واقعـة الغدير

البريد الإلكتروني طباعة

واقعة الغدير

لا شك في انّ الدين الإسلامي دين عالمي ، وشريعة خاتمة ، وقد كانت قيادة الاُمّة الإسلامية من شؤون النبي الأكرم ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) مادام على قيد الحياة ، وطبع الحال يقتضي أن يوكل مقام القيادة من بعده إلى أفضل أفراد الاُمّة وأكملهم.

إنّ في هذه المسألة وهي أنّ منصب القيادة بعد النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) هل هو منصب تنصيصي تعييني أو أنّه منصب انتخابي ؟ اتّجاهين :

فالشيعة ترى أنّ مقام القيادة منصب تنصيصي ، ولابد أن ينصّ على خليفة النبي من السماء ، بينما يرى أهل السنّة أنّ هذا المنصب انتخابي جمهوري ، أي أنّ على الأمّة أن تقوم بعد النبي باختيار فرد من أفرادها لإدارة البلاد.

إنّ لكل من الاتّجاهين المذكورين دلائل ، ذكرها أصحابهما في الكتب العقائدية ، إلّا أنّ ما يمكن طرحه هنا هو تقييم ودراسة المسألة في ضوء دراسة وتقييم الظروف السائدة في عصر الرسالة ، فانّ هذه الدراسة كفيلة باثبات صحّة أحد الاتّجاهين.

إنّ تقييم الأوضاع السياسية داخل المنطقة الاسلامية وخارجها في عصر الرسالة يقضي بأنّ خليفة النبي لابد أن يعيَّن من جانب الله تعالى ، ولا يصحّ أن يوكل هذا إلى الأمّة ، فانّ المجتمع الإسلامي كان مهدّداً على الدوام بالخطر الثلاثي ( الروم ـ الفرس ـ المنافقين ) بشنّ الهجوم الكاسح ، وإلقاء بذور الفساد والاختلاف بين المسلمين.

كما أنّ مصالح الأمّة كانت توجب أن يوحّد صفوف المسلمين في مواجهة الخطر الخارجي ، وذلك بتعيين قائد سياسي من بعده ، وبذلك يسد الطريق على نفوذ العدو في جسم الاُمّة الإسلامية والسيطرة عليها ، وعلى مصيرها.

وإليك بيان وتوضيح هذا المطلب :

لقد كانت الامبراطورية الرومانية أحد أضلاع الخطر المثلث الذي يحيط بالكيان الإسلامي ، ويهدّده من الخارج والداخل.

وكانت هذه القوة الرهيبة تتمركز في شمال الجزيرة العربية ، وكانت تشغل بال النبي القائد على الدوام ، حتى أنّ التفكير في أمر الروم لم يغادر ذهنه وفكره حتى لحظة الوفاة ، والالتحاق بالرفيق الأعلى.

وكانت أول مواجهة عسكرية بين المسلمين ، والجيش المسيحي الرومي وقعت في السنة الثامنة من الهجرة في أرض فلسطين ، وقد أدّت هذه المواجهة إلى مقتل القادة العسكريين البارزين الثلاثة وهم « جعفر الطيار » و « زيد بن حارثة » و « عبد الله بن حارثة ».

ولقد تسبّب انسحاب الجيش الإسلامى بعد مقتل القادة المذكورين إلى تزايد جرأة الجيش القيصري المسيحي ، فكان يخشى بصورة متزايدة أن تتعرّض عاصمة الإسلام للهجوم الكاسح من قبل هذا الجيش.

من هنا خرج رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في السنة التاسعة للهجرة على رأس جيش كبير جداً إلى حدود الشام ليقود بنفسه أيّة مواجهة عسكرية ، وقد استطاع الجيش في هذه الرحلة الصعبة المضنية أن يستعيد هيبته الغابرة ، ويجدد حياته السياسية.

غير انّ هذا الانتصار المحدود لم يقنع رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فأعدّ قُبيل مرضه جيشاً كبيراً من المسلمين ، وأمّر عليهم « اُسامة بن زيد » ، وكلّفهم بالتوجّه إلى حدود الشام ، والحضور في تلك الجبهة.

أمّا الضلع الثاني من المثلث الخطير الذي كان يهدد الكيان الإسلامي ، فكان الامبراطورية الايرانية ( الفارسية ) وقد بلغ من غضب هذه الامبراطورية على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ومعاداتها لدعوته ، أن أقدم امبراطور ايران « خسرو برويز » على تمزيق رسالة النبي ، وتوجيه الإهانة إلى سفيره باخراجه من بلاطه ، والكتابة إلى واليه وعميله باليمن بأن يوجّه إلى المدينة من يقبض على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، أو يقتله إن امتنع.

و « خسرو » هذا وإن قتل في زمن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إلّا أنّ استقلال اليمن ـ التي رزحت تحت استعمار الامبراطورية الايرانية ردحاً طويلاً من الزمان ـ لم يغب عن نظر ملوك ايران آنذاك ، وكان غرور اُولئك الملوك وتجبّرهم وكبرياءهم لا يسمح بتحمّل منافسة القوة الجديدة ( القوة الاسلامية ) لهم.

والخطر الثالث كان هو خطر حزب النفاق الذي كان يعمل بين صفوف المسلمين كالطابور الخامس وعلى تقويض دعائم الكيان الاسلامي من الداخل إلى درجة أنّهم قصدوا اغتيال رسول الله ، في طريق العودة من تبوك الى المدينة.

فقد كان بعض عناصر هذا الحزب الخطر يقول في نفسه : إنّ الحركة الاسلامية سينتهي أمرها بموت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ورحيله ، وبذلك يستريح الجميع (1).

ولقد قام أبو سفيان بن حرب بعد وفاة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بمكيدة مشؤومة لتوجيه ضربة إلى الاُمّة الاسلامية من الداخل ، وذلك عندما أتى علياً ( عليه السلام ) وعرض عليه أن يبايعه ضدّ من عيّنه رجال السقيفة ، ليستطيع بذلك تشطير الاُمّة الاسلامية الواحدة إلى شطرين متحاربين متقاتلين ، فيتمكّن من التصيّد في الماء العكر.

ولكنّ الإمام علياً ( عليه السلام ) أدرك بذكائه البالغ نوايا أبي سفيان الخبيثة ، فرفض مطلبه وقال له كاشفاً عن دوافعه ونواياه الشريرة :

« والله ما أردت بهذا إلّا الفتنة ، وإنّك والله طالما بغيت للإسلام شراً. لا حاجة لنا في نصيحتك » (2).

ولقد بلغ دور المنافقين التخريبي من الشدّة بحيث تعرّض القرآن لذكرهم في سور عديدة هي : سورة آل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنفال ، والتوبة ، والعنكبوت ، والأحزاب ، ومحمد ، والفتح ، والمجادلة ، والحديد ، والمنافقين ، والحشر.فهل مع وجود مثل هؤلاء الأعداء الخطرين والأقوياء الذين كانوا يتربّصون بالاسلام الدوائر ، ويتحيّنون الفرص للقضاء عليه ، يصح أن يترك رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) اُمّته الحديثة العهد بالإسلام ، الجديدة التأسيس من دون أن يعيّن لهم قائداً دينياً سياسيا ؟

إنّ المحاسبات الاجتماعية تقول : إنّه كان من الواجب أن يمنع رسول الاسلام بتعيين قائد للاُمّة ، .. من ظهور أيّ اختلاف وانشقاق فيها من بعده ، وأن يضمن استمرار وبقاء الوحدة الاسلامية بايجاد حصن قوي وسياج دفاعي متين حول تلك الاُمّة.

إنّ تحصين الاُمّة ، وصيانتها من الحوادث المشؤومة ، والحيلولة دون مطالبة كل فريق « الزعامة » لنفسه دون غيره ، وبالتالي التنازع على مسألة الخلافة والزعامة ، لم يكن ليتحقق ، إلّا بتعيين قائد للاُمّة ، وعدم ترك الاُمور للاقدار.

إنّ هذه المحاسبة الاجتماعية تهدينا إلى صحة نظرية « التنصيص على القائد بعد رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) » ولعلّ لهذه الجهة ، ولجهات اُخرى طرح رسول الإسلام مسألة الخلافة في الأيام الاُولى من ميلاد الرسالة الأسلامية ، وظلّ يواصل طرحها والتذكير بها طوال حياته حتى الساعات الأخيرة منها ، حيث عيّن خليفته ونصّ عليه بالنصّ القاطع الواضح الصريح في بدء دعوته ، وفي نهايتها أيضاً.

وإليك بيان كلا هذين المقامين :

1 ـ النبوّة والامامة توأمان

بغضّ النظر عن الأدلّة العقلية والفلسفية التي تثبت صحّة الرأي الأول بصورة قطعية ، هناك أخبار وروايات وردت في المصادر المعتبرة تثبت صحة الموقف والرأي الذي ذهب إليه علماء الشيعة وتصدّقه ، فقد نصّ النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) على خليفته من بعده في الفترة النبوية من حياته مراراً وتكراراً ، وأخرج موضوع الإمامة من مجال الانتخاب الشعبي والرأي العام.

فهو لم يعيّن ( ولم ينص على ) خليفته ووصيه من بعده في اُخريات حياته فحسب ، بل بادر إلى التعريف بخليفته ووصيه في بدء الدعوة يوم لم ينضو تحت راية رسالته بعد ، سوى بضع عشرة من الأشخاص ، وذلك يوم اُمر من جانب الله العلي القدير أن ينذر عشيرته الأقربين من العذاب الإلهي الأليم. وأن يدعوهم إلى عقيدة التوحيد قبل أن يصدع رسالته للجميع ويبدأ دعوته العامة للناس كافة.

فجمع أربعين رجلاً من زعماء بني هاشم وبني المطلب ، ثم وقف فيهم خطيباً ، فقال :

« أيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم ؟ »

فأحجم القوم ، وقام عليّ ( عليه السلام ) وأعلن مؤازرته وتأييده له ، فأخذ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) برقبته ، والتفت الى الحاضرين ، وقال :

« إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم » (3).

وقد عرف هذا الحديث عند المفسرين والمحدثين : بـ « حديث يوم الدار » و « حديث بدء الدعوة ».

على أنّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) لم يكتف بالنص على خليفته في بدء رسالته ، بل صرّح في مناسبات شتّى في السفر والحضر ، بخلافة علي ( عليه السلام ) من بعده ، ولكن لايبلغ شيء من ذلك في الأهمية والظهور والصراحة والحسم ما بلغه حديث الغدير.

2 ـ قصة الغدير

لمّا انتهت مراسيم الحج ، وتعلّم المسلمون مناسبك الحجّ من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قرر رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) الرحيل عن مكة ، والعودة إلى المدينة ، فأصدر أمراً بذلك ، ولمّا بلغ موكب الحجيج العظيم إلى منطقة « رابغ » (4) التي تبعد عن « الجحفة » (5) بثلاثة أميال ، نزل أمين الوحي جبرئيل على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بمنطقة تدعى « غدير خم » ، وخاطبه بالآية التالية :

( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) ( المائدة / 67 ).

إنّ لسان الآية وظاهرها يكشف عن أنّ الله تعالى ألقى على عاتق النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) مسؤولية القيام بمهمة خطيرة ، وأي أمر أكثر خطورة من أن ينصّب علياً ( عليه السلام ) لمقام الخلافة من بعده على مرأى ومسمع من مائة ألف شاهد ؟!

من هنا أصدر رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أمره بالتوقّف ، فتوقّفت طلائع ذلك الموكب العظيم ، والتحق بهم من تأخر.

لقد كان الوقت وقت الظهيرة ، وكان المناخ حارّاً إلى درجة كبيرة جداً ، وكان الشخص يضع قسماً من عباءته فوق رأسه والقسم الآخر منها تحت قدميه ، وصنع للنبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) مظلّة وكانت عبارة عن عباءة اُلقيت على أغصان شجرة ( سمرة ) ، وصلّى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بالحاضرين الظهر جماعة ، وفيما كان الناس قد أحاطوا به صعد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) على منبر اُعدّ من أحداج الإبل وأقتابها ، وخطب في الناس رافعاً صوته ، وهو يقول :

« الحمدلله ونستعينه ونؤمن به ونتوكل عليه ، ونعوذ به من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا الذي لا هادي لمن أضلّ ، ولا مضلّ لمن هدى ، وأشهد أنّ لا إله إلّا هو ، وأنّ محمداً عبده ورسوله.

أما بعد : أيّها الناس إنّي اُوشك أن اُدعى فاُجيب ، وأنّي مسؤول وأنتم مسؤولون ، فماذا أنتم قائلون ؟ »

قالوا : « نشهد أنّك قد بلّغت ونصحت وجهدت ، فجزاك الله خيراً ».

قال ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : « ألستم تشهدون أن لا إله إلّا الله ، وأنّ محمداً عبده ورسوله ، وأنّ جنّته حق ، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها ، وأنّ الله يبعث من في القبور ؟ »

قالوا : بلى نشهد بذلك.

قال ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : « اللّهمّ اشهد ».

ثم قال ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : « وإنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبدا ».

فنادى مناد : « بأبي أنت واُمّي يا رسول الله وما الثقلان ؟ »

قال ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : « كتاب الله سبب طرف بيد الله ، وطرف بأيديكم ، فتمسّكوا به ، والآخر عترتي ، وانّ اللطيف الخبير نبّأني انّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ، فلا تقدموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ».

وهنا أخذ بيد « عليّ » ( عليه السلام ) ورفعها ، حتى رؤي بياض اباطهما ، وعرفه الناس أجمعون ثم قال :

« أيّها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم ؟ »

قالوا : « الله ورسوله أعلم ».

فقال ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) :

« إنّ الله مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم ، فمن كنت مولاه فعليّ مولاه (6).

اللّهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وأحب من أحبّه ، وابغض من أبغضه ، وأدر الحق معه حيث دار » (7).

فلمّا نزل من المنبر ، استجاز حسان بن ثابت شاعر عهد الرسالة في أن يفرغ ما نزل به الوحي في قالب الشعر ، فأجازه الرسول ، فقام وأنشد :

يناديهم يوم الغدير نبيهم

 

بخمّ وأكرم بالنبي مناديا

يقول فمن مولاكمُ ووليّكم

 

فقالوا ولم يبدو هناك التعاميا

إلهك مولانا وأنت وليّنا

 

ولم تَرَ منّا في الولاية عاصيا

فقال له قم يا عليّ فانّني

 

رضيتك من بعدي إماماً وهاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليّه

 

فكونوا له أنصار صدقٍ مواليا

هناك دعا : اللّهمّ ! وال وليّه

 

وكن للذي عادا علياً معاديا

مصادر الواقعة

هذه هي واقعة الغدير استعرضناها لك على وجه الإجمال ، وهي بحق واقعة لا يسوغ لأحد انكارها بأدنى مراتب التشكيك والقدح ، فقد تناولها بالذكر أئمّة المؤرّخين أمثال : البلاذري ، وابن قتيبة ، والطبري ، والخطيب البغدادي ، وابن عبد البر ، وابن عساكر ، وياقوت الحموي ، وابن الأثير ، وابن أبي الحديد ، وابن خلكان ، واليافعي ، وابن كثير ، وابن خلدون ، والذهبي ، وابن حجر العسقلاني ، وابن صباغ المالكي ، والمقريزي ، وجلال الدين السيوطي ، ونور الدين الحلبي الى غير ذلك من المؤرخين الذين جادت بهم القرون والأجيال.

كما ذكره أيضاً أئمة الحديث أمثال : الإمام الشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وابن ماجة ، والترمذي ، والنسائي ، وأبو يعلى الموصلي ، والبغوي ، والطحاوي ، والحاكم النيسابوري ، وابن المغازلي ، والخطيب الخوارزمي ، والكنجي ، ومحب الدين الطبري ، والحمويني ، والهيثمي ، والجزري ، والقسطلاني ، والمتقي الهندي ، وتاج الدين المناوي ، وأبو عبد الله الزرقاني ، وابن حمزة الدمشقي الى غير ذلك من أعلام المحدّثين الذين يقصر المقال عن عدّهم وحصرهم.

كما تعرض له كبار المفسرين ، فقد ذكره : الطبري ، والثعلبي ، والواحدي في أسباب النزول ، . والقرطبي ، وأبو السعود ، والفخر الرازي ، وابن كثير الشامي ، والنيسابوري ، وجلال الدين السيوطي ، والآلوسي ، والبغدادي.

وذكره من المتكلمين طائفة جمّة في خاتمة مباحث الإمامة وإن ناقشوا نقضاً وابراماً في دلالته كالقاضي أبي بكر الباقلاني في تمهيده ، والقاضي عبد الرحمن الايجي في مواقفه ، والسيد الشريف الجرجاني في شرحه ، وشمس الدين الاصفهاني في مطالع الأنوار ، والتفتازاني في شرح المقاصد ، والقوشجي في شرح التجريد إلى غير ذلك من المتكلمين الذين تعرضوا لحديث الغدير وبحثوا حول دلالته ووجه الحجّة فيه.

واقعة الغدير ورمز الخلود :

أراد المولى عزّ وجلّ أن يبقى حديث الغدير غضّاً طرياً على مر الأجيال لم يُكدّر صفاء حقيقته الناصعة تطاول الأحقاب ، وكرّ الأزمان ، وانصرام الأعوام ، ويرجع ذلك إلى اُمور ثلاثة :

1 ـ إنّ النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قد هتف به في مزدحم غفير يربو على عشرات الآلاف عند منصرفه من الحج الأكبر ، فنهض بالدعوة والاعلان ، وحوله جموع من وجوه الصحابه وأعيان الاُمة ، وأمر بتبليغ الشاهد الغائب ليكونوا كافّة على علم وخبر بما تم ابلاغه.

2 ـ إنّ الله سبحانه قد أنزل في تلك المناسبة آيات تلفت نظر القارئ إلى الواقعة عندما يتلوها وإليك الآيات :

أ ـ ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) ( المائدة / 67 ).

وقد ذكر نزولها في واقعة الغدير لفيف من المفسّرين يربو عددهم على الثلاثين ، وقد ذكر العلّامة البحّاثة المحقق الأميني في كتاب الغدير نصوص عبارات هؤلاء ، فمن أراد الاطّلاع عليها ، فليرجع إليه.

ب ـ ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) ( المائدة / 3 ).

وقد نقل نزول الآية جماعة منهم يزيدون على ستة عشر.

ج ـ ( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِّنَ اللَّـهِ ذِي الْمَعَارِجِ ) ( المعارج / 1 ـ 3 ).

وقد ذكر أيضاً نزول هذه الآية جماعة من المفسرين ينوف على الثلاثين أضف إلى ذلك انّ الشيعة عن بكرة أبيهم متّفقون على نزول هذه الآيات الثلاث في شأن هذه الواقعة (8).

3 ـ إنّ الحديث منذ صدوره من منبع الوحي تسابقت الشعراء والاُدباء على نظمه ، وانشاده في أبيات وقصائد امتدّت وقعتها منذ عصر انبثاق ذلك النص في تلك المناسبة إلى عصرنا هذا ، وبمختلف اللغات والثقافات ، وقد تمكّن البحّاثة المتضلّع العلّامة الأميني من استقصاء وجمع كل ما نظم باللغة العربية حول تلك الحادثة ، والمؤمّل والمنتظر من كافّة المحققين على اختلاف ألسنتهم ولغاتهم استنهاض هممهم لجمع ما نظم واُنشد في أدبهم الخاص.

وحصيلة الكلام : قلّما نجد حادثة تاريخية حظيت في العالم البشري عامّة ، وفي التاريخ الإسلامي والاُمة الإسلامية خاصة بمثل ما حظيت به واقعة الغدير ، وقلّما استقطبت اهتمام الفئات المختلفة من المحدثين والمفسرين والكلاميين والفلاسفة والاُدباء والكتّاب والخطباء وأرباب السير والمؤرخين كما استقطبت هذه الحادثة ، وقلّما اعتنوا بشيء مثلما اعتنوا به.

هذا ويستفاد من مراجعة التاريخ انّ يوم الثامن عشر من شهر ذى الحجة الحرام كان معروفاً بين المسلمين بيوم عيد الغدير ، وكانت هذه التسمية تحظى بشهرة كبيرة إلى درجة انّ ابن خلكان يقول حول « المستعلى بن المستنصر » :

« فبويع في يوم غدير خم ، وهو الثامن عشر من شهر ذي الحجة سنة 487 هـ » (9).

وقال في ترجمة المستنصر بالله العبيدي : « وتوفي ليلة الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة سنة سبع وثمانين واربعمائة ، قلت : وهذه هي ليلة عيد الغدير أعني ليلة الثامن عشر من شهر ذي الحجة ، وهو غدير خم » (10).

وقد عدّه أبو ريحان البيروني في كتابه الآثار الباقية « ممّا استعمله أهل الإسلام من الأعياد » (11).

وليس ابن خلكان ، وأبوريحان البيروني ، هما الوحيدان اللذان صرّحا بكون هذا اليوم هو عيد من الأعياد ، بل هذا الثعالبي قد اعتبر هو الآخر ليلة الغدير من الليالي المعروفة بين المسلمين (12).

إنّ عهد هذا العيد الإسلامي ، وجذوره ترجع إلى نفس يوم « الغدير » لأنّ النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أمر المهاجرين والأنصار ، بل أمر زوجاته ونساءه في ذلك اليوم بالدخول على « عليّ » ( عليه السلام ) ، وتهنئته بهذه الفضيلة الكبرى.

يقول زيد بن أرقم : كان أوّل من صافح النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وعليّاً : أبوبكر ، وعمر ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير ، وباقي المهاجرين والأنصار ، وباقي الناس (13).

الحمد لله الذي جعلنا من المتمسّكين بولاية علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ.

الهوامش

1. الطور / 30.

2. الكامل في التاريخ ج 2 ص 222 ، العقد الفريد ج 2 ص 249.

3. تاريخ الطبري ج 2 ص 216 ، الكامل في التاريخ ج 2 ص 62 و 63 ، وقد مرّ مفصّلاً في هذه الدراسة فراجع.

4. رابغ تقع الآن على الطريق بين مكّة والمدينة.

5. من مواقيت الاحرام وتنشعب منها طرق المدنيين والمصريين والعراقيين.

6. لقد كرّر النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) هذه العبارة ثلاث مرات دفعاً لأيّ التباس أو اشتباه.

7. راجع للوقوف على مصادر هذا الحديث المتواتر موسوعة الغدير للعلّامة الأميني (ره).

8. راجع كتاب الغدير في شأن نزول هذه الآيات ج 1 ص 214 و 217.

9. وفيات الأعيان ج 1 ص 60.

10. وفيات الأعيان ج 1 ص 60.

11. ترجمة الآثار الباقية : ص 395 ، الغدير ج 1 ص 267.

12. ثمار القلوب : ص 511.

13. راجع مصدره في الغدير ج 1 ص 270.

مقتبس من كتاب : [ مفاهيم القرآن ] / المجلّد : 7 / الصفحة : 519 ـ 530

 

أضف تعليق

الغدير

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية