.

وإليك توضيحه ضمن مثالين :

قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ). (4)

فالآية الأُولى تفرض على المؤمنين عامّة ، صيام الشهر ، سواء أكان سليماً أم سقيماً ، حاضراً أم مسافراً ، مطيقاً أم غير مطيق ؛ غير انّه سبحانه في الآية الثانية يخرج أصنافاً ثلاثة من تحت الحكم ، أعني : المريض والمسافر والمطيق ، ويفرض عليهم أحكاماً خاصة.

وأمّا النسخ فقد عرفت أنّه تخصيص في الأزمان ومانع من استمرار الحكم ، يقول سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَٰلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ). (5)

فرض الله سبحانه على المؤمنين إذا حاولوا أن يناجوا الرسول أن يقدِّموا قبل المناجاة صدقة ، فلمّا نهوا عن المناجاة حتى يتصدّقوا ، ضَنّ كثير من الناس من تقديم الصدقة ، فكفّوا عن المسألة فلم يناجه إلّا علي بن أبي طالب عليه السلام ، ثمّ نسخت الآية بما بعدها : ( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ) (6) ، أي لمّا بخلتم وخفتم الفاقة بالصدقة بين يدي نجواكم ، تاب الله على تقصيركم فيه.

هذا هو النسخ وذلك هو التخصيص.

وبذلك يعلم أنّه يشترط في النسخ ورود الناسخ بعد حضور وقت العمل بالمنسوخ ومرور فترة من تشريع الحكم.

وأمّا التخصيص ، فهو إخراج فرد أو عنوان عن كونه محكوماً بحكم العام فيشترط وروده ، قبل حضور وقت العمل بالعام ، لئلّا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، فهو تخصيص في الأفراد ، مقابل النسخ الذي هو تخصيص في الأزمان.

إذا عرفت ذلك فلنبحث في أُمور :

الأوّل : في إمكان النسخ

اختلفت كلمة المليّين في إمكان النسخ وامتناعه ؛ فالمسلمون عامّة على إمكانه ووقوعه ، وأدلّ دليل على إمكانه وقوعه في الشريعة الإسلامية الغرّاء ؛ وحكي عن اليهود امتناعه ، واستدلّوا عليه بوجوه نذكر أهمها :

الأوّل : لو جاز النسخ يلزم صيرورة الحسن قبيحاً والقبيح حسناً ، لأنّ الأمر به آية الحسن ورفعه آية القبح.

يلاحظ عليه : بأنّ الدليل أخصّ من المدّعى ، فانّ لازم ما ذكر امتناع تطرّق النسخ إلى الحسن والقبيح بالذات ، كحسن العدل وقبح الظلم ، أو حسن الوفاء بالعهد وقبح نقضه ، وأمّا الأُمور التي ليست في حدّ ذاتها حسنة أو قبيحة وإنّما تختلف بالوجوه والاعتبارات فلا مانع من تطرّق النسخ إليها ، مثلاً :

كانت المصلحة مقتضية لئن تعتد المرأة المتوفّى عنها زوجها حولاً كاملاً ويُنفق عليها من مال زوجها ما لم تخرج من البيت كما كان عليه العرب قبل الإسلام ، وقد أمضاه القرآن الكريم في آية مباركة ، لما قال : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ ). (7)

فانّ تعريف الحول باللام إشارة إلى الحَوْل الرائج بين العرب قبل الإسلام.

قال المحقّق القمي : الآية دالّة على وجوب الإنفاق عليها في حول وهو عدّتها ما لم تخرج ، فإن خرجت فتنقضي عدّتها ولا شيء لها. (8)

ولكن نسخت الآية بقوله : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ). (9)

الثاني : انّ شريعة الكليم مؤبّدة ما دامت السماوات والأرض ، بشهادة قوله : « تمسّكوا بالسبت أبداً ».

يلاحظ عليه : أنّ ما ادّعوه من التأبيد معارض بنبوة المسيح أوّلاً حيث قال : ( وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ) (10) ، وعلى ضوء هذا فالتأبيد على فرض صدوره من الكليم محمول على طول الزمان.

الثالث : انّ النسخ في التشريع كالبداء في التكوين مستحيل بشأنه تعالى ، لأنّهما عبارة عن نشأة رأي جديد ، وعثور على مصلحة كانت خافية في بدء الأمر. والحال انّ علمه تعالى أزليّ ، لا يتبدّل له رأي ولا يتجدّد له علم. فلا يعقل وقوفه تعالى على خطأ في تشريع قديم لينسخه بتشريع جديد.

يلاحظ عليه : أنّ النسخ في الأحكام العرفية يلازم البداء غالباً ، أي ظهور ما خفي لهم من المصالح والمفاسد ، بخلاف النسخ في الأحكام الشرعية فإنّ علمه سبحانه محيط لا يعزب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء ، فهو سبحانه يعلم أمد الحكم وغايته ، غير أنّ المصلحة تستدعي إظهار الحكم بلا غاية ، ولكنّه في الواقع مغيّى. فالنسخ في الأحكام العرفية رفع للحكم ، ولكنّه في الأحكام الإلهية دفع له وبيان للأمد الذي كان مغيّى منذ تشريعه ولا مانع من إظهار الحكم غير مغيّى وهو في الواقع محدّد ، بعد وجود قرينة عامة في التشريع من عدم لزوم كون كلّ حكم مستمراً باقياً.

إلى هنا تمّ بعض الشبهات حول النسخ. وبقيت هناك شبهات أُخرى ساقطة جدّاً لا جدوى للتعرّض لها.

الثاني : جواز النسخ قبل حضور وقت العمل

هل يجوز نسخ الحكم قبل حضور وقت العمل أو لا ؟

والمراد من الحكم هو ما يعبر عن تعلّق الإرادة الجدية بالشيء وكان الغرض من إنشائه هو بلوغه مرتبة التنجّز ، ومن المعلوم أنّ نسخ مثل هذا الحكم غير جائز ، فإذا فرضنا وحدة متعلّق الناسخ والمنسوخ ووحدة زمان امتثالهما ، فكيف يمكن أن يكون شيء واحد في زمان واحد متعلّقاً للأمر ورفعه ؟! فانّ تعلّق الأمر يكشف عن وجود المصلحة ، ورفعه يكشف عن فقدانه المصلحة الملزمة ، فلو كان الحكمان صادقين يلزم التناقض وإلّا استلزم جهل المشرِّع بوضع الفعل ، تعالى عن ذلك علواً كبيراً.

وبذلك ظهر عدم صحّة النسخ قبل حضور وقت العمل.

وبما ذكرنا من أنّ محط البحث عبارة عمّا إذا تعلّقت الإرادة الجدية بتطبيق العمل على الحكم ، ظهر خروج موردين عن محط البحث.

١. إذا كانت المصلحة قائمة بنفس الإنشاء فقط ، كما إذا أمر الأمير أحد حواشيه بشيء معلناً بذلك أنّ المأمور بعدُ مطيع غير متمرّد ، وإذا قام بالعمل يرفع عنه التكليف بنحو لا يفوت الغرض من إنشاء الأمر.

٢. الأوامر الاختبارية : والمقصود منها هي الأوامر الشرعية التي تصدر لإخراج كمال بالقوة للعبد إلى حيّز الفعل ، وهو المراد من اختباره سبحانه خليله إبراهيم لمّا أمره بذبح ولده إسماعيل ، بغية إظهار الخليل ما في مكنونه من الكمال إلى الظهور دون أن تكون الغاية هي العلم بعاقبة الأمر ، فانّه سبحانه يحيط علمه كلّ شيء ، يعلم عواقب الأُمور وأوائلها.

وإلى ما ذكرنا يشير الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام حيث قال في تفسير قوله تعالى : ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ) (11) قال : « ومعنى ذلك أنّه يختبرهم بالأموال والأولاد ، ليتبيّن الساخط لرزقه ، والراضي بقسمه ، وإن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم ، ولكن لتظهر الأفعال التي بها يستحقّ الثواب والعقاب ». (12)

وأمّا خروج هذا القسم عن محطّ البحث ، فلما عرفت من أنّ النزاع فيما إذا تعلّقت الإرادة الجدية بنفس الفعل دون مقدّماته وهي في الأوامر الاختبارية تعلّقت بها دونه.

ولأجل ذلك لمّا حصلت الغاية بتوطين النفس على ذبح إسماعيل بإلقائه على المذبح ، وافاه النداء ( قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هـٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ ). (13)

الثالث : الفرق بين النسخ والبداء

إنّ النسخ في التشريع كالبداء في التكوين ، فهما صنوان على أصل واحد ، وقد عرفت واقع النسخ ، وإليك كلمة موجزة عن واقع البداء ، فنقول :

إنّ البداء يبحث فيه تارة في مقام الثبوت ، وأُخرى في مقام الإثبات.

أمّا الأوّل ، فهو عبارة عن تغيير المصير بالأعمال الصالحة والطالحة ، وحقيقته ترجع إلى أنّه سبحانه لم يفرغ من أمر الخلق والتدبير ، بل هو قائم بها دائماً ، وكلّ يوم هو في شأن ، ومن شُعَبِ ذلك الأمر هو انّه سبحانه يزيد في الرزق والعمر وينقص منهما ، وينزل الرحمة والبركة كما ينزل البلاء والنقمة ، لا جزافاً واعتباطاً ، بل حسب ما يقتضيه حال العباد من حسن الأفعال وقبحها وصالح الأعمال وطالحها ، فربما يكون الإنسان مكتوباً في الأشقياء ثمّ يُمحى فيكتب في السعداء ، أو على العكس ، وما هذا إلّا لما يقوم به من أعمال جديدة وإليه يشير الله سبحانه : ( يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (14) ، فالله سبحانه كما يمحو ويثبت في التكوين فيحيي ويميت ، كذلك يمحو مصير العبد ويغيّره حسب ما يغيّر العبد بنفسه فعله وعمله ، قال سبحانه : ( إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ). (15)

هذا هو البداء في مقام الثبوت ، وأمّا البداء في مقام الإثبات ، فربما يتصل النبي بلوح المحو والإثبات فيقف على المقتضي من دون أن يقف على شرطه أو مانعه ، فيخبر عن وقوع شيء ولكن ربما لا يتحقّق ، لأجل عدم تحقّق شرطه أو تحقّق مانعه ، وذلك هو البداء في عالم الإثبات.

وفي القرآن الكريم تلميحات للبداء بهذا المعنى ، نذكر منها مورداً واحداً.

أنذر يونس قومه بأنّهم إن لم يؤمنوا سوف يصيبهم العذاب إلى ثلاثة أيّام. (16)

وما كان قوله تخرّصاً أو تخويفاً ، بل كان يخبر عن حقيقة يعلم بها ، إلّا أنّ هذا الأمر لم يقع ، وما ذلك إلّا لأنّه وقف على المقتضي ولم يقف على المانع ، وهو انّ القوم سيتوبون قبل رؤية العذاب توبة صادقة يعلمها الله تعالى لا خوفاً من العذاب فيرفع عنهم العذاب الذي وُعدوا به ، كما يشير إليه قوله سبحانه : ( فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ ). (17)

ثمّ إنّ عدم اطّلاع يونس على واقع الأمر لا يلازم عدم علمه سبحانه به ، بل هو كان يعلم أنّ ما أخبر به يونس لا يقع إمّا لفقدان الشرط أو لوجود المانع ، ولكن علمه سبحانه بالواقع لا يمنع عن إخبار يونس بما وقف عليه.

وبذلك يظهر انّ البداء من الله تعالى إبداء لما خفي على عبده وإن كان بالنسبة إلى نبيّه ظهوراً لما خفي عليه. فالنبي المخبر بوقوع العذاب ظهر ما خفي عليه ولكن سبحانه أبدى ما خفي على نبيه وسائر الناس ، فنسبة البداء إلى الله تعالى من باب المشاكلة لا من باب الحقيقة ، قال سبحانه : ( نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ). (18)

ومن الواضح امتناع تطرّق النسيان إلى ذاته وإنّما عبر عن جزائهم بأعمالهم بالنسيان لأجل المشاكلة. فكان النسيان من جانب المنافقين حقيقياً ومن جانبه سبحانه من باب المشاكلة.

ثمّ إنّ كثيراً من أهل السنّة حكموا بامتناع البداء ظناً منهم بأنّ المراد هو ظهور ما خفي على الله سبحانه ، فطعنوا بالشيعة غافلين عن حقيقة البداء عند الشيعة. ولو انّهم وقفوا على معتقد الشيعة في هذا المجال لوقفوا على أنّ البداء من المعارف الإلهية التي أصفق عليها علماء الإسلام ، وانّ البداء الممتنع ممتنع عند الجميع والجائز جائز عندهم ، ومن حاول أن يقف على الروايات المفسرة للبداء بالمعنى الصحيح فليرجع إلى الدر المنثور : ٤ / ٦٦٠ في تفسير قوله سبحانه : ( يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ). (19)

الرابع : في أقسام النسخ

قد قسّم المختصون بعلوم القرآن النسخ إلى أقسام ثلاثة :

١. نسخ الحكم دون التلاوة.

٢. نسخ التلاوة دون الحكم.

٣. نسخ الحكم والتلاوة.

وإليك دراسة جميع الأقسام :

١. نسخ الحكم دون التلاوة

انّ القدر المتيقّن من النسخ هو ذاك القسم ، وقد أصفق على جوازه علماء الإسلام ، والمراد منه بقاء الآية ثابتة في الكتاب مقروءة عبْر العصور سوى انّ مضمونها قد نسخ ، فلا يجوز العمل به بعد مجيء الناسخ.

وقد اهتمّ المفسّرون بهذا النوع من النسخ وألّفوا حوله كتباً كثيرة يقف عليها من سبر المعاجم. وألّف غير واحد من أصحابنا في هذا المضمار بما يبلغ عشرين كتاباً ، وقد ذكرنا فهرس تآليفهم في ذلك المضمار في كتابنا « مفاهيم القرآن ». (20)

وأمّا عدد الآيات التي ورد عليها النسخ فهناك قولان بين الإفراط والتفريط.

فأنهاها أبو جعفر النحاس ( المتوفّى عام ٣٣٨ هـ ) إلى ١٨٠ آية في كتابه « الناسخ والمنسوخ » المطبوع ، كما قام بعضهم بإنكار أصل النسخ في القرآن الكريم فبحث عن ٣٦ آية ، وخرج بحصيلة هي إنكار النسخ في القرآن الكريم.

والحقّ هو القول الوسط ، وهو وجود النسخ في القرآن الكريم بمقدار ضئيل للغاية ، منها آية النجوى ، وآية التربّص إلى الحول.

والنوع المعروف من هذا القسم هو نسخ آية بآية أُخرى ، وأمّا نسخ آية بخبر متواتر أو مستفيض أو خبر الواحد ، فقد اختلفت فيه كلمة المفسرين ، والحقّ جواز نسخ القرآن بدليل قطعي لا يتطرّق إليه الشك ، وهو الخبر المتواتر في كلّ قرن وعصر ، وأمّا المستفيض وخبر الواحد فلا ينسخ بها القرآن ، لأنّ رفع اليد عن القطعي بدليل غير قطعي أمر غير معقول.

هذا كلّه حول القسم الأوّل ، وإليك دراسة سائر الأقسام.

٢. نسخ التلاوة دون الحكم

والمراد منه هو سقوط آية من القرآن الكريم كانت تقرأ وكانت ذات حكم تشريعي ثمّ نسيت ومحيت عن صفحة الوجود وبقي حكمها مستمراً غير منسوخ.

وقد ذهب إلى جواز هذا القسم فريق من أهل السنّة.

قال الزرقاني : أمّا نسخ التلاوة دون الحكم ، فيدلّ على وقوعه ما صحت رواية عن عمر بن الخطاب وأُبي بن كعب ، انّهما قالا : وكان فيما أنزل من القرآن الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة. (21)

ثمّ يقول : وأنت تعلم أنّ هذه الآية لم يعد لها وجود بين دفّتي المصحف ولا على ألسنة القرّاء مع أنّ حكمها باق على أحكامه لم ينسخ.

ويدلّ على وقوعه أيضاً ما صحّ عن أبي موسى الأشعري انّهم كانوا يقرأون سورة على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في طول سورة البراءة ، وانّها نسيت إلّا آية منها ، وهي : « لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب ويتوب الله على من تاب ». (22)

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ ما ذكره من الروايات أخبار آحاد لا يثبت به كون الآية قرآنية باقية حكمها منسوخة تلاوتها.

مضافاً إلى أنّ ما ذكره من وجود سورة على عهد رسول الله بطول سورة براءة من قبيل القسم الثالث ، أي نسخ الحكم والتلاوة ، لا الثاني ، ولا أقل من احتمال كونه منه إذ ليس بأيدينا شيء حتّى يحكم عليه بشيء من القسمين وانّها هل بقيت أحكامها أو لا ، ولعلّها من قبيل ما نسخت أحكامها وتلاوتها معاً.

قال الإمام الخوئي : أجمع المسلمون على أنّ النسخ لا يثبت بخبر الواحد ، كما أنّ القرآن لا يثبت به. وذلك لأنّ الأُمور المهمة التي جرت العادة بشيوعها بين الناس وانتشار الخبر عنها ، لا تثبت بخبر الواحد ، فانّ اختصاص نقلها ببعض دون بعض بنفسه دليل على كذب الراوي أو خطائه.

وعلى هذا فكيف يثبت بخبر الواحد انّ آية الرجم من القرآن وانّها نسخت ؟! نعم جاء عمر بآية الرجم وادّعى انّها من القرآن ، لكنّ المسلمين لم يقبلوا منه ، لأنّ نقلها كان منحصراً به ، فلم يثبتوها في المصاحف ، لكن المتأخّرين التزموا بأنّها كانت آية منسوخة التلاوة باقية الحكم. (23)

والعجب انّ الشيخ الزرقاني يستدلّ على جوازه بالوقوع ويقول : « لأنّ الوقوع أعظم دليل على الجواز » وما أتفه هذا الدليل ، فانّ مجرد ذكره في كتب الحديث هل يعد دليلاً على الوقوع ؟!

وثانياً : أنّ القرآن معجز بلفظه ومعناه ، متّحد بفصاحته وبلاغته ، وقد أدهشت فصاحة ألفاظه وجمال عباراته ، وبلاغة معانيه وسموها ، وروعة نظمه وتأليفه وبداعة أُسلوبه عقول البلغاء.

وما زعم من الآيات التي بقي حكمها ليست إلّا عبارات لا تداني آيات القرآن في الفصاحة والبلاغة ، والروعة والجمال. وقد نسج قوله الشيخ والشيخة على منوال قوله سبحانه : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ). (24)

وأمّا الآية المزعومة الثانية فأين أُسلوبها من اسلوب القرآن الخلّاب للعقول ؟! وإنّما هي عبارة متداولة على ألسنة الناس.

وثالثاً : أنّ هذا القول هو نفس القول بالتحريف ، ومن اخترع هذا المصطلح فقد حاول أن يبرر هذا النوع من التحريف.

ومن العجب انّ القوم يجوزون هذا النوع من النسخ الذي هو عبارة عن نوع من التحريف ثمّ يتهمون الشيعة بالتحريف مع أنّ ما ينسب إلى الشيعة من الآيات المزورة فالجميع من هذا القبيل.

ما هكذا تورد يا سعد الابل.

٣. نسخ الحكم والتلاوة

قد جوّزه جماعة من أهل السنّة ، ومثّلوا له بالرواية التالية :

روى مسلم في صحيحة عن عمرة ، عن عائشة انّها قالت :

كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرّمن ، ثمّ نسخن بخمس معلومات ، فتوفّي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهن فيما يقرأ من القرآن. (25)

قال الزرقاني : أمّا نسخ الحكم والتلاوة جميعاً ، فقد أجمع عليه القائلون بالنسخ من المسلمين ، ويدلّ على وقوعه سمعاً ما ورد عن عائشة أنّها قالت :

« كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرّمن ، ثمّ نسخن بخمس معلومات ، وتوفّي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهن فيما يقرأ من القرآن ».

وهو حديث صحيح وإذا كان موقوفاً على عائشة فانّ له حكم المرفوع ، لأنّ مثله لا يقال بالرأي ، بل لا بدّ فيه من توقيف.

وأنت خبير بأنّ جملة « عشر رضعات معلومات يحرمن » ليس لها وجود في المصحف حتى تتلى ، وليس العمل بما تفيده من الحكم باقياً ، وإذن يثبت وقوع نسخ التلاوة والحكم جميعاً ، وإذا ثبت وقوعه ثبت جوازه ، لأنّ الوقوع أدلّ دليل على الجواز ، وبطل مذهب المانعين لجوازه شرعاً ، كأبي مسلم وأضرابه. (26)

أقول : وقد أفتى بمضمونها الشافعي حسب ما رواه السرخسي في أُصوله ، فنقل عنه أنّه استدلّ بما هو قريب من هذا في عدد الرضاعات ، وكذلك أفتى بمضمونها ابن حزم في محلّاه. (27)

وكفانا في الردّ على ذلك ما ذكره السرخسي في أُصوله وقال : والدليل على بطلان هذا القول ، قوله تعالى : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ). ومعلوم أنّه ليس المراد الحفظ لديه تعالى ، فانّه يتعالى من أن يوصف بالغفلة أو النسيان فعرفنا أنّ المراد الحفظ لدينا ، وقد ثبت أنّه لا ناسخ لهذه الشريعة بوحي ينزل بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ولو جوّزنا هذا في بعض ما أوحي إليه ، لوجب القول بتجويز ذلك في جميعه ، فيؤدّي ذلك إلى القول بأن لا يبقى شيء ممّا ثبت بالوحي بين الناس في حال بقاء التكليف. وأيّ قول أقبح من هذا ؟! ومن فتح هذا الباب لم يأمن أن يكون بعض ما بأيدينا اليوم أو كلّه مخالفاً لشريعة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بأن نسخ الله ذلك بعده ، وألف بين قلوب الناس على أن ألهمهم ما هو خلاف شريعته. فلصيانة الدين إلى آخر الدهر أخبر الله تعالى أنّه هو الحافظ لما أنزله على رسوله ، وبه يتبيّن انّه لا يجوز نسخ شيء منه بعد وفاته. وما ينقل من أخبار الآحاد شاذ لا يكاد يصحّ شيء منها.

قال : وحديث عائشة لا يكاد يصحّ ، لأنّه ( أي الراوي ) قال في ذلك الحديث : وكانت الصحيفة تحت السرير فاشتغلنا بدفن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فدخل داجن البيت فأكله. ومعلوم أنّ بهذا لا ينعدم حفظه من القلوب ، ولا يتعذر عليهم إثباته في صحيفة أُخرى ، فعرفنا أنّه لا أصل لهذا الحديث. (28)

ومما يندى له الجبين ما تضافر نقله عن عائشة انّها قالت : كانت سورة الأحزاب تعدل على عهد رسول الله مائتي آية ، فلمّا كتب المصحف لم يقدر منها إلّا على ما هي الآن.

قال أبو بكر : فمعنى هذا من قول أُمّ المؤمنين عائشة انّ الله تعالى رفع إليه من سورة الأحزاب ما يزيد على ما عندنا. (29)

ونقل القرطبي أيضاً انّ هذه السورة ( الأحزاب ) كانت تعدل سورة البقرة.

ولعمر الحقّ انّ هذا نفس القول بالتحريف الذي اجمعت الأُمّة على بطلانه وأخذ الله على نفسه أن يحفظه وقال : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (30) ، وتفسير هذا النوع من التحريف بنسخ التلاوة والحكم تلاعب بالألفاظ وتعبير آخر للتحريف ، وقد عرفت أنّ القرآن معجز بلفظه ومعناه ، فما معنى رفع هذا الحجم الهائل من الآيات القرآنية ؟ أكان هناك نقص في لفظه ومنطوقه أو نقص في حكمه ومعناه ؟! نعوذ بالله من التفوّه بذلك.

ثمّ إنّ هذا النوع من النسخ باطل عند علماء الشيعة الإمامية وما ربما يرمى به الشيخ الطوسي من أنّه قال بنسخ التلاوة والحكم فهو افتراء عليه ، وإنّما ذكره عن جانب القائلين به حيث قال : والثالث ما نسخ لفظه وحكمه ، وذلك نحو ما رواه المخالفون عن عائشة انّه كان فيما أنزل الله عشر رضعات (31) ، فمن قال بهذا النوع من النسخ فقد غفل عمّا يترتب عليه من المضاعفات.

ولنعم ما قال الشيخ المظفر : إنّ نسخ التلاوة في الحقيقة يرجع إلى القول بالتحريف. (32)

الهوامش

1. البقرة : ١٠٦.

2. لسان العرب : ١٤ ، مادة نسخ.

3. القوانين : ٢ / ٩١.

4. البقرة : ١٨٣ ـ ١٨٤.

5. المجادلة : ١٢.

6. المجادلة : ١٣.

7. البقرة : ٢٤٠.

8. القوانين : ٢ / ٩٤.

9. البقرة : ٢٣٤.

10. آل عمران : ٥٠.

11. الأنفال : ٢٨.

12. نهج البلاغة ، قسم الحكم ، رقم ٩٣.

13. الصافّات : ١٠٥ ـ ١٠٦.

14. الرعد : ٣٩.

15. الرعد : ١١.

16. مجمع البيان : ٣ / ١٣٥.

17. يونس : ٩٨.

18. التوبة : ٦٧.

19. الرعد : ٣٩.

20. لاحظ مفاهيم القرآن : ١٠ / ٣٦٥ ـ ٣٦٨.

21. رواه أبو داود في الحدود : ١٦ ، وابن ماجة في الحدود : ٩ ومالك في الحدود : ١٠ وأحمد بن حنبل في مسنده : ٥ / ١٨٣.

22. مناهل العرفان في علوم القرآن : ٢ / ٢٣٣.

23. البيان : ٢٨٥.

24. النور : ٢.

25. صحيح مسلم : ٤ / ١٦٧.

26. مناهل العرفان : ٢ / ٢٣١ ـ ٢٣٢.

27. المحلى : ١٠ / ١٥.

28. أُصول السرخسي : ٢ / ٧٨ ـ ٨٠.

29. الجامع لأحكام القرآن : ١٤ / ١١٣ ، تفسير سورة الأحزاب.

30. الحجر : ٩.

31. التبيان : ١ / ١٣.

32. أُصول الفقه : ٢ / ٤٩.

مقتبس من كتاب : المناهج التفسيريّة في علوم القرآن / الصفحة : 241 ـ 252

 

أضف تعليق

القرآن الكريم وتفسيره

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية