حرمة السجود لغير الله تعالى

البريد الإلكتروني طباعة

حرمة السجود لغير الله تعالى

من خلال ما تقدّم من آيات وروايات يتّضح اختصاص السجود بالله عزَّ وجلَّ وحده دون سواه مهما كانت رتبته ومنزلته.

وقد مرَّ أن السجود هو الخضوع والخشوع والتذلّل ، وبما ان الخضوع والخشوع والتذلّل أعمّ من السجود ، فقد يشتبه الجاهل فيحمل حرمة السجود ـ وهو مفهوم خاصّ ـ لغير الله عزَّ وجلَّ علىٰ حرمة الخضوع ـ لغير الله تعالىٰ ، مع أنّ الله تعالىٰ أمر بتذلّل العبد لوالديه في محكم كتابه العزيز فقال تعالىٰ : ( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ) (1).

كما حث علماء الأخلاق عند جميع المسلمين ـ اقتداء بجملة من الآثار والأخبار ـ علىٰ التواضع للعلماء والخضوع لهم لا سيّما في مقام التعلّم حتّى جعل خضوع الطالب وتذلله لاستاذه من أوليات آداب التلمذة والتعلّم.

ويكفي في المقام اتفاق العقلاء علىٰ ضرورة الخضوع للحقّ والانقياد له حتّىٰ ولو سمع من صبي. فكيف الحال إذن مع أنبياء الله عزَّ وجلَّ ورسله وأوليائه الذين هم حجج الله في أرضه علىٰ عباده ؟ فلا شكّ في كون الخضوع والتذلّل لهم والانصياع لأوامرهم من موجبات الشرع الحنيف علىٰ أن لا يكون ذلك بنحو التأليه وإلّا فهو من الشرك بالله عزَّ وجلَّ.

نعم ، السجود علىٰ الأعضاء السبعة منحصر بالله عزَّ وجلَّ ولا يجوز أن يكون لغير الله تعالىٰ حتّىٰ وان لم يكن بنحو التأليه ؛ لأنّه سيكون من قبيل تسوية العبد بخالقه ، وهو عين الضلال حتّىٰ وان قصد بها الاحترام لما فيها من جعل المخلوق بمرتبة الخالق وتنزيل الخالق إلىٰ منزلة المخلوق.

ومن هنا جاء في الحديث الشريف أن معاذا لما قدم من اليمن سجد للنبي ، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : « يامعاذ ! ما هذا » ؟ قال : إنّ اليهود تسجد لعظمائها وعلمائها ورأيت النصارىٰ تسجد لقسسها وبطارقتها ، قلت ماهذا ؟ قالوا : تحيّة الأنبياء ، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : « كذبوا علىٰ أنبيائهم » (2).

وروىٰ سفيان الثوري عن سماك بن هاني أنه قال : دخل الجاثليق علىٰ علي بن أبي طالب عليه السلام فأراد أن يسجد له فقال له الامام علي عليه السلام : « اسجد لله ولا تسجد لي » (3).

وعن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه كان في نفر من المهاجرين والأنصار فجاء بعير فسجد له ، فقال أصحابه : يا رسول الله تسجد لك البهائم والشجر ، فنحن أحقّ أن نسجد لك فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : « اعبدوا ربّكم واكرموا أخاكم ، ولو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها » (4).

هذا ، وأمّا ما حكاه القرآن من قصّة السجود لآدم عليه السلام ونحو ذلك ممّا سيأتي فلا منافاة بينه وبين ما تقدّم من حرمة السجود لغير الله عزَّ وجلَّ ، وهذا ما سنوضّحه علىٰ النحو الآتي :

أوّلاً : معنىٰ سجود الملائكة لآدم عليه السلام :

سنذكر في بيان معنى السجود لآدم عليه السلام أهمّ الآراء المطروحة في المقام ، ثمّ نبيّن القول المختار منها وما يرد علىٰ غيره من الأقوال ، وهي :

الرأي الأوّل : إنّ سجود الملائكة لآدم عليه السلام هو بمعنىٰ الخضوع والتواضع ، وليس بمعنى السجود المعهود ، وقد مرّ أن الخضوع للأنبياء عليهم السلام لا يتنافىٰ مع السجود لله عزَّ وجلَّ ، بل هو ممّا أمر الله تعالىٰ به وحذّر من مخالفته.

وفيه : أن هذا التأويل خلاف الظاهر من اللفظ ، فلا يصار إليه من غير قرينة ، وإنّ الروايات قد دلّت علىٰ أنّ ابن آدم إذا سجد لربّه ضجر إبليس وبكىٰ ، لأنّه أُمر به فعصىٰ واستكبر فلُعن وأُبعد ، وهذه الروايات دالّة علىٰ سجود الملائكة بهذا المعنىٰ المعهود للسجود لأنّ المتبادر من السجود وضع الجبهة علىٰ الأرض ، ويؤيّده قوله تعالىٰ : ( فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) حيث امتثل الجميع ـ بالسجود ـ لأمر الله إلّا إبليس أبىٰ قال تعالىٰ : ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) (5) ، لذلك يضجر إبليس ويبكي من إطاعة ابن آدم للأمر وعصيانه هو من قبل (6) ، وقد روىٰ أبو بصير عن الإمام الصادق عليه السلام مايؤيّد ذلك ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام : سجدت الملائكة لآدم عليه السلام ووضعوا جباههم علىٰ الأرض ؟

قال عليه السلام : « نعم تكرمة من الله تعالىٰ » (7).

الرأي الثاني : إنّ سجود الملائكة كان لله تعالىٰ ، وإنما كان آدم قبلةً لهم ، كما يقال : صلِّ للقبلة أيّ إليها. وقد أمر الله الملائكة بالتوجّه إلىٰ آدم في سجودهم تكريماً له وتعظيماً لشأنه وهو ما نسب إلىٰ أبي علي الجبائي وأبي القاسم البلخي وجماعة (8).

ويرد عليه ما ورد علىٰ سابقه من مخالفته لظاهر اللفظ بل ومنافاته لصريح الآية المباركة ( أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ) (9) فإنّ إبليس إنّما أبىٰ عن السجود بادّعاء أنّه أشرف من آدم عليه السلام.

فلو كان السجود لله تعالىٰ ، وكان آدم قبلةً محضةً لما كان في احتجاجه الذي سجّله لنا القرآن الكريم معنىٰ ، قال تعالىٰ : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ) (10) وهذه الآيات صريحة بإرادة السجود ، وليس المتبادر منه هو القبلة.

الرأي الثالث : إنّ السجود لشخص آدم عليه السلام ، حيث كان بأمر الله تعالىٰ ، فهو في الحقيقة خضوع لله وسجود له لكونه بامره.

وبيان ذلك : أنّ السجود هو الغاية القصوى للتذلّل والخضوع ، ولذلك قد خصّه الله سبحانه بنفسه ، ولم يرخّص لعباده أن يسجدوا لغيره.

غير أنّ السجود لغير الله إذا كان بأمر من الله تعالىٰ كان في الحقيقة عبادة له وتقرّباً إليه ؛ لأنّه امتثال لأمره ، وانقياد لحكمه ، وإن كان في الصورة تذلّلاً للمخلوق.

ومن أجل ذلك يصحّ عقاب المتمرّد علىٰ هذا الأمر ، ولا يُسمع اعتذاره بأنّه لا يتذلّل للمخلوق ، ولا يخضع لغير الخالق حتّىٰ لو كان يأمره.

وهذا الرأي هو الصحيح المختار :

وقد روي هذا المعنىٰ عن أهل البيت عليهم السلام في جملة من الأخبار ، نذكر منها ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال : « قال إبليس : ربِّ اعفني من السجود لآدم ، وأنا أعبدك عبادة لم يعبدكها ملك مقرّب ، ولا نبي مرسل. فقال الله : لا حاجة لي إلى عبادتك ، إنّما اُريد أن اُعبد من حيث أُريد ، لا من حيث تريد ، فأبىٰ أن يسجد ... » (11).

وهذا الحديث صريح بكون السجود لآدم هو عبادة لله عزَّ وجلَّ ؛ لأنّه كان بأمره تعالىٰ.

وروي أيضاً عن الإمام الصادق عليه السلام عندما سأله زنديق : أفيصلح السجود لغير الله ؟ قال الإمام عليه السلام : « لا » قال : فكيف أمر الله الملائكة بالسجود لآدم عليه السلام ؟ فقال الإمام عليه السلام : « إنّ من سجد بأمر الله فقد سجد لله ، فكان سجوده لله إذا كان عن أمر الله » (12).

ثانياً : معنىٰ السجود ليوسف عليه السلام :

وأمّا عن سجود آل يعقوب ليوسف الصدّيق عليه السلام كما صرّح به القرآن الكريم وهو يقصّ لنا أحسن القصص بقوله تعالىٰ : ( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ) (13).

فلا ينافي أيضاً ما تقرر في محلّه من حرمة السجود لغير الله عزَّ وجلَّ ؛ لأنّه في الواقع كان إعظاماً وشكراً لله عزَّ وجلَّ علىٰ ما أنعم عليهم من نعمة السلامة واجتماع الشمل ، ولم يكن سجود عبادة ليوسف عليه السلام ، فهذا ما يأباه كلّ من عرف مقام الأنبياء ومنزلتهم ودعوتهم الناس إلىٰ نبذ الشرك والاعتقاد بالتوحيد الخالص.

نعم ، فقد كان من بين اولئك الساجدين نبي الله يعقوب عليه السلام ، وهو ممّن أخلص لله في كلِّ شيء ولم يبث شكواه إلّا لله قال تعالىٰ : ( وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) (14).

وتفسير السجود بهذا المعنى الذي ينسجم مع اُصول العقيدة الإسلاميّة من حرمة السجود لغير الله ، هو ما أثبتته مدرسة أهل البيت عليهم السلام كما يدلُّ عليه جملة من الروايات ، نكتفي بالاشارة إلىٰ بعضها :

عن أبي بصير ، عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال : « ... فلمّا دخلوا علىٰ يوسف في دار الملك اعتنق أباه فقبّله وبكىٰ ... ثمّ دخل منزله فادّهن واكتحل ولبس ثياب العزّة والملك ثمّ رجع إليهم ـ أو خرج إليهم ـ فلمّا رأوه سجدوا له جميعاً اعظاماً وشكراً لله ، فعند ذلك قال : ( يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ) » إلىٰ أن قال : ( بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ) قال : ولم يكن يوسف في تلك العشرين سنة يدهن ولا يكتحل ولا يتطيّب ولا يضحك ، ولا يمسّ النساء حتّىٰ جمع الله ليعقوب شمله ، جمع بينه وبين يعقوب واخوته (15).

وعن موسىٰ بن محمّد بن علي بن موسىٰ ، سأل الإمام علي بن محمّد الهادي عليه السلام عن قول الله عزَّ وجلَّ : ( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ) أسجد يعقوب وولده ليوسف وهم أنبياء ؟ ...

فقال عليه السلام : « وأمّا سجود يعقوب وولده ليوسف ، فإنّ السجود لم يكن ليوسف ، كما أنّ السجود من الملائكة لآدم لم يكن لآدم ، إنّما كان منهم طاعة لله وتحيّة لآدم ، فسجد يعقوب وولده شكراً لله باجتماع شملهم ، ألم ترَ أنه يقول في شكره في ذلك الوقت ( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ... ) » (16).

وروي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه سئل عن قوله تعالىٰ : ( وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ) قال عليه السلام : « كان سجودهم ذلك عبادة لله » (17).

ونخلص من ذلك كلّه إلىٰ اختصاص السجود بالله تعالىٰ وحده ، وإنّ ما أتىٰ به الملائكة لآدم عليه السلام وكذا ما فعله يعقوب عليه السلام وولده ليوسف الصدّيق عليه السلام فإنّما ذلك كلّه سجود لله تعالىٰ ، وطاعة له وائتمار بأمره سبحانه ومحبّة لآدم وفضيلة له عليه السلام وكذا تحيّة ليوسف وتكرمة له عليه السلام ليس إلّا.

الهوامش

1. سورة الاسراء : ١٧ / ٢٤.

2. مسند أحمد بن حنبل ٥ : ٥١٥ / ١٨٩١٣ و ٥١٦ / ١٨٩١٤ وفي الطبعة القديمة ٤ : ٣٨١.

3. التفسير الكبير / الفخر الرازي ٢ : ٢٣٢ في تفسير الآية ٣٤ من سورة البقرة.

4. راجع : مسند أحمد بن حنبل ٦ : ٣٠٠ / ٢١٤٨٠ و ٧ : ١١١ ـ ١١٢ / ٢٣٩٤٩ واللفظ منه وفي الطبعة القديمة ٤ : ٣٨١ و ٥ : ٢٢٨ و ٦ : ٧٦ ، وسنن ابن ماجة ١ : ٥٨١ / ١٨٥٢ و ٥٨٢ / ١٨٥٣ باب ٤ حقّ الزوج علىٰ المرأة. وسنن أبي داود ٢ : ٢٤٤ / ٢١٤٠ باب حق الزوج علىٰ المرأة ، وزاد فيه : « لما جعل الله لهم عليهن من الحق ».

5. سورة البقرة : ٢ / ٣٤.

6. راجع البيان في تفسير القرآن / السيد الخوئي : ٥٠٦ ، المطبعة العلميّة ـ قم ١٣٩٤ ه‍ ط ٥.

7. بحار الأنوار ١١ : ١٣٩ / ٣ باب سجود الملائكة ومعناه..

8. بحار الأنوار ١١ : ١٤٠ / ٦ باب سجود الملائكة ومعناه.

9. سورة الاسراء : ١٧ / ٦١.

10. سورة الأعراف : ٧ / ١١ ـ ١٣.

11. البيان في تفسير القرآن / السيد الخوئي : ٥٠٨. وبحار الأنوار ١١ : ١٤١ / ٧ باب سجود الملائكة ومعناه.

12. الإحتجاج / الطبرسي ٢ : ٢١٨ / ٢٢٣ كلامه في حكمة سجود الملائكة لآدم عليه السلام. انتشارات الأسوة ـ قم ١٤١٣ ه‍. وبحار الأنوار ١٠ : ١٦٨ / ٢ باب ١٣ إحتجاجات الإمام الصادق عليه السلام على الزنادقة والمخالفين.

13. سورة يوسف : ١٢ / ١٠٠.

14. سورة يوسف : ١٢ / ٦٨.

15. تفسير العيّاشي ٢ : ١٩٧ / ٨٣. وبحار الأنوار ١٢ : ٣١٨ / ١٤٣ كتاب النبوّة.

16 الاختصاص / الشيخ المفيد : ٩١ ـ ٩٣ ، انتشارات مكتبة الزهراء عليها السلام ـ قم ١٤٠٢ ه‍. وتفسير العيّاشي ٢ : ١٩٧ / ٨٢.

17. تفسير العيّاشي ٢ : ١٩٧ / ٨٥.

مقتبس من كتاب : [ السجود مفهومه وآدابه والتربة الحسينية ] / الصفحة : 71 ـ 78

 

أضف تعليق

السجود

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية