استدلاله على وجود الصانع سبحانه

البريد الإلكتروني طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 2 ، ص65 ـ  67
________________________________________
(65)
(1)
استدلاله على وجود الصانع سبحانه

قال: الدليل على ذلك أنّ الإنسان الذي هو في غاية الكمال والتمام، كان نطفة، ثمّ علقة، ثم مضغة، ثم لحماً، ودماً، وعظماً، وقد علمنا أنّه لم ينقل نفسه من حال إلى حال، لأنّا نراه ـ في حال كمال قوته وتمام عقله ـ لا يقدر أن يحدث لنفسه سمعاً ولا بصراً، ولا أن يخلق لنفسه جارحة، يدل ذلك على أنّه في حال ضعفه ونقصانه عن فعل ذلك أعجز، ورأيناه طفلاً ثمّ شاباً ثم كهلاً ثمّ شيخاً، وقد علمنا أنّه لم ينقل نفسه من حال الشباب إلى حال الكبر والهرم، لأنّ الإنسان لو جهد أن يزيل عن نفسه الكبر والهرم ويردّها إلى حال الشباب لم يمكنه ذلك، فدلّ ما وصفناه على أنّه ليس هو الذي ينقل نفسه في هذه الأحوال، وأنّ له ناقلاً نقله من حال إلى حال ودبره على ما هو عليه، لأنّه لا يجوز انتقاله من حال إلى حال بغير ناقل ولا مدبر.
ثمّ مثل لذلك بتحوّل القُطن إلى الغزل، إلى الفتل، إلى الثوب، فكما هو يحتاج إلى ناسج فكذلك الإنسان، فلو دلّ ذلك على وجوده، كان تحوّل النطفة علقة ثمّ مضغة ثمّ لحماً ودماً وعظماً أعظم في الأعجوبة، وكان أولى أن يدلّ على صانع صنع النطفة ونقلها من حال إلى حال، وقد قال الله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ) *ءَأَنْتُمْ تُخْلُفُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ))(1). وقال سبحانه: (وَفي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ)(2) فبيّن لهم عجزهم وفقرهم إلى صانع
________________________________________
1. الواقعة:58ـ 59. 2. الذاريات:21.
________________________________________
(66)
صنعهم ومدبر دبرهم.(1)
يلاحظ على هذا الدليل:
أوّلاً:
أنّ الاستدلال المذكور استدلال عقلي بحت، ومعتمد على أصل فلسفي وهو حاجة الممكن إلى العلة، أو حاجة الحادث إلى السبب.
وبعبارة أُخرى: معتمد على قبول قانون العلية. وهذا النوع من التفكير يختص بالمتكلّمين. ولا نرى مثله بين أهل الحديث. وهذا دليل على أنّ الشيخ يسير على ضوء العقل، والاستدلال به ما أمكن.
ثانياً: أنّ صلب البرهان في البيان الأوّل يرجع إلى أنّ فاقد الكمال لا يعطيه، فالإنسان إذا عجز عن إحداث السمع والبصر في حال القدرة، فهو في حال العجز أولى.
وقد أفرغ أمير المؤمنين هذا البرهان في بعض خطبه، في جمل في غاية الفصاحة فقال:«أم هذا الذي أنشأه في ظلمات الأرحام، وشغف الأستار، نطفة دهاقاً، وعلقة محاقاً، وجنيناً وراضعاً، ووليداً ويافعاً، ثمّ منحه قلباً حافظاً، ولساناً لافظاً، وبصراً لاحظاً، ليفهم معتبراً ويقصر مزدجراً».(2)
ثالثاً: أنّ ما استعرض الشيخ من الآيتين إنّما هو من الشواهد الواضحة على أنّ القرآن يعتمد في بيان الأُصول والمعارف على الأدلة العقليّة والبراهين الواضحة، من أجل إقناع عامة البشر، مؤمناً كان أم كافراً، ولا يكتفي بالتعبّد، فإنّ للتكلّم مع البرهان مكاناً، وللتعبّد مكاناً آخر، فما لم تستقر شجرة الإيمان في قلب الإنسان، لا تصح مشافهته إلاّبما يوحيه إليه عقله وتقضي به فطرته، فإذا صار مؤمناً معتقداً بربه وبرسوله ورسالته ووحيه، يبلغ إلى مرحلة يصحّ معها التكلّم معه بصورة التعبّد وإلقاء الأُصول والوظائف مجردة عن البرهنة.
ثمّ إنّ الشيخ في أثناء تقرير البرهان جاء بأمر غير تام، فاستدلّ على أنّ
________________________________________
1. اللمع: 18. 2. نهج البلاغة:1/140، الخطبة80، ط مصر.
________________________________________
(67)
هناك ناقلاً ومدبراً غير الإنسان بقوله: «إن الإنسان لوجهد أن يزيل عن نفسه الكبر لم يمكنه ذلك» وجعل هذا دليلاً على أنّه لم ينقل نفسه من حال الشباب إلى حال الكبر، ولكن الملازمة غير ثابتة، إذ لمشكّك أن يقول: إنّه قادر على نقل نفسه من الشباب إلى الهرم، ولكنّه غير قادر على العكس، ولا ملازمة بين القدرة على القضية الأُولى والقدرة على القضية الثانية، فالإنسان الضعيف قادر على قذف الجسم الثقيل من السطح إلى الأرض، وليس بقادر على رفعه منها إليه، وقس على ذلك الأمثلة الأُخرى .
 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية