شخصيّة صلاح الدين الأيّوبي

طباعة

شخصيّة صلاح الدين الأيّوبي

يحار المرء في الوصول إلى حقيقة شخصيّة صلاح الدين وسبر أغوار نفسيته ، ولكن المنصف إذا أبحر بعمق في سفينة المؤرّخ والمفكّر الكبير السيّد حسن الأمين عبر كتابه « صلاح الدين الأيوبي بين العباسيين والفاطميين والصليبيين » يمكن أن يصل إلى شاطئ فيه الكثير من الصور واللوحات التي تعبّر إن لم يكن عن كلّ الحقيقة فأكثرها جلاء في حياة هذا الرجل.

يقول السيّد الأمين : « إنّ صلاح الدين الأيّوبي لم يكد يطمئن إلى النصر الرائع في تلك المعركة ، حتّى أسرع إلى القيام بعمل لا يكاد الإنسان يصدّقه ، لولا أنّه يقرأ بعينيه تفاصيله الواضحة ، فيما سجّله مؤرّخو تلك الحقبة ، المؤرّخون الذين خدرت عقولهم روائع استرداد القدس ، فذهلوا عمّا بعده ، لم تتخدّر أقلامهم ، فسجّلوا الحقائق كما هي ، وظلّ تخدير العقول متواصلاً من جيل إلى جيل ، تتعامى حتّى عما هو كالشمس الطالعة.

حصل بعد حطين أنّ صلاح الدين الأيوبي آثر الراحة بعد العناء ، والتسليم بعد التمرّد ، فأسرع يطلب إلى الإفرنج إنهاء حالة الحرب وإحلال السلام » (1).

ولكي يتوصّل صلاح الدين إلى إحلال السلام ، وإنهاء حالة الحرب مع الصليبيين ، رضخ بصورة مذهلة وغريبة إلى كلّ الشروط التي اشترطوها عليه أثناء المفاوضات ، ومنها : التنازل للصليبيين عن الكثير من المدن التي كان صلاح الدين قد استردها منهم بالحرب ، حيفا ويافا وقيسارية ونصف اللد ، ونصف الرملة وعكّا وصور ، وسوى ذلك ، حتّى صارت لهم فلسطين إلّا القليل (2).

إضافة إلى ما وراء ذلك من اعتراف بوجودهم وإقرار لاحتلالهم ، ورفع العنت والمعاناة عن رقابهم الموضوعة تحت سيوف المجاهدين ، وإعطائهم الفرصة الذهبية للراحة ، والاستعداد التام للانقضاض على القدس من جديد ، الأمر الذي حصل فعلاً بعد موت صلاح الدين.

ويقول الدكتور حسين مؤنس : « ثمّ دخلوا في مفاوضات مع صلاح الدين انتهت بعقد صلح الرملة ، الذي نصّ على أن يترك صلاح الدين للصليبيين شريطاً من الساحل ، يمتد من صور إلى يافا ، وبهذا العمل عادت مملكة بيت المقدس ـ التي انتقلت إلى طرابلس ـ إلى القوّة بعد أن كانت قد انتهت ، وتمكّن ملوكها من استعادة الساحل حتّى بيروت ، وبذلك تكون معظم المكاسب التي حقّقها صلاح الدين ـ فيما عدا استعادته لبيت المقدس ـ قد ضاعت » (3).

متى يكون الجنوح للسلم ؟

إنّه لأمر غريب حقّاً وعجيب جدّاً بل ومريب أن يجنح إلى السلم قائد لجيش منتصر ، ثمّ إنّ هذا الذي جنح إليه صلاح الدين هل هو سلم أم استسلام ؟!

قال الله تعالى في محكم التنزيل : ( وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ) (4).

يلاحظ أنّ الله تعالى قد اشترط في هذه الآية الكريمة أن يجنح المعتدون أنفسهم إلى السلم ، فيجنح إليه عندئذ المسلمون ، وهذا يعني أنّ الهزيمة الأكيدة قد حاقت بالأعداء ، ولاحت لهم بوادرها ، فجبنوا عن متابعة الحرب ، وجنحوا إلى طلب الصلح حفظاً على أرواحهم وأنفسهم ، ولم يعودوا مؤهّلين إلى تقديم شروط ، وباتوا مستعدّين للاستجابة للشروط التي يفرضها عليهم المسلمون ، وغنيّ عن البيان أنّ المسلمين بما هم مكلّفون بتبليغ الإسلام إلى البشرية جمعاء ، وبما هم مأُمورون به من العدل والإنصاف ، وتأليف قلوب الكفّار ليسلّموا لله ، ويؤمنوا بالحقّ الذي جاء من عنده ، لن يشترطوا في شروطهم ، ولن يجعلوها شروطاً تعجيزية مجحفة ، بل سيقتصرون من الشروط على سبيل المثال لا الحصر على فتح الطريق أمام حرّية الدعاة في التبليغ ، ونشر نور الرسالة الربانية.

استرداد الأسرى من المؤمنين إن كان هناك أسرى ـ أو تبادلهم مع الأسرى من الكفّار المقاتلين.

الجلاء التام الكامل عن كلّ شبر من الأرض الإسلامية التي دخلها الكفّار أو احتلوها أثناء الحرب.

وربما دفع جزية للمسلمين ، حتّى لا يفكّر الكفّار مستقبلاً في نقض هذه الشروط.

ولكن شيئاً من هذا لم يحصل بين صلاح الدين الأيوبي والصليبيين المعتدين فما الذي حصل إذاً ؟

1 ـ إنّ صلاح الدين هو الذي طلب الصلح والهدنة ، وبادر إليها رغم أنّه المنتصر في معركة حطين التي انتهت بتحرير القدس.

2 ـ الصليبيون استغلوا استغلالاً كبيراً هذه المبادرة السلمية من صلاح الدين ، وفرضوا عليه شروطهم كاملة.

3 ـ لم يحقّق صلاح الدين أيّاً من مقتضيات الجنوح الإسلامي إلى السلم ، فالصليبيون لا يزالون محتلّين لمنطقة كبيرة جدّاً من البلاد الإسلامية.

4 ـ وزاد من سوء هذا الجنوح إلى السلم تنازل صلاح الدين للصليبيين عن مناطق أُخرى ، ومدن مهمّة كانت في يده.

كلّ هذا في الوقت الذي لم يكن فيه صلاح الدين في حالة ضعف أو تقهقر ، بل كان في حالة عظيمة من الانتصار والتقدّم والقوّة ، بل وكان الخليفة الناصر العباسيّ يلحّ عليه في أن يمدّه بجيش الخلافة ، وكان ذلك إيذاناً بنصر كاسح على الصليبيين المعتدين ، سيؤدّي إلى طردهم خارج البلاد الإسلامية ، والتنكيل بهم تنكيلاً يجعل الرعب يدبّ في قلوب من خلفهم من الكفّار ، بحيث لا يراودهم أي أمل ، ولو في مجرد التفكير مستقبلاً بالاعتداء على ديار المسلمين ، طبقاً لقوله عزّ من قائل : ( فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) (5)

فلماذا جنح صلاح الدين إلى السلام مع الصليبيين ؟

هنا لابدّ أن يثور في الفكر سؤال كبير ، وبحث عن السبب الذي دفع صلاح الدين إلى إيقاف الحرب مع الصليبيين ، والجنوح الشديد نحو مسالمتهم ، وعقد معاهدة الصلح معهم بهذا الشكل المريب ، وهو السؤال الذي لم يبخل التاريخ بالإجابة عنه بصراحة ووضوح ، ومن قبل أقرب المقرّبين من المؤرّخين إلى صلاح الدين.

وكان صلاح الدين مجاهداً في سبيل الله والإسلام لالتزم بالتعاليم الإسلامية بشكل عامّ ، وبالأحكام المتعلّقة بالسلم والحرب بشكل خاصّ ، وواقع الحال يؤكّد غير ذلك.

ولو كان صلاح الدين بطلاً قوميّاً كما يدّعون له لاختار أن يستمر في الحرب حتّى يطهّر الأرض العربية من رجس الغزاة المعتدين ، ويكنس منها كلّ أثر للصليبيين ، قبل أن يفكّر بالخلود إلى الراحة والدعة ، وموادعة أعداء الأُمّة ، الرابضين في أهمّ مدنها وبقاعها ، والجاثمين فوق صدور أبنائها.

إنّه لا مفرّ أمامنا من الاعتراف : إنّ صلاح الدين الأيوبي ما هو إلّا طالب لسلطة وملك ، حازهما بكلّ خسّة ونذالة ، وطامح لمجد شخصيّ ناله بالغدر والخيانة ، ولم تكن الدواعي الإسلامية والدوافع القومية لتخطر على باله ، أو لتحتلّ حيّزاً ولو صغيراً في قلبه.

ومن هنا ، نستطيع أن نفهم مبادرته لإيقاف الحرب ، وسعيه الحثيث لعقد الصلح مع الصليبيين ، ومحاولاته المتكرّرة لثني الخليفة العباسي الناصر عن إرسال أيّ جيش إلى فلسطين لمعاضدته في قتال الصليبيين ، وطردهم من الديار الإسلامية (6).

كان نور الدين زنكي ولي نعمة صلاح الدين ، قد طلب إليه أن يزحف من مصر ، في حين يزحف نور الدين من الشام ، ويحصرا الصليبيين بين الجيشين ممّا يسهل القضاء عليهم ، فأبى ذلك صلاح الدين ، لأنّه اعتقد أنّه إذا زال الصليبيون أصبح تابعاً لنور الدين ، ولمّا أدرك أنّ نور الدين عازم على القدوم بنفسه إلى مصر ليؤدّبه ، احتمى منه بالصليبيين ، كما نصّ على ذلك ابن الأثير ، وأبو شامة وابن العديم وغيرهم.

على أنّ صلاح الدين الذي أبرم هذا الصلح مع الصليبيين ، ورسم هذه الصورة الهزيلة لجيشه ، زاعماً في رسالته للخليفة أنّ جيشه قد ملّ القتال وسئم الحرب ، وغدا عاجزاً ضعيفاً عن مواصلة الكرّ والفرّ ، كان يعدّ لحرب جديدة ، ولكن لا لإنقاذ الوطن الإسلامي من خطر الصليبيين هذه المرّة ، وإنّما لتوسيع رقعة مملكته الخاصّة على حساب ممالك إسلامية أُخرى ، لأنّ إنقاذ الوطن الإسلامي من الصليبيين يحدّ من نفوذه ويقلّل من هيمنته ، أمّا القتال في مناطق أُخرى ، فإنّه يزيد من نفوذه ويكثر من هيمنته ، فإذا ضمن ذلك فليبق الصليبيون في بلاد الشام ، ولو أنّ المناطق التي عزم على القتال فيها هي مناطق أجنبية يريد إدخالها ضمن المناطق الإسلامية لهان الأمر ، ولكن صلاح الدين الذي عزم على مسالمة الصليبيين وإنهاء الحرب معهم والتسليم بوجودهم ، صلاح الدين هذا كان يخطّط لغزو البلاد الإسلامية ، وسفك دماء المسلمين ، تحقيقاً لمطامعه الشخصية ، عزم على ترك الصليبيين في أمان ، واتجه لترويع المسلمين الآمنين.

ويذكر ابن الأثير في تاريخه ، وابن كثير في « البداية والنهاية » : إنّ صلاح الدين كان عازماً على أن يغزو بنفسه بلاد الأناضول ، التي كانت وقتذاك بلاداً إسلامية ، يحكمها أولاد قلج أرسلان السلجوقي ، وأن يوجّه أخاه « العادل » لغزو بلاد « خلّاط » ، والدخول منها إلى أذربيجان ، ومن ثمّ بلاد العجم ، لكن المنية عاجلت صلاح الدين ، وحالت بينه وبين الإقدام على جريمة أُخرى من جرائمه الكثيرة في حقّ الإسلام والمسلمين.

ما الذي فعله صلاح الدين ؟ نقول بكلّ صراحة :

1 ـ قضى صلاح الدين على الدولة الفاطمية في مصر ، وأباد المكتبات العظيمة ، وشتّت الكتب التي سهروا طويلاً على جمعها وترتيبها ، ووضعوها بين أيدي العلماء ، لينهلوا من معينها الفيّاض ، ونكّل بأتباعهم وأشياعهم بكلّ قسوة ووحشية.

هذه الدولة العظيمة ، التي كانت طوال فترة حكمها ، السدّ المنيع أمام أطماع الروم البيزنطيين ، والحارس القوي اليقظ على ثغور دولة الإسلام ، سواء في الشام بالمشرق ، أو في إفريقيا بالمغرب ، متابعة في ذلك الدور العظيم ، الذي كانت تقوم به قبلها الدولة الحمدانية في حلب ، بقيادة سيف الدولة الحمداني ، والتي قضى عليها هي الأُخرى أسياد صلاح الدين وآباؤه.

2 ـ اكتفى صلاح الدين بالنصر الذي حقّقه في معركة حطين ، والتي انتهت بانتزاع القدس من أيدي الصليبيين ، وبدلاً من متابعة الحرب ، واضعاً يده في يد الخليفة الناصر العباسي حتّى طرد الصليبيين من كافّة الأرجاء والمدن الإسلامية ، آثر مصلحته الشخصية في بسط نفوذه على بلاد الشام ، وتمكين ملكه فيها ، بعيداً عن نفوذ الخليفة ، أو تدخّله في شؤون تصريفه لأُمور مملكته هذه.

ولتحقيق هذه الغاية بادر إلى مسالمة الصليبيين وموادعتهم ، بل إلى التحالف معهم لقتال جيش الخلافة لو جاء إلى فلسطين ، هذه المسالمة التي تنازل صلاح الدين من أجل الوصول إليها ، عن معظم مدن فلسطين ولبنان للصليبيين ، واعترف لهم بشرعية وجودهم فيها خلافاً لتعاليم الإسلام ورغبة المسلمين ، بما فيهم الخليفة الناصر العباسي.

3 ـ في عام 1190 م أصدر صلاح الدين مرسوماً دعا فيه اليهود إلى الاستيطان في القدس (7).

وبهذا المرسوم انفتح الطريق منذ ذلك اليوم لقيام دولة إسرائيل ، وما وصلت إليه في عصرنا الحاضر من طغيان وفساد في الأرض.

4 ـ قبل أن يموت صلاح الدين ، قام بتقسيم البلاد التي كان يحكمها بين ورثته على الشكل الذي يحدده ابن كثير كما يلي :

مصر : لولده العزيز عماد الدين أبي الفتح.

دمشق وما حولها : لولده الأفضل نور الدين علي.

حلب وما إليها : لولده الظاهر غازي غياث الدين.

الكرك والشوبك وبلاد جعبر وبلدان كثيرة على قاطع الفرات : لأخيه العادل.

حماه : لابن أخيه محمّد بن تقي الدين عمر.

حمص والرحبة وغيرها : لابن عمّه أسد الدين بن شيركوه.

اليمن : لأخيه ظهير الدين سيف الإسلام طفتكين بن أيوب.

بعلبك : لابن أخيه بهرام شاه بن فروخ شاه.

بصرى : للظافر بن الناصر.

ويضيف ابن كثير بعد هذا النصّ قائلاً : « ثمّ شرعت الأُمور بعد صلاح الدين تضطرب وتختلف في جميع الممالك ».

ويقول الدكتور حسين مؤنس واصفاً تلك القسمة : « قسّم صلاح الدين الإمبراطورية ممالك بين أولاده واخوته وأبناء أخويه ، كأنّها ضيعة يملكها ، لا وطناً عربياً إسلامياً ضخماً يملكه مواطنوه » !

ثمّ يقول عمّا آل إليه الحال بين ورثة صلاح الدين : « عملوا أثناء تنافسهم بعضهم مع بعض ، على منح بقايا الصليبيين في أنطاكية وطرابلس وعكا امتيازات جديدة ، فتنازل لهم السلطان » العادل « عن الناصرة ، وكانت بقية من أهل مملكة بيت المقدس الزائلة قد أقامت في عكا ، واستمسكت بلقب « ملوك بيت المقدس » ، فاعترف لهم به هذا « العادل » في ثلاث معاهدات ... ، وحاول الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين صاحب حلب ، أن يتحالف مع الصليبيين على عمّه « العادل » ... وعندما أقبل الإمبراطور فريدريك الثاني يقود الحملة الصليبية السادسة ، ونزل عكا سنة 1227 م ، أسرع الملك « الكامل » سلطان مصر وتنازل له عن بيت المقدس ، وجزء من أرض فلسطين يمتدّ من الساحل إلى البلد المقدّس ، ووقّع معاهدة بذلك في 18 شباط 1229 م ، وفي سنة 1244 م تقدّم أيوبي آخر هو الصالح إسماعيل صاحب دمشق ، فجعل للصليبيين الملكية الكاملة لبيت المقدس ، وسلّم لهم قبة الصخرة ».

ويعقب السيّد الأمين على ذلك فيقول : لم يكد صلاح الدين يموت حتّى استقلّ كلّ واحد من ورثته بما ورثه عن صلاح الدين ، وتمزّقت البلاد وفقدت وحدتها ، وتشتّت الشعب قطعاً قطعاً لا تربطها رابطة ، ولم يقنع كلّ وارث بما ورثه ، بل راح كلّ واحد منهم يطمع فيما في يد غيره ، ويستعين على غريمه بالصليبيين ...

فماذا بقي لصلاح الدين ؟ هذا ممّا يمكن أن يتفاخر به مؤيّدوه بتحرير القدس ، وقد أدّت تصرّفاته الرعناء ومطامعه الشخصية إلى أن يعود الصليبيون إلى القدس ؟!

إنّ هذه الحقائق عن مخازي صلاح الدين الأيوبي لم ينفرد بها السيّد الأمين ، ولم يخترعها من عند نفسه ، وإنّما انتزعها من بطون كتب التاريخ ، وخاصّة من المؤرّخين الذين عاصروا صلاح الدين ، والفترة التي تلت عصره ، وكانوا من المقرّبين إليه والأثيرين عنده ، وقام مشكوراً بجهد كبير ليكشف لنا هذه الحقائق الناصعة ، مأخوذة من مؤرّخين لا يرقى الشكّ إلى ولائهم لصلاح الدين ، وبالتالي إلى صدق ما كتبوه عنه وعن ورثته ، من مثل العماد الأصفهاني ، والقاضي بهاء الدين بن شدّاد ، وابن الأثير ، وابن كثير ، والنعمان بن محمّد ، والمقريزي ، وابن القلانسي ومن إليهم ، ونقله عنهم بعد ذلك جمع كثير من المؤرّخين المعاصرين ، منهم الدكتور حسن إبراهيم حسن ، والدكتور طه أحمد شرف ، والدكتور حسين مؤنس ، وسواهم.

وأخيراً : هذا هو صلاح الدين الأيوبي ، وهذه هي شخصيّته الحقيقية كما أفصح عنها التاريخ ، لم يكن مجاهداً إسلامياً ، ولا بطلاً قومياً عربياً ، وإنّما كان مجرد طالبٍ لسلطة ، وطامع بملك ، وقد نالهما عبر مراحل طويلة من خداعه للمسلمين والعرب ، فباسم الجهاد سالم الصليبيين بل وتحالف معهم ، وباسم الجهاد قاتل شعوباً إسلامية ، وقضى على دول إسلامية في مصر واليمن وسواهما ، وكان قاسياً جدّاً لدرجة الوحشية مع المسلمين الذين يحكمهم ، ومتسامحاً لدرجة مريبة جدّاً مع اليهود والصليبيين.

ولا بأس أن ننقل في هذا الختام ، حديث الدكتور حسين مؤنس عن سيرة صلاح الدين مع الشعب ، والمعاملة السيئة والقاسية التي كان هو وعمّاله يعاملون بها الناس : « كانت مشاريعه ومطالبه متعدّدة لا تنتهي ، فكانت حاجته للمال لا تنتهي ، وكان عمّاله من أقسى خلق الله على الناس ، ما مرّ ببلده تاجر إلّا قصم الجُباةُ ظهره ، وما بدت لأيّ إنسان علامة من علامات اليسار إلّا أُنذر بعذاب من رجال السلطان ، وكان الفلّاحون والضعفاء معه في جهد ، ما أينعت في حقولهم ثمرة إلّا تلقفها الجُباةُ ، ولا بدت سنبلة قمح إلّا استقرّت في خزائن السلطان ، حتّى أملق الناس في أيّامه ، وخلّفهم على أبواب محن ومجاعات حصدت الناس حصداً » (8).

هذا هو صلاح الدين الأيوبي على حقيقته الكاملة ، ولكن الناس خدّرتهم أنباء الفتوحات المزيّفة ، والبطولات الموهومة ، فلم يعودوا يميّزون بين الغثّ والثمين ، ولا بين الصدف والجوهر ، وكلّ هذا بفضل التعتيم المستمر على حوادث التاريخ ، والتزوير المخطّط من قبل حواشي السلاطين.

أضف إلى ذلك أنّ الناس عندما يهبطون إلى درك من الضعف والعجز يحاولون أن يفتّشوا عن بطولات لهم في التاريخ ، وعندما لا يجد هؤلاء لهم أبطالاً حقيقيين لا يضيرهم أن يستظلّوا تحت سقف أبطال مزيّفين ، ولا يكتفون بذلك بل يجعلون منهم أبطالاً أسطوريين ، يقاتلون طواحين الهواء باسمهم وتحت راياتهم ، ولله في خلقه شؤون ، والحمد لله ربّ العالمين.

الهوامش

1. صلاح الدين الأيوبي بين العباسيين والفاطميين والصليبيين : 144.

2. الأعلاق الخطيرة في أمراء الشام والجزيرة : 173.

3. أطلس تاريخ العالم : 269.

4. الأنفال : 61.

5. الأنفال : 57.

6. صلاح الدين الأيوبي بين العباسيين والفاطميين والصليبيين : 117.

7. أُنظر : الموسوعة اليهودية 14 / 669.

8. مجلة الثقافة / العدد 462.

مقتبس من كتاب : موسوعة الأسئلة العقائديّة / المجلّد : 1 / الصفحة : 344 ـ 353