مقتل الزبير

البريد الإلكتروني طباعة

مقتل الزبير :

أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد ونعيم بن حماد في ( الفتن ) وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن الزبير رضي الله عنه قال : « لقد قرأنا زماناً وما نرى أنا من أهلها فإذا نحن المعنيّون بها : ( وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ) (1) » (2).

قال طه حسين : « ورجع ـ الزبير إلى أم المؤمنين فقال لها : إني لا أرى في هذا الأمر بصيرة ، قالت : فتريد ماذا ؟ قال : أريد أن اعتزل الناس. وهنا يختلف المؤرخون ، فقوم يرون أنه مضى لوجهه حتى أدركه ابن جرموز فقتله في وادي السباع بأمر من الأحنف بن قيس أو عن غير أمر منه. وقوم يقولون : إن ابنه عبد الله عيّره بالجبن وقال له : رأيت رايات ابن أبي طالب وعلمت أن تحتها الموت فجبُنت. وما زال به حتى أحفظه فقال له الزبير ويلك إني قد حلفت لا أقاتل عليّاً. فقال عبد الله : ما اكثر ما يكفّر الناس عن أيمانهم فأعتق غلامك سرجيس وقاتل عدوك ، ففعل وانهزم مع الناس ».

ثمّ قال طه حسين : « ونحن إلى الرواية الأولى أميل ، فقد كان الزبير رقيق القلب شديد الخوف من الله شديد الحرص على مكانته من رسول الله ، وكانت حيرة شديدة منذ وصل إلى البصرة ورأى ما رأى من افتتان الناس واختلافهم ، وازدادت حيرته حين عرف أن عمّار بن ياسر قد أقبل في أصحاب عليّ ، وكان المسلمون يتسامعون بقول النبيّ صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم لعمار : ويحك يا بن سميّة ! تقتلك الفئة الباغية ، فلمّا عرف أن عمّاراً في جيش عليّ أصابته رعدة شديدة إشفاقاً من أن يكون من هذه الفئة الباغية ، وقد تماسك مع ذلك حتى لقي عليّاً وسمع منه ما سمع ، وهنالك استبانت له بصيرته ، فانصرف عن القوم ولم يقاتل ، حتى قتل غيلة بوادي السباع » (3).

ولا تعقيب لنا على ما قاله طه حسين سوى ما ختم به كلامه من قوله : « وهنالك استبانت به بصيرته فانصرف عن القوم ولم يقاتل » فأي بصيرة تلك الّتي استبانت له فانصرف عن القوم ولم يقاتل ؟ فإن انصرافه وحده كافٍ في إدانته !

ولو أنّ الدكتور طه حسين استحضر بعض أقوال ابن عباس لابن الزبير في ذلك الموقف لما قال ذلك. فان ابن عباس قال لابن الزبير في ملاحاة بينهما في المسجد الحرام بعد مضي أكثر من ربع قرن على مرور واقعة الجمل : « فقد لقيتُ أباك في الزحف وأنا مع إمام هدى ، فإن يكن على ما أقول فقد كفر بقتالنا ، وإن يكن على ما تقول فقد كفر بهربه عنا » (4) فكان على الزبير ـ لو استبانت له بصيرته أن يتحول مع الإمام لا أن يفرّ بنفسه من القتال.

ومهما يكن فقد قتله ابن جرموز بوادي السباع فأخذ سلاحه وفرسه وخاتمه كما في فتوح ابن اعثم (5) ونحوه في رواية الطبري (6) وابن الأثير (7).

وقال المسعودي : « وأتى عمرو ـ ابن جرموز ـ بسيف الزبير وخاتمه ورأسه ، وقيل : إنّه لم يأت برأسه فقال عليّ : سيف طالما جلا الكرب عن وجه رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم ، لكنه الحَين ومصارع السوء » (8).

قال ابن كثير الشامي : « ثمّ دخلت ست وثمانين وثلثمائة في محرّمها كشف أهل البصرة عن قبر عتيق فإذا هم بميت طري عليه ثيابه وسيفه ، فظنّوه الزبير بن العوام ، فأخرجوه وكفنوه ودفنوه واتخذوا عند قبره مسجداً ، ووقف عليه أوقاف كثيرة. وجعل عنده خدام وقوام وفرش وتنوير ... اهـ » (9).

أقول : فبناءً على ذلك فقد أخطأهم الظن ، فإنّ الزبير كما مر عن الطبري وابن اعثم والمسعودي وغيرهم أيضاً قد سلبه ابن جرموز سيفه وسلاحه وخاتمه.

وأتى بسيفه إلى الإمام كما مر. فليس مَن كشفوا عنه كان هو الزبير قطعاً. ولا يبعد أن يكون هو بعض من استشهد مع الإمام ، لأنّه عليه السلام قد أمر بدفن أصحابه المستشهدين بثيابهم وسلاحهم. ومهما يكن فقد أخرج الفسوي بسنده عن سنبلة عن مولاتها الوحيدية (10) الّتي كانت تزوجها عليّ بن أبي طالب قالت : « أستأذن ابن جرموز قاتل الزبير على عليّ رضي الله عنه فقال عليّ : ( إئذنوا له وبشروه بالنار ) » (11) ، ولقد سأل ابن عباس الإمام فقال إلى أين قاتل ابن صفية ؟ قال : إلى النار (12).

وفي تهذيب ابن عساكر : « وقيل : انّ مروان قال : لمّا انصرف الزبير : إن لم أدرك ثاري اليوم لم أدركه أبداً ، فرماه بسهم فقتله ( ؟ ) » (13) وهذا على ذمة الرواة ، والأشهر الأوّل.

وروى البلاذري بسنده عن أبي نضرة قال : « قال رجل لطلحة والزبير : إنّ لكما صحبة وفضلاً ، فأخبراني عن مسير كما هذا وقتالكما أشيء أمركما به رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم ؟ أم رأي رأيتماه ؟ فأما طلحة فسكت ، وأمّا الزبير فقال : حُدّثنا أن ههنا بيضاء وصفراء ـ يعني دراهم ودنانير ـ فجئنا لنأخذ منها » (14). وهذا ما رواه الطبري عن عوف الأعرأبي أيضاً بتفاوت يسير (15) ، وأخرجه ابن أبي شيبة وفيه : « عن أبي نضرة عن رجل من بني ضبيعة قال : لمّا قدم طلحة والزبير نزلا في بني طاحية ، فركبت فرسي فأتيتهما فدخلت عليهما المسجد ، فقلت : إنّكما رجلان من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم ... فأمّا طلحة فنكس رأسه فلم يتكلم ، وأمّا الزبير فقال : حُدّثنا أن ههنا دراهم كثيرة فجئنا نأخذ منها » (16).

وأخرج ابن أبي شيبة أيضاً عن أبي الأسود الدؤلي : « أن الزبير بن العوام لمّا قدم البصرة دخل بيت المال فإذا هو بصفراء وبيضاء فقال : يقول الله ( وَعَدَكُمُ اللَّـهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَـٰذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا * وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا ) (17) فقال : هذا لنا » (18).

فأين إذن صار الطلب بدم عثمان ؟! ثمّ ما باله يطلب المال بالبصرة وهو من أغنى الناس ، ألم تكن وصيته لابنه يوم الجمل وقد أخرجها ابن أبي شيبة وابن سعد : « قال عبد الله بن الزبير : لمّا وقف الزبير يوم الجمل دعاني فقمت إلى جنبه فقال : يا بني إنه لا يقتل اليوم إلّا ظالم أو مظلوم وإني أراني سأقتل اليوم مظلوماً ، وإن من أكبر همي لديني ... ثمّ قال : يا بني بع ما لنا واقض ديني وأوص بالثلث ... قال : وقتل الزبير ولم يدع ديناراً ولا درهماً إلا أرضين فيها الغابة واحدى عشرة داراً بالمدينة ، ودارين بالبصرة وداراً بالكوفة وداراً بمصر ... » (19).

قال عروة بن الزبير : « كان للزبير بمصر خطط وبالاسكندرية خطط وبالكوفة خطط وبالبصرة دور ، وكانت له غلات تقدم عليه من أعراض المدينة » (20).

قال عبد الله : « وكان للزبير أربع نسوة قال : ورُبّع الثمن فأصاب كلّ امرأة ألف ألف ومائة ألف ، قال : فجميع ماله : خمسة وثلاثون ألف ألف ومائتا ألف » (21).

قال سفيان بن عيينة : « اقتسم ميراث الزبير على أربعين ألف ألف » (22).

فلا غرابة لو قرأنا عجب الحس البصري منه فقد قال عنه : « يا عجباً للزبير أخذ بحقوي أعرابي من بني مجاشع أجرني أجرني حتى قتل ، والله ما كان له بقرين ، أما والله لقد كنت في ذمّة منيعة » (23) فمن كان بهذه المثابة من الجاه والمال يستحوذ الهوى والطمع عليه حتى يرديانه بوادي السباع.

إنّه الحَين ومصارع السوء كما قال الإمام.

الهوامش

1. الدر المنثور 3 / 177 ط افست الإسلامية.

2. الانفال / 25.

3. الفتنة الكبرى ( عليّ وبنوه ) / 49 ط دار المعارف.

4. شرح النهج لابن أبي الحديد 4 / 490 ومحاضرات الراغب 2 / 94 ، والدرجات الرفيعة 1 / 142.

5. الفتوح لابن أعثم 2 / 313.

6. تاريخ الطبري 4 / 535.

7. تاريخ ابن الاثير 3 / 104 ط بولاق.

8. مروج الذهب 2 / 373 تح عبد الحميد.

9. البداية والنهاية 11 / 319 ، ورواه ابن الجوزي في مرآة الزمان في حوادث سنة 386.

10. وهذه الوحيدية الّتي كانت زوجة الإمام هي أم البنين فاطمة بنت حزام أم أولاده الأربعة العباس وأخوته.

11. المعرفة والتاريخ 2 / 816.

12. طبقات ابن سعد 3 / ق 1 / 77.

13. تهذيب تاريخ ابن عساكر 5 / 368.

14. أنساب الأشراف ( ترجمة الإمام ) 2 / 270 تحـ المحمودي.

15. تاريخ الطبري 4 / 475 ط المعارف.

16. المصنف ( كتاب الجمل ) 15 / 283.

17. الفتح / 20 ـ 21.

18. أخرجه السيوطي في الدر المنثور 6 / 75 ط أفست إسلامية.

19. المصنف 15 / 279 ، وطبقات ابن سعد 3 ق 1 / 75 ـ 77.

20. طبقات ابن سعد 3 / 110.

21. قال ابن كثير في البداية والنهاية 7 / 249 ط السعادة : وقد كان الزبير ذا مال جزيل وصدقات كثيرة جداً ، لما كان يوم الجمل أوصى إلى ابنه عبد الله فلمّا قتل وجدوا عليه من الدين ألفي ألف ومائة ألف فوفوها عنه ، وأخرجوا بعد ذلك ثلث ماله الّذي أوصى به ، ثمّ قسّمت التركة بعد ذلك فأصاب كلّ واحدة من الزوجات الأربع من ربع الثمن الف الف ومائتي الف درهم ، فعلى هذا يكون مجموع ما قسّم بين الورثة ثمانية وثلاثين الف الف وأربعمائة ألف ، والثلث الموصى به تسعة عشر الف الف ومائتا الف فتلك الجملة سبعة وخمسون الف الف وستمائة الف ، والدين المخرّج قبل ذلك الفا الف ومائتا الف ، فعلى هذا يكون جميع ما تركه من الدين والوصية والميراث تسعة وخمسين ألف ألف وثمانمائة ألف ، وإنما نبهنا على هذا لأنه وقع في صحيح البخاري ما فيه نظر ينبغي أن ينبّه له والله أعلم.

22. طبقات ابن سعد 3 ق 1 / 77.

23. نفس المصدر 3 ق 1 / 79.

مقتبس من كتاب : [ موسوعة عبدالله بن عبّاس ] / المجلّد : 3 / الصفحة : 151 ـ 156

 

أضف تعليق

أعلام وكتب

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية