القرآن وخلق الأفعال

البريد الإلكتروني طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 2 ، ص 158 ـ  168
________________________________________
(158)
القرآن وخلق الأفعال
استدلّ الشيخ الأشعري على ما يتبنّاه من كون أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه بالأدلّة العقلية تارة، والنقلية أُخرى.
أمّا الأُولى فقد مضت مع ما علّقنا عليها من الملاحظات،وأمّا الثانية فقد استدلّ عليها في كتاب «الإبانة» بآيتين:
الأُولى: قوله سبحانه: (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ* وَالله خَلَقَكُمْ وَماتَعْمَلُونَ).(1)
الثانية: قوله سبحانه: (هَلْ مِنْ خالِق غَيْرُ الله يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الأَرْضِ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ فَأَنّى تُؤْفَكُونَ) .(2)
________________________________________
1. الصافات:95ـ 96. 2. فاطر:3.
________________________________________
(159)
يلاحظ على الاستدلال بالآية الأُولى بأُمور:
أوّلا:
أنّ الاستدلال مبني على كون «ما» في قوله سبحانه (وما تعملون)مصدرية،وأنّ معنى الآية: والله خلقكم وعملكم،وليست بموصولة حتى يكون معنى الآية والله خلقكم وخلق الذي تعملونه من الأصنام، كقوله سبحانه: (بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمواتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ).(1)
ولكن الظاهر من الآية هو الثاني لا الأوّل، بقرينة قوله: (أَتعبُدون ماتَنحِتُون)وهي فيها موصولة بلا إشكال،فتكون قرينة على المراد في الآية الثانية، إذ ليس «ماتعملون»إلاّ ترجمة لقوله «ما تنحتون» ولا يصار إلى التفكيك إلاّ بدليل قاطع.
وإنّما ذهب من ذهب إلى أنّ «ما» مصدرية، وأنّ المراد «عملكم» لأجل رأي مسبق ومحاولة يطلب الدليل عليها، ولولاها لما قال به.
فعلى المختار يكون معنى الآية: أتعبدون الأصنام التي تنحتونها والله خلقكم أيّها العبدة والأصنام التي تعملونها، وبذلك يكون الربط بين الآيتين محفوظاً، بخلافه على القول الآخر.
إذ عليه تفقد الآية الثانية صلتها بالأُولى،ويكون مفاد الآيتين: أتعبدون الأصنام التي تنحتون،والله خلقكم وأعمالكم وأفعالكم، وإن لم يكن للعمل صلة بعبادة ما ينحتوته.
ثانياً: إنّ الخليل ـ عليه السَّلام ـ عندما أدلى بمفاد الآيتين كان في مقام الاحتجاج على عبدة الأصنام، ولا يصحّ الاحتجاج إلاّ باتّخاذ«ما» موصولة كناية عن الأصنام المنحوتة، فكأنّه قال: «إنّ العابد والمعبود مخلوقان لله، فكيف يعبد المخلوق مخلوقاً مثله؟» على أنّ العابد هو الذي عمل صورته وشكله، ولولاه لما قدر أن يصوّر نفسه ويشكلها. ولكن لو كان مفاد الآية: «والله خلقكم وخلق عملكم» لم يصحّ الاحتجاج به على العبدة ولم ينطبق على المقام.
________________________________________
1. الأنبياء:56.
________________________________________
(160)
ثالثاً: لو كانت مصدرية لتمّت الحجة صالح الخليل ولانقلبت عليه. إذا عندئذ ينفتح لهم باب العذر، بحجّة أنّه لو كان هو الخالق لأعمالنا فلا جهة للتوبيخ والتنديد.
كلّ هذه الوجوه توضح أنّ المراد: أنّ الله خلق الإنسان وخلق الأصنام التي يعملها الإنسان، أي يصوّرها ويشكلها. وعندئذ لا صلة له بما يدّعيه الأشعري.
أمّا الآية الثانية فلا شكّ أنّها صريحة في حصر الخالقية بالله سبحانه وكم لها من نظير في القرآن. قال سبحانه:(قُلِ الله خالِقُ كُلُّ شَيء وَهُوَ الواحِدُ القَهّار)(1)وقال عزّ من قائل:(اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيء وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْء وَكيل) (2) وقال تعالى:(ذلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيء لا إِلهَ إِلاّ هُوَ) (3) إلى غير ذلك من الآيات الصريحة في قصر الخالقية على الله.(4)
غير أنّ الذي يهم القارئ الكريم هو الوقوف على ما تهدف إليه الآيات، فإنّ لهذا القسم من الآيات احتمالين لا يتعيّن أي منهما إلاّ باعتضاده بالآيات الأُخرى،ودونك الاحتمالين:
الأوّل: حصر الخلق والإيجاد على الإطلاق بالله سبحانه،وأنّه ليس في صفحة الوجود مؤثر وموجد وخالق إلاّ الله سبحانه، وأمّا غيره فليس بمؤثر ولا خالق، لا على وجه الاستقلال ولا على وجه التبعية، وعلى ذلك فما ترى من الآثار للظواهر الطبيعية فكلّها مفاضة منه سبحانه مباشرة، من دون أن يكون هناك رابطة بين الظاهرة المادية وآثارها، فالنار بمعنى أنّه جرت سنّة الله سبحانه على أن يوجد الحرارة عند وجود النار مباشرة، من دون أن يكون هناك رابطة سببية ومسببية بينها و بين أثرها، وكذلك الشمس مضيئة والقمر منير، بمعنى أنّه جرت عادة الله سبحانه على إيجاد الضوء والنور مباشرة، عقيب وجود الشمس
________________________________________
1. الرعد:16. 2. الزمر:62. 3. غافر:62. 4. لاحظ: الأنعام101ـ 102; الحشر:24; الأعراف: 54.
________________________________________
(161)
والقمر، من دون أن يكون هناك نظام وقانون تكويني باسم العلية والمعلولية، ويكون صلتهما بالشمس والقمر كصلتهما بغيرهما. وعلى ذلك فليس في صفحة الكون إلاّ علّة واحدة ومؤثر فارد يؤثر بقدرته وسلطانه في كلّ الأشياء، من دون أن يجري قدرته ويظهر سلطانه عن طريق الأسباب والمسببات. فهو سبحانه بنفسه، قائم مقام جميع العلل والأسباب التي كشف عنها العلم طيلة قرون.
هذا ما يتبنّاه الأشعري وأتباعه ناسبين إيّاه إلى أهل السنّة والجماعة عامّة، وكانت الأكثرية الساحقة من المسلمين لا يقيمون للعلل الطبيعية والأبحاث العلمية وزناً. فعامل الحمى في المريض هو الله سبحانه، وليس للجراثيم دور في ظهورها فيه. ومثله سائر الظواهر الطبيعية من نمو الأشجار، وتفتح الأزهار، وغناء الطيور، وجريان السيول، وحركة الرياح، وهطول الأمطار، وغير ذلك. فالكلّ مخلوق له سبحانه بلا واسطةوبلا تسبيب من الأسباب.
ولكن هذا المعنى محجوج بنفس القرآن الكريم، مضافاً إلى أنّ الأدلة العقلية والعلمية لا توافقه أبداً، ونكتفي بالقليل من الكثير من الآيات الكافية لإبطال هذه النظرية.
إنّ الآيات القرآنية تعترف بوضوح بقانون العلية والمعلولية بين الظواهر الطبيعية، وتسند الآثار إلى موضوعاتها ـ و في الوقت نفسه تسندها إلى الله سبحانه ـ حتى لا يغتر القارئ بأنّ آثار الموضوعات متحقّقة من تلقاء نفسها.
قال سبحانه:(وَأَنزَلَ مِنَ السَّماءِماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزقاً لَكُمْ).(1)
وقال عزّ من قائل: (أَوَ لَمْ يَرَوا أَنّا نَسُوقُ الماءَ إِلى الأَرْضِ الجُرُزِ فَنُخْرِجُ بهِِ زَرعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ) .(2)
فالكتاب العزيز يصرّح في هاتين الآيتين بجلاء بتأثير الماء في الزرع، إذ إنّ الباء في «به» في الموردين بمعنى السببية،وأوضح منهما قوله سبحانه: (وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنّاتٌ مِنْ أَعْناب وَزَرْعٌ وَنَخيلٌ صِنْوانٌ)
________________________________________
1. البقرة:22. 2. السجدة:27.
________________________________________
(162)
وَغَيْرُ صِنْوان يُسقَى بِماء واحِد وَنُفَضِّلُ بَعْضَها على بَعْض في الأُكُلِ إِنَّ في ذلِكَ لآيات لِقَوم يَعْقِلُونَ)(1). فإنّ جملة (يسقى بماء واحد) كاشفة عن دور الماء وتأثيره في إنبات النباتات ونمو الأشجار، ومع ذلك يتفضّل بعض الثمار على بعض.
ومن أمعن النظر في القرآن الكريم يقف على أنّه كيف يبيّن المقدّمات الطبيعية لنزول الثلج والمطر من السماء، من قبل أن يعرفها العلم الحديث، ويطّلع عليها بالوسائل التي يستخدمها لدراسة الظواهر الطبيعية واكتشاف عللها ومقدّماتها، يتضح ذلك بدراسة الآيتين التاليتين:
1. (اللّهُ الّذي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فِإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ).(2)
فقوله سبحانه: (فتثير سحاباً) صريح في أنّ الرياح تحرّك السحاب وتسوقه من جانب إلى جانب آخر، والإمعان في مجموع جمل الآية يهدينا إلى نظرية القرآن في تأثير العلل الطبيعية بإذن الله تعالى. فقد جاء في هذه الآية الأُمور التالية ناسباً بعض الأُمور إلى الظواهر الطبيعية، وبعضها الآخر إلى الله سبحانه:
1. تأثير الرياح في نزول المطر.
2.تأثير الرياح في تحريك السحب.
3. الله سبحانه يبسط السحاب في السماء.
4. تجمع السحب بعد هذه الأُمور على شكلّ قطع متراكمة مقدمة لنزول المطر من خلالها.
فالناظر في هذه الآية، والآية الثانية يذعن بأنّ نزول المطر من السماء إلى
________________________________________
1. الرعد:4. 2. الروم:48.
________________________________________
(163)
الأرض رهن بأسباب وعلل ومؤثرات بإذن الله سبحانه، فلهذه العلل دور في حدوث الظاهرة(المطر) كما أنّه له سبحانه و تعالى دوراً وراء هذه الأسباب وهي جنوده والأسباب التي خلقها وأعطى لها السببية، مظاهر قدرته ومجالي إرادته.
2.(أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزجي سَحاباً ثُمَّ يُؤلّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَترى الوَدْقَ يَخرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبال فِيها مِنْ بَرَد فَيُصيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بالأَبْصارِ).(1)
فالآية الأُولى تسند حركة السحاب إلى الرياح وتقول: (فتثير سحاباً)وهذه الآية تسندها إلى الله سبحانه وتقول: (أنّ الله يزجي سحاباً) وما هذا إلاّ لأنّ الرياح جند من جنوده، وسبب من أسبابه التي تعلقّت مشيئته على إنزال الفيض عن طريقها،وفعلها فعله، والكلّ قائم به قيام الممكن بالواجب، كقيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي.
وليست الآيات الدالة على توسيط الأسباب والعلل في تكون الأشياء وتحقّقها منحصرة بما ذكرناه. بل هناك آيات كثيرة نأتي بالنزر اليسير من الكثير المتوفر.
3. (وَتَرَى الأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْها الماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوج بَهيج) .(2)
فالآية تصرح بتأثير الماء في اهتزاز الأرض وربوتها، ثمّ تصرح بأنّ الأرض تنبت من كلّ زوج بهيج.
وبعبارة أُخرى : الآية تصرح بوجود الرابطة الطبيعية بين نزول الماء على الأرض واهتزازها وربوتها وانتفاخها ، ولولا تلك الرابطة لما صحّ جعل الاهتزاز والربوة جزاءً لنزول الماء. وحمل قوله تعالى «وأنبتت» على المجاز، وجعل الأرض ظرفاً للإنبات فقط قائلاً بأنّ الله هو المنبت بلا توسيط الأسباب، تأويل بلا وجه ولا يساعده ظاهر اللفظ، بل هو ظاهر في أنّ الإنبات فعل للأرض
________________________________________
1. النور:43. 2. الحج:5.
________________________________________
(164)
بضميمة عوامل وأسباب شتى، والكل يعمل لا استقلالاً بل بإذنه ومشيئته سبحانه.
4. (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ في سَبيل اللّهِ كَمَثَلِ حَبّة أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ في كُلِّ سُنْبُلَة مائة حَبّة وَاللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللّه واسِعٌ عَليمٌ) .(1)
فالآية تسند إلى الحب، إنبات سبع سنابل،و حمله على المجاز ـ بتصور أنّ الحبّ ظرف، ومحل لفعله سبحانه ـ تأويل لأجل رأي مسبق من غير دليل.
فالله سبحانه يسند الإنبات في هذه الآيات إلى الأرض والحبة، ولكنّه ـ في الوقت نفسه ـ يسند نفس ذلك الفعل إلى ذاته و يقول:
(وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنَا بهِِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَة ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها ءَ إِلهٌ مَعَ اللّهِ بَلْ هُمْ قَومٌ يَعْدِلُونَ).(2)
ويقول سبحانه:(وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوج كَريم) .(3)
ولا تعارض ولا اختلاف بين الآيات في جميع هذه المجالات، إذ الفعل فعل الله سبحانه بما أنّه منشىء الكون وموجده ومسبب الأسباب ومكوّنها،كما هو فعل السبب لصلة بينه و بين آثاره. والأسباب والعلل على مراتبها مخلوقات لله مؤثرات بإذنه.
5. (خَلَقَ السَّمواتِ بِغَيْرِ عَمَد تَرَونَها وَأَلْقى فِي الأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَميدَ بِكُمْ) (4). أي جعل على ظهر الأرض ثوابت الجبال لئلا تضطرب بكم. فقد نسب صيانة الإنسان عن الاضطراب إلى نفسه، حيث قال: (وَأَلقى) وإلى سببه حيث قال:(رواسي أن تميد) والكل يهدف إلى أمر واحد، وهو الذي ورد في الآية التالية ويقول: (هذا خَلْقُ الله فَأَرُوني ما ذا خَلَقَ الَّذينَ مِنْ)
________________________________________
1. البقرة:261. 2. النمل:60. 3. لقمان:10. 4. لقمان:10.
________________________________________
(165)
دُونِهِ بَلِ الظّالِمُونَ في ضَلال مُبين)(1)، أي هذا الذي تشاهدونه في السماء والأرض وما بينهما من الأسباب والمسببات جميعه مخلوق لله، والأسباب جنوده، والآثار آثار للسبب والمسبب(بالكسر)، كلّ على جهة خاصة.
فمن وقف على مجموعة كبيرة من الآيات في هذا المجال لم يشك في أنّ القرآن يعترف بقانون السببية بين الأشياء وآثارها، وإنهاء كلّ الكون إلى ذاته تبارك و تعالى. فلا يصحّ عندئذ حصرُ الخالقية والعلّية المطلقة، الأعم من الأصلي والتبعي في الله سبحانه، وتصوير غيره من الأسباب أُموراً عاطلة غير مفيدة لشيء يتوقّع منها.
إلى هنا تبيّن عدم صحّة ما عليه الأشاعرة وأهل الحديث من حصر الخالقية في الله بالمعنى الذي يتبنّونه.
نعم هناك معنى آخر لحصر الخالقية في الله سبحانه و نفيه عن غيره بالمعنى الذي يناسب شأنه، وهذا هو الذي يثبته العقل، ويصرح به القرآن، وتؤيّده الأبحاث العلمية في جميع الحضارات،وهذا هو الذي نبيّنه في المعنى الثاني لحصر الخالقية.
الثاني(2): إنّ الخالقية المستقلة النابعة من الذات، غير المعتمدة على شيء منحصرة بالله سبحانه، ولكن غيره يقوم بأمر الخلق والإيجاد بتقديرة وقضائه، وتسبيبه ومشيئته،ويعدّ الكلّ جنوداً لله سبحانه يعملون بأمره، وإليك توضيح ذلك:
لا يشكّ المتأمل في الذكر الحكيم في أنّه كثيراً ما يسند آثاراً إلى الموضوعات الخارجية والأشياء الواقعة في دار الوجود، كالسماء وكواكبها ونجومها، والأرض وجبالها، وبحرها وبرها، وعناصرها ومعادنها، والسحب والرعد والبرق والصواعق،والماء والنجم والشجر، والحيوان والإنسان، إلى غير ذلك من الأشياء الواردة في القرآن الكريم. فمن أنكر
________________________________________
1. لقمان:11. 2. تقدّم المعنى الأوّل في ص 160.
________________________________________
(166)
إسناد القرآن آثار هذه الأشياء إلى نفسها، فإنّما ينكره باللسان وقلبه معتقد بخلافه، وقد ذكرنا نزراً يسيراً من هذه الآيات، خصوصاً ما يرجع منها إلى نزول المطر من السماء إلى الأرض، فلا يصحّ لأحد أن ينكر دور تفاعلات المادة وانفعالاتها في الجو في نزوله. هذا من جانب.
ومن جانب آخر، إنّ القرآن يسند إلى الإنسان أفعالاً لا تقوم إلاّ به، ولا يصحّ إسناده إلى الله سبحانه بلا واسطة، وبلا مباشرة الإنسان، كأكله وشربه ومشيه وقعوده ونموه وفهمه،وشعوره وسروره. فهذه أفعال قائمة بالإنسان مستندة إليه، فهو الذي يأكل ويشرب، وينمو ويفهم.
ومن جانب ثالث: إنّ الله سبحانه يأمره أمر إلزام،وينهاه نهي تحريم،فيجزيه بالطاعة،ويعاقبه بالمعصية، فلولا أنّ للإنسان دوراً في ذلك المجال وتأثيراً في الطاعة والعصيان، فما هي الغاية من الأمر والنهي، وما معنى الجزاء والعقوبة;!
فهذه الآيات إذا قورنت إلى قوله سبحانه: (قُلِ الله خالِقُ كُلّ شَيْء وَهُوَ الْواحِدُ القَهّار)(1) الذي يدلّ على بسط فاعليته وعلّيته على كلّ شيء، يستنتج منه أنّ النظام الإمكاني على اختلاف هوياته وأنواعه، فعّال بأفعاله، مؤثر في آثاره بتنفيذ من الله سبحانه، وتقدير منه، وهو القائل سبحانه: (الّذي أَعْطى كُلّ شَيْء خَلَقَهُ ثُمَّ هَدى)(2) وقال تعالى :(وَالّذِي قَدَّرَ فَهَدى) (3)وفي الوقت نفسه تنتهي وجودات هذه الأشياء وأعمالها وآثارها وحركاتها وسكناتها إلى قضائه وتقديره وهدايته.
فعلى هذا،فالأشياء في جواهرها وذواتها، وحدود وجودها وخصوصياتها تنتهي إلى الخلقة الإلهية، كما أنّ أفعالها التي تصدر عنها في ظل الخصوصيات، تنتهي إليه أيضاً، وليس العالم ومجموع الكون إلاّ مجموعة متوحدة يتصل بعضها ببعض، ويتلاءم بعضها مع بعض، ويؤثر بعضها في بعض، والله سبحانه وراء
________________________________________
1. الرعد:16. 2. طه:50. 3. الأعلى:3.
________________________________________
(167)
هذا النظام ومعه وبعده، لا خالق ولا مدبر حقيقة وبالأصالة إلاّ هو، كما لا حول ولا قوّة إلاّ بالله.
اختلاف الأشياء في قبول الوجود
يقول صدر المتألّهين:«إنّ الأشياء في قبول الوجود من المبدأ متفاوتة، فبعضها لا يقبل الوجود إلاّ بعد وجود الآخر، كالعرض الذي لا يمكن وجوده إلاّ بعد وجود الجوهر، فقدرته على غاية الكمال، يفيض الوجود على الممكنات على ترتيب ونظام، بعضها صادرة عنه بلا سبب، وبعضها بسبب واحد أو أسباب كثيرة، فلا يدخل مثل ذلك في الوجود إلاّ بعد سبق أُمور هي أسباب وجوده،وهو مسبب الأسباب من غير سبب، وليس ذلك لنقصان في القدرة، بل لنقصان في القابلية،وعدم قبوله الوجود إلاّ في طريق الأسباب، وإذا أردت التمثيل وتبيين نسبة أفعالنا إلى الله سبحانه فعليك بالكتاب النفسي،والتأمّل في الأفعال الصادرة عن قواها، فقد خلقها الله تعالى مثالاً ذاتاً وصفة وفعلاً، لذاته وصفاته وأفعاله، واتل قوله تعالى: (وَفي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ)(1) وقول رسول الله ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ في «من عرف نفسه فقد عرف ربّه» فإنّ فعل كلّ حاسة وقوة من حيث هو فعل تلك القوة، هو فعل النفس أيضاً، إذ الإبصار مثلاً فعل الباصرة. لأنّه إحضار الصورة المبصرة أو انفعال البصر بها، وكذلك السماع مثل السمع لأنّه إحضار الهيئة المسموعة، أو انفعال السمع بها، فلا يمكن شيء منهما إلاّ بانفعال جسماني، وفي الوقت نفسه هما فعل النفس بلا شكّ لأنّها السميعة البصيرة بالحقيقة، وذلك لا بمعنى أنّ النفس تستخدم القوى كما يستخدم كاتب أو نقاش، فإنّ مستخدم البناء لا يلزم أن يكون بناءً، ومستخدم الكاتب لا يلزم كونه كاتباً، مع أنّا إذا راجعنا وجداننا نجد نفوسنا، هي بعينها المدركة والبصيرة والسميعةوهكذا الا(2)مر في سائر القوى».
________________________________________
1. الذاريات:21. 2. الأسفار:6/377ـ 378.
________________________________________
(168)
وإلى ذلك يشير في الحديث القدسي: «يابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك،وبقوتي أدّيت إليّ فرائضي، وبنعمتي قويت على معصيتي،جعلتك سميعاً بصيراً قوياً».(1)
________________________________________
1. البحار:5/57.
 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية