أقوال أعلام المذاهب الأربعة في زيارة النبيّ صلى الله عليه وآله

البريد الإلكتروني طباعة

أقوال أعلام المذاهب الأربعة في زيارة النبيّ صلّى الله عليه وآله

1 ـ قال أقضى القضاة أبو الحسن الماوردي المتوفّىٰ 450 في « الأحكام السلطانيّة » (1) :

فإذا عاد ـ وليّ الحاجّ ـ سار بهم على طريق المدينة لزيارة قبر رسول الله صلّى الله عليه وآله ؛ ليجمع لهم بين حجّ بيت الله وزيارة قبر رسول الله صلّى الله عليه وآله ، رعايةً لحرمته وقياماً لحقوق طاعته ، وذلك وإن لم يكن من فروض الحجّ فهو من مندوبات الشرع المستحبّة ، وعبادات الحجيج المستحسنة.

وقال في الحاوي : أمّا زيارة قبر النبيّ صلّى الله عليه وآله فمأمور بها ومندوب إليها.

عزيزي القارئ تأمّل العبارة المذكورة جيداً :

رعايةً لحرمته ، وقياماً بحقوق طاعته ، فهو من مندوبات الشرع المستحبّة ، وعبادات الحجيج المستحسنة.

2 ـ حكى عبد الحقّ بن محمّد الصقلي المتوفّىٰ 466 في كتابه « تهذيب الطالب » ، عن الشيخ أبي عمران المالكي أنّه قال : إنّما كره مالك أن يقال : زُرنا قبر النبيّ صلّى الله عليه وآله ؛ لأنّ الزيارة من شاء فعلها ومن شاء تركها ، وزيارة قبر النبيّ صلّى الله عليه وآله واجبة.

قال عبد الحقّ :

يعني من السنن الواجبة ـ في المدخل : 1 / 256 ـ ، يريد وجوب السنن المؤكّدة.

3 ـ قال ابن هبيرة المتوفّىٰ 560 ، في كتاب « اتفاق الأئمّة » : اتّفق مالك والشافعي وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل ـ رحمهم الله تعالى ـ على أنّ زيارة النبيّ صلّى الله عليه وآله مستحبة ، « المدخل لابن الحاجّ » : 1 / 256.

4 ـ قال أبو محمّد عبد الكريم بن عطاء الله المالكي ، المتوفّىٰ 612 في مناسكه :

فصل : إذا كمل لك حجّك وعمرتك على الوجه المشروع لم يبقَ بعد ذلك إلّا إتيان مسجد رسول الله صلّى الله عليه وآله للسلام على النبيّ صلّى الله عليه وآله ، والدعاء عنده ، والسلام على صاحبَيه ، والوصول إلى البقيع وزيارة ما فيه من قبور الصحابة والتابعين ، والصلاة في مسجد الرسول صلّى الله عليه وآله ، فلا ينبغي للقادر على ذلك تركه.

هذا قليل من كثيرٍ ممّا يمكن أن ينهله الطالب من الغدير ؛ فيفيد به ويستفيد ، تركنا الأمر المزيد للقارئ العزيز.

فلماذا يا أخي المسلم تكفّروننا ؟ وأئمّتكم يدعون إلى الزيارة ويزورون ويتشرّفون ، ويدعون ويطلبون عند قبر النبيّ صلّى الله عليه وآله.

يطلبون من كريمٍ بما له عند الله من الجاه الوجيه.

ألّف الشيخ تقيّ الدين السبكي الشافعي المتوفّىٰ 756 كتاباً حافلاً في زيارة النبيّ الأعظم صلّى الله عليه وآله ، في 187 صحيفة وأسماه « شِفاء السقام في زيارة خير الأنام » ، ردّاً على ابن تيميّة ، وذكر كثيراً من أحاديث الباب ، ثمّ جعل باباً في نصوص العلماء من المذاهب الأربعة على استحبابها ، وأنّ ذلك مجمع عليه بين المسلمين.

وقال في شفاء السقام :

لا حاجة إلى تتبّع كلام الأصحاب في ذلك مع العلم باجتماعهم وإجماع سائر العلماء عليه.

والحنفية قالوا : إنّ زيارة قبر النبيّ صلّى الله عليه وآله من أفضل المندوبات والمستحبّات ، بل تقرّب من درجة الواجبات ، وممّن صرّح بذلك : أبو منصور محمّد بن مكرم الكرماني في مناسكه ، وعبدالله بن محمود بن بلدحي في « شرح المختار » ، وفي فتاوى أبي الليث السمرقندي في باب أداء الحج (2).

وقال ايضاً :

كيف يتخيّل في أحد من السلف منعهم من زيارة المصطفى صلّى الله عليه وآله وهم مجمعون على زيارة سائر الموتى (3) ؟!

وحكىٰ عن القاضي عياض وأبي زكريّا النووي اجماع العلماء والمسلمين على إستحباب الزيارة (4).

أخي القارئ العزيز :

ماذا تقول في الملايين التي تتوجّه إلى الحجّ والعمرة كلّ عام ، حيث القليل القليل الذين لا يوفَّقون لزيارة قبر النبيّ الكريم صلّى الله عليه وآله ؟

هل أنّ هذه الملايين التي تحجّ كلّ عامٍ جميعاً على خطأ ؟!

أو هل أنّ هذه الحشود العظيمة مشركة وكافرة ؛ لأنّها تزور القبور ؛ قبر النبيّ صلّى الله عليه وآله وقبور الشهداء في البقيع واُحدٍ وغيرهما من الأماكن ؟!

وبين هذه الحشود المليونيّة قضاة وحكّام واُمراء ووزراء وملوك ، وعلماء ! أكُلّ اُولئك كفرة يجب قتلهم ومحاربتهم ، والنيل منهم كما نالوا منّا ؟! أم ماذا ؟

تأمّل أخي العزيز هذه الآية الكريمة :

( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّـهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ ) (5).

لأنّ تعظيمه لا ينقطع بموته ، ولا يقال : إنّ استغفار الرسول صلّى الله عليه وآله لهم إنّما هو في حياته وليست الزيارة كذلك ، لِما أجاب به بعض الأئمّة المحقّقون من أنّ الآية دلّت على تعليق وجدان الله تعالى تَوّاباً رحيماً بثلاثة اُمور : المجيء ، واستغفارهم ، واستغفار الرسول صلّى الله عليه وآله لهم.

وقد حصل استغفار الرسول صلّى الله عليه وآله لجميع المؤمنين ؛ لأنّه قد استغفر للجميع ، قال الله تعالى : ( وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ) (6).

فإذا حصل مجيئهم واستغفارهم كملت الاُمور الثلاثة الموجبة لتوبة الله تعالى ورحمته (7).

وأمّا الإجماع فأجمع العلماء على استحباب زيارة القبور للرجال ، كما حكاه النووي ، بل قال بعض الظاهريّة بوجوبها ... (8).

هذا غيض من فيض ممّا قاله العلماء في استحباب زيارة القبور ، فما ظنّك بمن يجاور رسول الله صلّى الله عليه وآله ولا يزوره حيّاً فترةً من الزمان ؟ أليس هذا هو الجفاء بعينه ؟!

فما الفرق في زيارته في حياته وبعد مماته ؟

وهو القائل : « مَن زارني بعد موتي كمن زارني في حياتي ».

أزوره لاُجدّد العهد.

أزوره لأتذكّر معاناته.

أزوره لأنّه أخرجنا بالإسلام من الظلمات إلى النور.

أزوره لأنّه رسول الله صلّى الله عليه وآله ، وحبيب الله ، وخاتِم الأنبياء والمرسلين ، جاء من عند الله وصدّق المرسلين.

أزوره امتثالاً لأمر الله ، وتعظيماً لتلك الروح المقدّسة التي عانت ما عانت في سبيل إظهار الحقّ ، وإزهاق الباطل.

أزوره لأتأسّىٰ به ؛ لأنّه خير من يُتأسّیٰ كما قال تعالى :

( لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّـهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (9).

فرسول الله صلّى الله عليه وآله أجاز بأمرٍ من الله تعالى زيارة القبور ، وأمرنا أن نزورها بعد أن زارها بنفسه ، والصحابة والتابعون ، وأمرنا تعالى بطاعته بقوله :

( مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (10).

أزوره عارفاً بفضله ، ناهجاً منهجه ، مُقِرّاً معترفاً أنّه رسول الله صلّى الله عليه وآله ، داعياً إلى الله تعالى لنيل شفاعته ، والعيش على ضوء شريعته وبركات سنّته ، حتّىٰ ألقىٰ الله تعالى وأنا مسلم محمّدي.

أزوره لأنّه رسول الله وهو حجّة الله ، وهو برهان الله ، يستوجب التعظيم والتقدير حيّاً وميّتاً ، إنّ ما للنبيّ صلّى الله عليه وآله من قدسيّة وتعظيم ومقام وهو حيّ له وهو ميّت.

وليس كما قال محمّد بن عبد الوهاب : إنّ عصايَ هذه خير من محمّد صلّى الله عليه وآله (11).

وكما قال أيضاً :

أما آن لهذه الجيفة أن تُرفَع.

وقد أسلفنا كيف أنّ الله تعالى أمر كليمه موسى بن عمران عليه السلام ، أن يُخرج رفاةَ يوسف الصدّيق عليه السلام من البحر ويدفنه في بلاد الشام إكراماً وتعظيماً ، وقد جعل لمن يُدلّه عليه بما هو من الإعجاز عجوز ردّ عليها بصرها ، وأصلح رجليها ، وأعاد شبابها ، وضمن لها الجنّة مع موسى عليه السلام.

ولم يكن يوسف عليه السلام عند الله أعظم من محمّد صلّى الله عليه وآله شأناً ، وقد اتّخذه حبيباً وخاتِماً للأنبياء صلّى الله عليه وآله.

عجباً ! الله تعالى يكرم الإنسان ويفضّله على كثيرٍ ممّن خلق تفضيلاً ، وبعض من يقيسون في حكمهم يخالفون الله تعالى وهو أحكم الحاكمين ، قال تعالى :

( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ) (12).

واستمع إلى ما روته عائشة في حديث لها : أنّ جبريل عليه السلام قال لرسول الله صلّى الله عليه وآله :

« إنّ ربّك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم ، فقال صلّى الله عليه وآله :

كيف أقول لهم ؟ فقال : قل قولي :

السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، ويرحم الله المستقدِمِين منّا والمستأخِرِين ، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون » (13).

هذا نصّ صريح ، وهو ما عليه جمع من العلماء ، والاجتهاد في مقابل النص لاتُقرّه شريعة الإسلام.

أمّا تحريم زيارة القبور والحكم بتكفير من يزورها فهو الآخر باطل لا يقرّه أحد من العلماء.

ماذا يقول ابن تيميّة المنكر للزيارة وأصحابه ومَن هم علىٰ مذهبه في حكم شيخ الإسلام الغزالي ، إذ يقول : إذا وقع بصره على حيطان المدينة دعا بهذا الدعاء : « اللهمّ هذا حرم رسولك صلّى الله عليه وآله فاجعله لي وقايةً من النار ، وأمناً من العذاب وسوء الحساب » ؟! (14)

وتأمّل ما يقوله الزرقاني في « شرح المواهب » :

وليتوسّل به ـ أيّ بالنبي صلّى الله عليه وآله ـ ويسأل الله تعالى بجاهه في التوسّل به ، إذ هو محطّ جبال الأوزار وأثقال الذنوب ؛ لأنّ بركة شفاعته وعظمتها عند ربّه لا يتعظّمها ذنب ، ومن اعتقد خلاف ذلك فهو المحروم الذي طمس الله بصيرته ، وأضلّ سريرته ، ألم يسمع قوله تعالى :

( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّـهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ ) (15).

وكان أحمد بن حنبل يتوسّل بالضريح النبوي المبارك ، ويدعو الله تعالى عنده (16).

قال الحافظ أبو العباس القسطلاني : اعلم أنّ زيارة قبره الشريف من أعظم القربات ، وأرجی الطاعات ، والسبيل إلى أعلى الدرجات ، ومن اعتقد غير هذا فقد انخلع من ربقة الإسلام ، وخالف الله ورسوله وجماعة العلماء الأعلام (17).

هذا قليل من كثيرٍ ممّا جاء في زيارة القبور.

ومن فوائدها :

1 ـ تُقرِّب الزائرين إلى الله تعالى زُلفىٰ ، وتذكّرهم بالموت والآخرة ، وتذكّرهم بالحقّ والباطل.

2 ـ وتذكّرهم بالتاريخ الصحيح ، بأحقّية الأنبياء والمرسلين ، والأئمّة الهداة الميامين عليهم السلام ، والشهداء والعلماء والصالحين.

3 ـ إنّ زيارة القبور صفحة من صفحات التاريخ ، يقرأ فيها الزائر سيرة الشهداء والثائرين على طواغيت زمانهم ، ويميّز بين الحقّ والباطل.

هذه قبور الفراعنة والجبابرة ، ..

وتلك قبور الأنبياء والأوصياء والصالحين ، ..

ولعلّ سرّ تحريم الوهّابية لزيارة القبور لا يتجاوز هذه الاُمور.

والله تعالى نسأل أن يجعل من قبورنا روضةً من رياض الجنّة ، بقبول العمل وحسن العاقبة ، ويحشرنا محشر محمّدٍ وآل محمّدٍ صلّى الله عليه وآله.

الهوامش

1. الأحكام السلطانية : 2 / 109.

2. شِفاء السقام : 48.

3. المصدر السابق : 59.

4. المصدر السابق : 61.

5. النساء : 64.

6. محمّد صلّى الله عليه وآله : 19.

7. المواهب اللدنّية للقسطلاني : 4 / 572.

8. ـ وفاء الوفا : 4 / 1362.

9. الأحزاب : 21.

10. الحشر : 7.

11. الرسالة الثانية من رسائل الهدية السنيّة لابن تيميّة : 42.

12. الإسراء : 70.

13. صحيح مسلم : 7 / 44.

14. إحياء علوم الدين : 1 / 346.

15. النساء : 64.

16. الردّ المحكم المتين على كتاب القول المبين : 252.

17. المواهب اللدنّية : الفصل الثاني ، في زيارة قبره الشريف.

مقتبس من كتاب : [ نافذة على زيارة القبور ] / الصفحة : 201 ـ 209

 

أضف تعليق

زيارة القبور وزيارات المعصومين عليهم السلام

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية