توطين النفس على الشهادة

البريد الإلكتروني طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 7 ، ص 284 ـ  287
________________________________________
(284)
توطين النفس على الشهادة :
خرج زيد موطناً نفسه على القتل والشهادة، مقدّماً المنيّة على الدنيا الدنية، وقتل العز على عيش الذل، كيف وهو الذي كان يترنّم بقوله:
فأجبتها أنّ المنية منهل * لابدّ أن أُسقى بذاك المنهل
________________________________________
(285)
ومن كان هذا كلامه ويترنّم بما ماثله أيضاً، لا يخرج لطلب الملك والاِمارة وكسب الجاه والمقام وهو مشرف على القتل، وطلب الجاه من شوَون من يريد البقاء والالتذاذ بلذائذ الدنيا لا من يريد ركوب الرماح والاَسنّة.
ومن أراد اتهام زيد بطلب الاِمارة والخلافة فلم يعرف نفسيته ولا بيئته وظروفه المحدقة به فإنّها كانت تُحتِّم عليه الموت وهو كان يرى الشهادة أمامه.
والذي وطّن نفسه على القتل هو الاَُمور التالية:
1 ـ كان كلام جده وآبائه رنين سمعه وأنّه يخرج من ولده رجل يقال له زيد ويقتل بالكوفة ... وقد سمع عن والده عليّ بن الحسين _ عليهما السلام _ وهو صغير: «أُعيذك باللّه أن تكون زيداً المصلوب بالكناسة» كما سمع نظيره عن ابن أخيه الاِمام الصادق _ عليه السلام _ الذي أطبق المسلمون على صدقه، ومع هذه الاَخبار المتضافرة كيف لا يوطّن نفسه على الشهادة، ويخرج لطلب الملك والجاه والمقام دون إباء الضيم، والاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعريف الاَُمّة بواجبهم تجاه الطغمة الغاشمة.
2 ـ إنّ الذين بايعوه ودعوه إلى النضال والكفاح كانوا ـ وللاَسف ـ معروفين بالنفاق، وعدم الثبات والصمود في مسيرة الدعوة وطريق البيعة، فكانوا يبرمون أمراً وينقضونه من فوره، وأهل الكوفة وإن لم يكن كلّهم كذلك وكان فيهم أبطال صامدون ولكن الاَكثرية الساحقة كانوا بهذه الخصيصة وقد عرّفهم الاِمام عليّ ـ عليه السلام ـ في غير واحد من خطبه نقتطف منها ما يلي:
1 ـ يا أشباه الرجال ولا رجال حلوم الاَطفال، وعقول ربّات الحجال، لوددت أنّي لم أركم، ولم أعرفكم معرفة ـ واللّه ـ ... قاتلكم اللّه لقد ملاَتم قلبي قيحاً، وشحنتم صدري غيظاً (1)
________________________________________
(1) نهج البلاغة: الخطبة: 27.
________________________________________
(286)
2 ـ ويقول في خطبة أُخرى: «يا أهل الكوفة منيت بكم بثلاث واثنتين، صمّ ذو أسماع، وبكم ذو كلام، وعمي ذو أبصار، لا أحرار صدقٍ عند اللقاء، ولا إخوان ثقة عند البلاء... لوددت واللّه أنّ معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم، فأخذ مني عشرة منكم وأعطاني رجلاً منهم» (1)
فإذا كان المبايعون هوَلاء الذين وصفهم جدّه بعدم الثبات والصدق عند اللقاء، فكيف يصح له أن يعتمد على بيعتهم ويطلب الاِمارة؟! والكوفة وإن انجبت أبطالاً شهاماً كتبوا على جبين الدهر بطولاتهم وصدق مواقفهم في ميادين الحرب، ولكن كانت الكوفة تحتضن موالي أتوا من هنا وهناك وتوطّنوا فيها، وكان العرب المتوطِّنون فيها وافدين من نقاط شتّى وقبائل مختلفة لا تجمعهم فكرة واحدة وثقافة فريدة، وقد مصّرت الكوفة أيام عمر بن الخطاب ولم تكن قبل ذلك حاضرة، وهي بخلاف الشام فقد ضربت فيها حضارة عريقة بجرانها قبل قرون، وكانت تسوسهم الوحدة الحضارية والعنصرية والتربية المدنية والدينية قبل الاِسلام، فاستغلال هذه المنطقة بمالها من المواصفات أسهل من استغلال هوَلاء الذين لا يربطهم سوى شيء واحد وهو التوطّن في أرض الكوفة وما والاها.
وإن كنت في شكّ ممّا ذكرنا من هوَلاء فقارن عدد المبايعين لزيد وعدد الحاضرين في ساحة المعركة، فقد أقام زيد بالكوفة خمسة أشهر وبالبصرة شهرين، فأخذ الناس يبايعونه من الشيعة والمحكِّمة وبلغ ديوانه خمسة وعشرين ألفاً أو أزيد كما سيوافيك، ولكن لم يحضر منهم في ميدان القتال إلاّ مائتان وثمانية عشر رجلاً، ولمّا وقف زيد على قلّة المجيبين، قال: سبحانه اللّه أين الناس؟ فقيل: إنّهم محصورون في المسجد، فقال زيد: سبحان اللّه ما هذا عذر لمن بايعنا.
كل ذلك يدلنا على أنّ زيداً قام بالاَمر وهو موطن نفسه على الشهادة وإراقة
________________________________________
(1) نهج البلاغة: الخطبة: 97.
________________________________________
(287)
دمه في طريق هدفه، ألا وهو إيقاظ الاَُمّة وتوجيههم نحو واجبهم.
3 ـ إنّ زيداً الشهيد كان يواجه دولة كبيرة أُموية ضربت بجرانها أقطار الاَرض شرقها وغربها وبيدها مفاتيح الخير والشر وهو لا يملك من العدة إلاّ شيئاً قليلاً، أفيصح أن يرمى مثل زيد بأنّه خرج لطلب السلطة والاِمامة لا للشهادة والفداء؟!
 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية