صفاته زائدة على ذاته

البريد الإلكتروني طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 2 ، ص 85 ـ  94
________________________________________
(85)
(8)
صفاته زائدة على ذاته

إنّ كيفية إجراء صفاته سبحانه على ذاته، أوجد هوة سحيقة بين كلامي المعتزلة والأشاعرة، فمشايخ الاعتزال ـ لأجل حفظ التوحيد ، و رفض تعدّد القديم، والتنزّه عن التشبيه ـ ذهبوا إلى أنّ ملاك إجراء هذه الصفات هو الذات، وليست هنا أيّة واقعية للصفات سوى ذاته.
وقد استعرض القاضي عبد الجبار المعتزلي آراء مشايخه في شرح الأُصول الخمسة (1)و قال:
قال شيخنا أبو علي: إنّه تعالى يستحقّ هذه الصفات الأربع: (القدرة، العلم، الحياة، الوجود) لذاته.
وقال شيخنا أبو هاشم: يستحقّ هذه الصفات لما هو عليه في ذاته.
ومفاد كلام الشيخين: أنّ الله سبحانه عالم، قادر حي، بنفسه لا بعلم وقدرة وحياة.
وهؤلاء هم المعروفون بنفاة الصفات، لحفظ التوحيد ورفض تعدّد القدماء، وهم يعنون بقولهم:(لذاته) أنّ ذاته سبحانه ـ ببساطتها ووحدتهاـ نائبة عن الصفات، وتعبير أبي هاشم في إفادة ما يرومانه أدق من عبارة أبي علي، وقد اشتهر هذا القول عند المتأخرين من المتكلّمين بالقول بالنيابة،
________________________________________
1. شرح الأُصول الخمسة: 182.
________________________________________
(86)
ونسبه أبو الحسن الأشعري في «مقالات الإسلاميين» إلى كثير من المعتزلة والخوارج، وكثير من المرجئة وبعض الزيدية وقال: هؤلاء يقولون: إنّ الله عالم، قادر، حي، بنفسه لا بعلم وقدرة وحياة.(1)
وعندئذ تكون الذات نائبة عن الصفات والآثار المترقبة من الصفات، مترتبة على الذات، وإن لم تكن الصفات موجودة فيها مثلاً: خاصية العلم اتقان الفعل،وهي تترتب على نفس ذاته، بلا وجود وصف العلم فيه، و قد اشتهر عندهم «خذ بالغايات واترك المبادئ» و إنّما ذهبوا إلى هذا القول لأجل أمرين تاليين:
من جانب اتفقت الشرائع السماوية على أنّه سبحانه عالم حي قادر، و يدلّ على ذلك إتقان أفعاله. و من جانب آخر: واقعية الوصف لا تنفك عن القيام بالغير، فلو لم تكن قائمة به لم تصدق عليه الصفة. فعند ذلك يدور الأمر بين أحد الأُمور الأربعة:
1. نفي العلم مثلاً عن ساحته سبحانه على الإطلاق. وهذا تكذّبه آثار فعله سبحانه، مضافاً إلى اتّفاق الشرائع السماوية على عدّه من صفاته الذاتية.
2. القول بأنّ علمه زائد، ومثله سائر صفاته، وهذا يستلزم تعدّد القدماء.
3. كون صفاته عين ذاته وهي متحدة معها، وهذا لا يجتمع مع واقعية الوصف، لأنّ واقعيته هو القيام بالغير،ولولاه لما صدق عليه الوصف. فعندئذ يتبيّن القول التالي:
4. نيابة الذات مناب الصفات وإن لم تكن الذات موصوفة بنفس الصفات.
وهذا القول هو المشهور بين المعتزلة، وإليه يشير الحكيم السبزواري في منظومته:
________________________________________
1. مقالات الإسلاميين:1/224.
________________________________________
(87)
والأشعـريـة بازديـاد قائلـة * وقــال بـالنيـابـة المعتـزلـة
وممّن اختار هذا القول من المعتزلة وذبَّ عنه بصراحة، هو عبّاد بن سليمان المعتزلي(1)قال:
هو عالم، قادر، حي، ولا أثبت له علماً ولا قدرة، ولا حياة، ولا أثبت سمعاً ولا أثبت بصراً. وأقول: هو عالم لا بعلم،وقادر لا بقدرة وحي لا بحياة، وسميع لا بسمع، وكذلك سائرما يسمّى به من الأسماء التي يسمّى بها.(2)
رأي أبي الهذيل العلاّف المعتزلي
(3)
يعترف أبو الهذيل ـ على خلاف ما يروى عن أبي علي وأبي هاشم الجبائيين ـ بأنّ لله سبحانه علماً وقدرة وحياة حقيقة، ولكنّها نفس ذاته; وإليك نصّ عبارته: هو عالم بعلم هوهو، هو قادر بقدرة هي هو، هوحي بحياة هي هو ـ إلى أن قال ـ : إذا قلت: إن الله عالم أثبتَّ له علماً هو الله، ونفيت عن الله جهلاً، ودللت على معلوم، كان أو يكون، وإذا قلت: قادر، نفيت عن الله عجزاً،وأثبتّ له قدرة هي الله سبحانه ودللت على مقدور. وإذا قلت: الله حي، أثبتّ له حياة وهي الله، ونفيت عن الله موتاً.(4)
والفرق بين الرأيين جوهري جداً، فالرأي الأوّل يركز على أنّ الله عالم، قادر حي، بنفسه، لا بعلم ولا قدرة ولا حياة. وعلى حد تعبير أبي هاشم أنّ الله يستحقها لما هو عليه في ذاته.
________________________________________
1. من أئمة الاعتزال في القرن الثالث، ودارت بينه و بين أبي كلاب (المتوفّى بعد عام 340هـ) مناظرات، لاحظ الانتصار لأبي الحسين الخياط: 61. 2. مقالات الإسلاميين:1/225.
3 . محمد بن هذيل المعروف بالعلاّف، كان شيخ البصريين في الاعتزال، ولد عام 130هـ وتوفّـي في سامراء235هـ. لاحظ وفيات الأعيان:4/265 برقم 606.
4. شرح الأُصول الخمسة: 183; مقالات الإسلاميين: 25.

________________________________________
(88)
فهؤلاء يستحقون أن يسموا بنفاة الصفات ونيابة الذات عنها، وهذا بخلاف رأي أبي الهذيل فهو يركز على كونه سبحانه موصوفاً بهذه الصفات وعالماً بعلم وقادراً بقدرة، ولكنّها تتحد مع الذات في مقام الوجود والعينية.
ولأجل التفاوت البارز بين الرأيين أراد القاضي عبد الجبار المعتزلي إرجاع مقالة العلاف إلى ما يفهم من عبارة أبي علي و ابنه أبي هاشم وقال: قال أبو هذيل: إنّه تعالى عالم بعلم هوهو، وأراد به ما ذكره الشيخ أبو علي، إلاّ أنّه لم تتلخص له العبارة، ألا ترى أنّ من يقول: إنّ الله عالم بعلم، لا يقول إنّ ذلك العلم هو ذاته تعالى.
ولكن الحقّ في باب الصفات هو ما ذهب إليه أبو الهذيل، وعليه مشايخنا الإمامية، أخذاً بالبراهين المشرقة في هذا المجال، واقتداءً بما ورد عن أئمّة أهل البيت سلام الله عليهم أجمعين، وسيوافيك عند استعراض عقائد المعتزلة أنّ أُصولهم مأخوذة من خطب الإمام أمير المؤمنين ـ عليه السَّلام ـ ، وهو إمام علم التوحيد، تُعرف آراؤه العالية من خطبه وكلماته في نهج البلاغة، ونأتي منها بما يمس المقام:
1. «وكمال توحيده الإخلاص له...» الخطبة الأُولى، ص 8، ط مصر، أي تخليصه من كلّ جزء وتركيب.
2. وقال ـ عليه السَّلام ـ : «لا تناله التجزئة والتبعيض» الخطبة 81، ط مصر، ج1، ص 146.
3. وقال ـ عليه السَّلام ـ : «ولا يجري عليه السكون والحركة، وكيف يجري عليه ما هو أجراه، ويعود فيه ما هو أبداه، ويحدث فيه ما هو أحدثه، إذاً لتفاوتت ذاته، ولتجزأ كنهه» الخطبة 181ط مصر ج2 ص 144.
4. وقال ـ عليه السَّلام ـ : «ولا يوصف بشيء من الأجزاء،ولا بالجوارح والأعضاء،ولا بعرض من الأعراض، ولا بالغيرية والإبعاض» الخطبة 181. إلى غير ذلك من الكلمات التي لا مناص معها عن القول باتحاد الصفات مع الذات.
يرى الغزالي والشهرستاني أنّ المعتزلة تبعوا الفلسفة اليونانية في وحدة
________________________________________
(89)
صفاته مع ذاته فقالوا: إنّ الله عالم بذاته، قادر بذاته، حي بذاته،لا بعلم وقدرة وحياة هي صفات قديمة ومعان قائمة به، لأنّه لو شاركته الصفات في القدم الذي هو أخصّ الوصف لشاركته في الإلهية.(1)
يلاحظ عليه: أنّ المعتزلة تبعوا في ذلك إمام علم الكلام ومؤسسه عليّ بن أبي طالب عليمها السَّلام ، فهو رائد الموحدين وسيدهم، فقد استدلّ في خطبته على وحدة صفاته مع الذات بشكل رائع.(2)
وهن نظرية النيابة
إنّ الشيخين(أبا علي وأبا هاشم الجبائيين) لو تأمّلا في واقعية الصفات الكمالية وأنّها من شؤون الوجود لما أكّدا ولا أصرّا على أنّ واقعية الصفة مطلقاً هي القيام بالغير، لأنّه لا يمكن أن تكون الصفة عين الذات، وذلك لأنّ كلّ الكمالات من شؤون الوجود و ترجع حقائقها إليه، والوجود أمر مقول بالتشكيك، فله العرض العريض، فكما أنّ من الوجود ممكناً وواجباً وجوهراً وعرضاً، فهكذا إنّ مرتبة من العلم كيف نفساني قائم بالغير، ومرتبة أُخرى منه واجب قائم بنفسه، ومثله القدرة والحياة، والتفصيل يطلب من محلّه.
تحليل نظرية الزيادة
قد تعرّفت على نظرية الشيخين من أئمّة الاعتزال، كما تعرّفت على نظرية أبي الهذيل، وقد حان الآن وقت دراسة نظرية شيخ الأشاعرة،وهو يخالف كلتا النظريتين ـ النيابة والوحدة ـ و يقول بوجود صفات كمالية زائدة على ذاته مفهوماً و مصداقاً، فلا تعدو صفاته صفات المخلوق إلاّ في القدم والحدوث. ولأجل ذلك يهاجم النظريتين في «الإبانة» و «اللمع» فيقول في رد النظرية ا لأُولى (النيابة):
إنّ الزنادقة قالوا: إنّ الله ليس بعالم، ولا قادر، ولا حي، ولا
________________________________________
1. الملل والنحل للشهرستاني:1/51. 2. لاحظ نهج البلاغة: الخطبة الأُولى، وقد عرفت بعض كلامه في المقام.
________________________________________
(90)
سميع، ولا بصير. وقول من قال من المعتزلة: إنّ لا علم لله ولا قدرة له، معناه: إنّه ليس بعالم ولا قادر. والتفاوت في الصراحة والكناية، فنفي المبادئ حقيقة، يلازم نفي صفاته الثبوتية التي أجمع المسلمون على توصيفه سبحانه بها.
وأمّا الثانية، فردّ عليها بقوله: كيف يمكن أن يقال: إنّ علم الله هو الله. وإلاّ يلزم أن يصحّ أن نقول: يا علم الله اغفر لي وارحمني.(1)
يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ القول بزيادة الصفات ليس من مبتكرات الأشعري، بل تبع هو في ذلك«الكلابية» والتفاوت بينهما بالكناية والتصريح، قال القاضي عبد الجبار:
عند الكلابية أنّه تعالى يستحقّ هذه الصفات لمعان أزلية، وأراد بالأزلي: القديم، إلاّ أنّه لما رأى المسلمين متفقين على أنّه لا قديم مع الله تعالى، لم يتجاسر على إطلاق القول بذلك. ثمّ نبغ الأشعري، وأطلق القول بأنّه تعالى يستحقّ هذه الصفات لمعان قديمة.(2)
ثانياً: ما ناقش به النظرية الأُولى غير كاف فيما ادّعاه ـ أعني: رجوع قولهم إلى نفي كونه سبحانه عالماً ـ لأنّ نفي المبادئ ـ أعني: العلم والقدرة ـ إنّما يستلزم نفي كونه عالماً وقادراً إذا لم تقم الذات مقام الصفات في الأثر والغاية. فلقائل أن يقول: إنّ ما يطلب من العلم والقدرة من إتقان الفعل والقدرة عليه، فالذات بنفسها كافية في تأمين الغاية المطلوبة منها. فإنّ ذاته سبحانه من الكمال على حد، تقوم بنفسها لتأمين كلّ ما يطلب من الصفات، فلا حاجة إليها.
وأضعف منه ما ناقش به النظرية الثانية من أنّ القول بتوحيد صفاته مع ذاته يستلزم جواز أن نقول:يا علم الله اغفر لي، وذلك لأنّ القائل بالوحدة
________________________________________
1. الإبانة: 108. 2. الأُصول الخمسة: 183.
________________________________________
(91)
إنّما يقول بها وجوداً لا مفهوماً، إذ لا شكّ أنّ المفهوم من «الله» غير المفهوم من «العلم» و «القدرة» ومشتقاتهما.
وعلى ذلك فبما أنّ العلم غيره سبحانه مفهوماً، ولكن عينه مصداقاً، لا يصحّ التعبير عن مقام العينية بـ«يا علم الله» بل يجب أن يقول: يا الله، فالتعبير بصورة الإضافة «إضافة العلم إلى الله» دليل على أنّ الداعي يسير في عالم المفاهيم، لا في عالم العين والخارج، وإلاّ كان عليه أن يقول: يا الله.
استدلاله على المغايرة
وممّا يدلّ على أنّ الله عالم بعلم، أنّه سبحانه لا يخلو عن أحد صورتين:1. أن يكون عالماً بنفسه، 2. أو بعلم يستحيل أن يكون هو نفسه.
1. فإن كان عالماً بنفسه كانت نفسه علماً، ويستحيل أن يكون العلم عالماً أو العالم علماً، ومن المعلوم أنّ الله عالم; ومن قال: إنّ علمه نفس ذاته لا يصحّ له أن يقول: إنّه عالم; فإذا بطل هذا الشقّ تعين الشقّ الثاني، وهو أنّه يعلم بعلم يستحيل أن يكون هو نفسه.(1)
لبّ البرهان هو: أنّ واقعية الصفة هي البينونة فيجب أن يكون هناك ذات وعرض، ينتزع من اتّصاف الأُولى بالثاني عنوان العالم والقادر، فالعالم: من له العلم، والقادر من له القدرة، لا من ذاته نفسهما، فيجب أن يفترض ذات غير الوصف.
يلاحظ عليه: أنّ القائل بالوحدة لا يقول بالوحدة المفهومية، أي أنّ ما يفهم من لفظ «الجلالة» فهو نفس ما يفهم من لفظ «العالم» فإنّ ذلك باطل بالبداهة، بل يقصد منه اتحاد واقعية العلم مع واقعية ذاته، وأنّوجوداً واحداً ببساطته ووحدته مصداق لكلا المفهومين، وليس مصداق لفظ الجلالة في الخارج مغايراً لمصداق العلم، وأنّ ساحة الحقّ منزهة عن فقد أية صفة كمالية في مرتبة الذات، بل لوجود البحث البسيط نعوت وأوصاف، كلّها موجودة
________________________________________
1. اللمع: 30.
________________________________________
(92)
بوجود واحد، فتلكالصفات الإلهية متكثّرة بالمعنى والمفهوم، واحدة بالهوية والوجود.
ولا يعني أصحاب نظرية الوحدة تعطيل الذات عن الصفات وخلوّها عن واقعيتها، كما عليه القائل بالنيابة، بل يعنون أنّ وجوداً اوحداً بوحدته وبساطته، من دون تكثّر فيه، هو نفس العلم والقدرة وسائر الكمالات، وربّ وجود يكون من الكمال على حدّ يكون نفس الكشف والعلم، ونفس القدرة والاستطاعة، وهو في الكمال آكد من الوجود الذي يكون العلم والقدرة زائدين عليه.
أضف إلى ذلك: أنّ الشيخ الأشعري لم يتأمّل في مقالة القائل بالوحدة، ولأجله رمى القائل بها بأنّه لا يصحّ له إجراء الصفات على الله، وليس له أن يقول: إنّه عالم. فإنّ الفرق بين القول بالعينية والزيادة، كالفرق بين قولنا: زيد عدل وزيد عادل، فالأُولى من القضيتين آكد في إثبات المبدأ من الآخر، والقول بالعينية آكد من القول بالزيادة، فلو استحقّ الإنسان الواقف على ذاته وماوراءها بعلم زائد، أن يوصف بكونه عالماً، كان الموجود الواقف على الذات والأشياء بعلم هو نفسه وذاته، أولى بالاستحقاق بالتوصيف.
وقد اغترّ الشيخ بظاهر لفظ «عالم» و«قادر» حيث إنّ المتبادر منه هو كون الذات شيئاً والوصف شيئاً آخر. فحكم بإجرائه عليه سبحانه بهذا النمط بلا تغيير ولا تحوير. ومعنى هذا هو أنّ المعارف العليا تقتنص من ظواهر الألفاظ وإن كانت الأدلّة العقلية الواضحة تخالفها وتردّها، فإنّ الألفاظ العامة عاجزة عن تفسير ما هناك من المعارف والمعاني.
مضاعفات القول بالزيادة
إذا كان في القول بعينية الصفات مع الذات نوع مخالفة لظاهر صيغة الفاعل ـ أعني: العالم والقادرـ الظاهرة في الزيادة، كان في القول بالزيادة مضاعفات كبيرة لا يقبلها العقل السليم، ونشير إلى بعضها:
1. تعدّد القدماء بعدد الأوصاف الذاتية. وربما يتمحّل في رفعه بأنّ
________________________________________
(93)
المراد من الزيادة هو أنّها ليست ذاته ولا غير ذاته، ولكنّه كلام صوري ينتهي عند الدقة إلى ارتفاع النقيضين.
والعجب أنّ الأشعري في موضع من كتابه «اللمع» ينفي غيرية الصفات للذات حتى لا يلزمه القول بتعدّد القدماء. لكنّه يفسر الغيرية بالصفات المفارقة، ويقول: إنّ معنى الغيرية جواز مفارقة أحد الشيئين للآخر على وجه من الوجوه، فلمّا دلّت الدلالة على قدم الباري تعالى وعلمه وقدرته، استحال أن يكونا غيرين.
وغير خفي على القارئ النبيه أنّ الزيادة المستلزمة لتعدّد القدماء كما تتحقّق في مفارقة الصفات كذلك تتحقّق في ملازمتها، فالقول بعدم الوحدة يستلزم تعدّد القدماء، وإن كانت الصفات لازمة.
إنّ القول بأنّ له سبحانه صفات زائدة على الذات قديمة مثله ممّا لا يجترئ عليه مسلم واع، ولم يكن أحد متفوّهاً بهذا الشرك من المسلمين غير الكلابية،وعنهم أخذ الأشعري. قال القاضي عبد الجبار:
وعند الكلابية أنّه تعالى يستحقّ هذه الصفات لمعان أزلية، وأراد بالأزلي: القديم; إلاّ أنّه لماّ رأى المسلمين متّفقين على أنّه لا قديم مع الله تعالى لم يتجاسر على إطلاق القول بذلك، ثمّ نبغ الأشعري وأطلق القول بأنّه تعالى يستحقّ هذه الصفات لمعان قديمة، لوقاحته وقلّة مبالاته بالإسلام والمسلمين.(1)
2. إنّ القول باتّحاد صفاته مع ذاته، يستلزم غناه في العلم بما وراء ذاته، عن غيره، فيعلم بذاته كلّ الأشياء من دون حاجة إلى الغير. وهذا بخلاف القول بالزيادة، إذ عليه: يعلم سبحانه بعلم سوى ذاته ويخلق بقدرة خارجة عن ذاته. وكون هذه الصفات أزلية لا يدفع الفقر والحاجة عن ساحته، مع أنّ وجوب الوجود يقتضي الاستغناء عن كلّ شيء.
وأمّا الاستدلال على الزيادة بظواهر بعض الآيات، كقوله سبحانه:
________________________________________
1. الأُصول الخمسة:183. وقد تقدّم ملخّصاً فلاحظ.
________________________________________
(94)
(أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) (1)، وقوله سبحانه: (وَماتَحْمِلُ منْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاّ بِعِلْمِهِ)(2)فضعيف جدّاً، إذ لا دلالة لهما على الزيادة ولا على العينية، وإنّما تدلّ على أنّ له سبحانه علماً.
وأمّا الكيفية فتطلب من مجال آخر.
وفي الختام نقول: إنّ «الصفاتية» في علم الكلام وتاريخ العقائد هم الأشاعرة ومن لفّ لفّهم في القول بالأوصاف الزائدة. كما أنّ المعطّلة هم نفاتها، حيث عطّلوا الذات عن التوصيف بالأوصاف الكمالية، وقالوا بالنيابة.
وقد عرفت الحقّ، وليس في القول بالوحدة (لا القول بالنيابة) أيّ تعطيل لتوصيف الذات بالصفات الكمالية.
وعلى أيّ تقدير، فقد صارت زيادة الصفات مذهباً لأهل السنّة قاطبة، وصدر في بغداد كتاب سمي «الاعتقاد القادري»و ذلك في 17 محرم سنة 409هـ و قرئ في الدواوين وكتب الفقهاء فيه: «إنّ هذا اعتقاد المسلمين،ومن خالفهم فقد فسق وكفر» جاء في الكتاب: «وهو القادر بقدرة، والعالم بعلم أزلي غير مستفاد، وهو السميع بسمع،والمبصر ببصر، متكلم بكلام، لا يوصف إلاّ بما وصفه به نبيّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ وكلّ صفة وصف بها نفسه، أووصفه بها رسول فهي صفة حقيقية لا مجازية، وإنّ كلام الله غير مخلوق، تكلّم به تكليماً فهو غير مخلوق بكلّ حال متلوّاً ومحفوظاً ومكتوباً ومسموعاً، ومن قال: إنّه مخلوق على حال من الأحوال فهو كافر، حلال الدم بعد الاستتابة منه».(3)
وربما تطلق«الصفاتية» على من يصفه سبحانه بالأوصاف الخبرية (مع التشبيه أو مع التنزيه) في مقابل التفويض أو التأويل، وهذا هو الذي نبحث عنه في البحث التالي.
________________________________________
1. النساء:166. 2. فاطر:11. 3. المنتظم: 195ـ 196; البداية والنهاية :12/6ـ7; هامش تاريخ ابن الأثير:7/299ـ 302 .
 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية