رؤية الله بالأبصار

البريد الإلكتروني طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 2 ، ص 191 ـ  240
________________________________________
(191)
(12)
رؤية الله بالأبصار

إنّ رؤية الله تعالى في الآخرة ممّا اهتم الأشعري بإثباته اهتماماً بالغاً في كتابيه: «الإبانة» و «اللمع» وركز عليها في الأوّل من ناحية السمع، وفي الثاني من ناحية العقل.
قال في «الإبانة»: و ندين بأنّ الله تعالى يُرى في الآخرة بالأبصار كما يرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون، كما جاءت الروايات عن رسول الله.(1)
وقال في «اللمع»: إن قال قائل: لم قلتم إنّ رؤية الله بالأبصار جائزة من باب القياس؟
قيل له: قلنا ذلك لأنّ ما لا يجوز أن يوصف به الله تعالى ويستحيل عليه، لا يلزم في القول بجوازالرؤية.
(2)
ولإيقاف القارئ على حقيقة الحال نبحث عن الأُمور التالية:
1.سرد الأقوال وتعيين محلّ النزاع.
2. دليل القائلين بجواز الرؤية من العقل.
3. دليل القائلين بالجواز من القرآن.
4. دليل القائلين بالجواز من السنّة.
________________________________________
1. الإبانة: 21. 2. اللمع: 61 بلتخيص.
________________________________________
(192)
5. استدلال المنكرين بالعقل.
6. استدلال المنكرين بالسمع.

الأمر الأوّل: في نقل الآراء حول الرؤية
المشهور بين أهل الحديث، وصرح به إمامهم أحمد بن حنبل، هو القول بجواز الرؤية في الآخرة، قال: والأحاديث في أيدي أهل العلم عن النبي: أنّ أهل الجنّة يرون ربّهم، لا يختلف فيها أهل العلم فينظرون إلى الله.(1)
وقال الأشعري في بيان عقائد أهل الحديث والسنّة: يقولون إنّ الله سبحانه يرى بالأبصار يوم القيامة كما يُرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون، لا يراه الكافرون لأنّهم عن الله محجوبون، قال الله تعالى: (كَلاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَومَئِذ لَمَحْجُوبُون) وإنّ موسى سأل الله سبحانه الرؤية في الدنيا، وإنّ الله سبحانه تجلّى للجبل فجعله دكّاً، فأعلمه بذلك أنّه لا يراه في الدنيا، بل يراه في الآخرة.(2)
ولكن الظاهر من الآمدي أنّ القائلين بالجواز لا يخصونه بالآخرة بل يقولون بجوازها في الدنيا أيضاً، وإنّما اختلفوا في أنّه هل ورد دليل سمعي على جوازها في الدنيا أو لاً، بعد ما اتّفقوا على وروده في الآخرة، قال: «اجتمعت الأئمة من أصحابنا على رؤية الله تعالى في الدنيا والآخرة جائزة عقلاً، واختلفوا في جوازها سمعاً، فأثبته بعضهم ونفاه آخرون».(3)
وعلى كلّ تقدير فقد نقل الأشعري في مقالات الإسلاميين أقوالاً كثيرة حول الرؤية لا يستحقّ أكثرها أن يذكر، ونشير إلى بعضها إجمالاً:
إنّ جماعة يقولون: يجوز أن نرى الله بالأبصار في الدنيا، ولسنا ننكر أن يكون بعض من نلقاه في الطرقات.
________________________________________
1. الرد على الزنادقة: 29. 2. مقالات الإسلاميين: 322. 3. شرح المواقف: 8/115.
________________________________________
(193)
وأجاز عليه بعضهم في الأجسام، وأصحاب الحلول إذا رأوا إنساناً يستحسنونه لم يدروا لعلّ آلهتهم فيه.
وأجاز كثير ممّن جوّز رؤيته في الدنيا، مصافحته وملامسته ومزاورته إيّاه، وقالوا إنّ المخلصين يعانقونه في الدنيا والآخرة إذا أرادوا ذلك، حكي ذلك عن بعض أصحاب «مظهر» و «كهمس».
وقال «ضرار» و «حفص الفرد»: إنّ الله لا يُرى بالأبصار، ولكن يخلق لنا يوم القيامة حاسة سادسة، غير حواسنا فندركه بها.(1)
يقول ابن حزم: إنّ الرؤية السعيدة ليست بالقوة الموضوعة في العين، بل بقوة أُخرى موهوبة من الله.(2)
هذه هي بعض الأقوال المطروحة في المسألة من جانب بعض أهل الحديث، وليس ذلك بعجيب من أهل التجسيم، وإنّما العجب ممّن يتجنب التجسيم ويعد نفسه من أهل التنزيه والبراءة من التشبيه، ويقول ـ مع ذلك ـ بالرؤية، كالأشاعرة عامة.
ولأجل ذلك ذهبت المعتزلة والإمامية والزيدية إلى امتناع رؤيته سبحانه في الدنيا والآخرة، وقالوا بأنّ القول لا يفارق التجسيم والتشبيه، كما ستقف عليه عند سرد براهينهم إن شاء الله.
أهل الكتاب ومسألة الرؤية
وقد يدين بالرؤية أهل الكتاب قبل أهل الحديث والأشاعرة، ووردت رؤيته في العهد القديم،وإليك مقتطفات منها:
1. «رأيت السيد جالساً على كرسي عال. فقلت: ويل لي لأنّ عينيّ قد رأتا الملك رب الجنود»(أشعيا ج6 ص 1ـ6). والمقصود من السيد هو الله جلّ ذكره.
________________________________________
1. مقالات الإسلامين: 261ـ 265و 314. 2. الفصل:3/2.
________________________________________
(194)
2.«كنت أرى أنّه وضعت عروش وجلس القديم الأيام، لباسه أبيض كالثلج، وشعر رأسه كالصوف النقي وعرشه لهيب نار»(دانيال 7:9).
3. «أما أنا فبالبر أنظر وجهك»(مزامير داود:17:15).
4. «فقال منوح لامرأته: نموت موتاً لأنّنا قد رأينا الله»(القضاة13:23).
5. «فغضب الرب على سليمان، لأنّ قلبه مال عن الرب، إله إسرائيل الذي تراءى له مرتين»(الملوك الأوّل 11:9).
6.«وقد رأيت الرب جالساً على كرسيه وكلّ جند البحار وقوف لديه»(الملوك الأوّل 22:19).
7. «كان في سنة الثلاثين في الشهر الرابع في الخامس من الشهر وأنا بين المسبيين عند نهر خابور، أنّ السماوات انفتحت فرأيت رؤى الله ـ إلى أن قال: ـ هذا منظر شبه مجد الرب، ولما رأيته خررت على وجهي وسمعت صوت متكلم»(حزقيال1:1و28).
والقائلون بالرؤية من المسلمين، وإن استندوا إلى الكتاب والسنّة ودليل العقل، لكن غالب الظن أنّ القول بالرؤية، تسرب إلى المسلمين من المتظاهرين بالإسلام كالأحبار والرهبان، وربما صاروا مصدراً لبعض الأحاديث في المقام، وصار ذلك سبباً لجرأة طوائف من المسلمين على جوازها، واستدعاء الأدلّة عليها من النقل والعقل.
ما هو محلّ النزاع؟
إنّ محلّ النزاع هو رؤية الله سبحانه بالأبصار رؤية حقيقية، ولكن المجسمة يقولون بها بلا تنزيه، والأشاعرة يقولون بها مع التنزيه، أي بدون استلزام ما يمتنع عليه سبحانه، من المكان والجهة.
وأمّا الرؤية القلبية، ومشاهدة الواجب من غير الطرق الحسية فخارج
________________________________________
(195)
عن مصب البحث، إذ لم يقل أحد بامتناعها.
والقائلون بالرؤية مع التنزيه على فرقتين: فرقة تعتمد على الأدلة العقلية دون السمعية، وفرقة أُخرى على العكس.
فمن الأُولى: سيف الدين الآمدي، أحد مشايخ الأشاعرة في القرن السابع(551ـ631هـ)، يقول: لسنا نعتمد في هذه المسألة على غير المسلك العقلي الذي أوضحناه، إذ ما سواه لا يخرج عن الظواهر السمعية، وهي ممّا يتقاصر عن إفادة القطع واليقين، فلا يذكر إلاّ على سبيل التقريب.(1)
ومن الثانية: الرازي في عديد من كتبه كمعالم الدين ص 67 والأربعين ص 198،والمحصل ص 138، فقال: إنّ العمدة في جوازالرؤية ووقوعها هو السمع،وعليه الشهرستاني في «نهاية الأقدام» ص 369.
هذه هي الأقوال الدارجة حول الرؤية، وقد عرفت ما هو محلّ النزاع.
الأمر الثاني: الأدلّة العقلية على جواز الرؤية
قد عرفت أنّ طرف النزاع في المقام هو الأشاعرة، وفي مقدّمهم الشيخ الأشعري، وهم من أهل التنزيه، فلأجل ذلك يطرحون المسألة بشكل يناسب مذهبهم.
يقول التفتازاني: ذهب أهل السنة إلى أنّ الله تعالى يجوز أن يرى وأنّ المؤمنين في الجنّة يرونه منزّهاً عن المقابلة والجهة والمكان.(2)
وهذه القيود التي ذكرها التفتازاني، وإن كانت غير واردة في كلام صاحب المنهج، ولكن الفكرة بهذه الصورة قد نضجت في طوال قرون متمادية، إنّما الكلام في إمكان وقوع هذه الرؤية، أي أن تتحقّق الرؤية بالأبصار، ولكن
________________________________________
1. غاية المرام في علم الكلام: 174. 2. شرح المقاصد:2/111.
________________________________________
(196)
مجرّدة عن المقابلة والجهة والمكان، وهذا ما يصعب تصوّره للإنسان. فتحقّق الرؤية ـ سواء قلنا بأنّها تتحقّق بانطباع صورة المرئي في العين كما عليه العلم الحديث، أو بخروج الشعاع كما عليه بعض القدماء ـ في غير هذه الظروف أشبه بترسيم أسد بلا رأس ولا ذنب على جسم بطل; ولأجل ذلك يحاول التفتازاني أن يصحّح هذا النوع من الرؤية ويقول:
إنّا إذا عرفنا الشمس مثلاً بحدّ أو رسم، كان نوعاً من المعرفة، ثمّ إذا أبصرناها وغمضنا العين، كان نوعاً آخر فوق الأوّل، ثمّ إذا فتحنا العين حصل نوع آخر من الإدراك فوق الأوّلين نسميه الرؤية، ولا تتعلّق في الدنيا إلاّبما هو في جهة ومكان، فمثل هذه الحالة الإدراكية، هل تصحّ أن تقع بدون المقابلة والجهة، وأن تتعلّق بذات الله تعالى منزهاً عن الجهة والمكان، أو لا؟.(1)
يلاحظ عليه:
أوّلاً:
أنّ الرؤية الأُولى أيضاً قبل الغمض، تصدق عليها الرؤية، وليس الاختلاف بين الرؤيتين إلاّ في الوضوح والخفاء والقصر والطول، ولكنّه إنّما خصّ النزاع بالرؤية الثانية لأجل ما ورد في الروايات، من أنّ المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة كفلق البدر.
ثانياً: أنّ الرؤية قائمة بأُمور ثمانية: 1. سلامة الحاسة 2. المقابلة أو حكمها كما في رؤية الصور المنطبعة في المرآة 3. عدم القرب المفرط 4. عدم البعد كذلك5. عدم الحجاب بين الرائي والمرئي6. عدم الشفافية، فإنّ ما لا لون له كالهواء لا يرى 7. قصد الرؤية 8. وقوع الضوء على المرئي وانعكاسه منه إلى العين.
فلو قلنا بأنّ هذه الشرائط ليست إلزامية بل هي تابعة لظروف خاصة، ولكن قسماً منها يعد مقوماً للرؤية بالأبصار، وهو كون المرئي في حيز خاص،
________________________________________
1. شرح المقاصد:2/111.
________________________________________
(197)
وتحقّق نوع مقابلة بين الرائي والمرئي وعند ذلك كيف يمكن أن تتحقّق الرؤية بلا بعض هذه الشرائط.
ثمّ إنّ بعض المثقفين من الأشاعرة لما وقعوا في مخمصة إزاء هذه الإشكالات، التجأوا إلى أمر آخر، وهو القول بأنّ كلّ شيء في الآخرة غيره في الدنيا. وهذا الكلام وإن كانت عليه مسحة من الحقّ، لكن لا يعنى به أنّ حقيقة الأشياء في الآخرة تباين حقيقتها في الدنيا، وهذا مثل أن يقال: إنّ حقيقة المربع والمثلث في الآخرة غيرهما في الدنيا، أو إنّ نتيجة «2*2» تصير في الآخرة خمسة، بحجّة أنّ كلّ شيء في الآخرة غيره في الدنيا، وإنّما المراد من القاعدة هو أنّ كلّ ما يوجد من الأشياء في الآخرة يكون بأكمل الوجود وأمثله، لا أنّه يباينه على وجه الإطلاق. يقول سبحانه: (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَة رِزْقاً قالُوا هذا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً).(1)
ثمّ إنّ الأشعري وبعده تلاميذ منهجه استدلّوا على الجواز بوجهين: أحدهما يرجع إلى الجانب السلبي، وأنّه لا يترتب على القول بالرؤية شيء محال، والآخر إلى الجانب الإيجابي، وأنّ مصحح الرؤية في الأشياء هو الوجود، وهو مشترك بين الخالق والمخلوق.
ثمّ أكّدوا الأدلّة العقلية بالأدلة السمعية، وعلى ذلك فيقع الكلام في تحرير أدلّتهم في مقامين: الأدلّة العقلية، والأدلة السمعية. ونقدّم العقلية:
الدليل العقلي الأوّل لجواز الرؤية
إنّ تجويز الرؤية لا يستلزم شيئاً ممّا يستحيل عليه سبحانه، فلا يلزم كونه حادثاً أو إثبات حدوث معنى فيه، أو تشبيهه أو تجنيسه، أو قلبه عن حقيقته، أو تجويره أو تظليمه، أو تكذيبه. ثمّ أخذ الأشعري في شرح نفي هذه اللوازم على وجه مبسوط، ونحن نقتطف منه جملتين:
1. «ليس في جواز الرؤية إثبات حدث، لأنّ المرئي لم يكن مرئياً لأنّه
________________________________________
1. البقرة:25.
________________________________________
(198)
محدث، ولو كان مرئياً لذلك للزم أن يرى كلّ محدث، وذلك باطل».
2. «ليس في إثبات الرؤية لله تعالى تشبيه».(1)
يلاحظ على الفقرة الأُولى: أنّ الملازمة ممنوعة، إذ لقائل أن يقول: إنّ الحدوث ليس شرطاً كافياً في الرؤية حتى يلزم رؤية كلّ محدث، بل هو شرط لازم يتوقف على انضمام سائر الشروط، وبما أنّ بعضها غير متوفّر في المجردات المحدثات، لا تقع عليه الرؤية.
ويلاحظ على الفقرة الثانية: أنّه اكتفى بمجرّد ذكر الدعوى، ولم يعززها بالدليل، مع أنّ مشكلة البحث هي التشبيه الذي أشار إليه، فإنّ حقيقة الرؤية قائمة بالمقابلة ولو بالمعنى الوسيع، ولولاها لا تتحقّق،والمقابلة لا تنفك عن كون المرئي في جهة ومكان، وهذا يستلزم كونه سبحانه ذا جهة ومكان، وهو نفس التشبيه والتجسيم. وكيف يقول إنّ تجويز الرؤية لا يستلزم التشبيه؟! «ما هكذا تورد يا سعد الإبل»!
وهناك إشكال آخر التفت إليه الشيخ، فعرضه وأجاب عنه، ونحن نعرض الإشكال والجواب بنصّهما،قال:
فإن عارضونا بأنّ اللمس والذوق والشم، ليس فيه إثبات الحدث، ولا حدوث معنى في الباري تعالى، قيل لهم: قد قال بعض أصحابنا إنّ اللمس ضرب من ضروب المماسات، وكذلك الذوق وهو اتصال اللسان و اللهوات بالجسم الذي له الطعم، وإنّ الشمّ هو اتصال الخيشوم بالمشموم الذي يكون عنده الإدراك له، وإنّ المتماسين إنّما يتماسان بحدوث مماسين فيهما، وإنّ في إثبات ذلك إثبات حدوث معنى في الباري.
يلاحظ عليه: أنّ التفريق بين الأبصار وسائر الإدراكات الحسية تفريق بلا جهة، وما ذكره من أنّ المتماسّين إنّما يتماسّان بحدوث مماسّين فيهما... مجمل جداً، وذلك لأنّه إن أراد أنّ اللمس يوجب حدوث نفس المماسين وذاتهما فهو ممنوع، لأنّ ذاتهما كانتا موجودتين قبل تحقّق اللمس، وإن أراد حدوث
________________________________________
1. اللمع: 61ـ 62.
________________________________________
(199)
وصف مادي ورابطة جسمانية، وهي التي عبر عنها بقوله:«إنّ اللمس ضرب من ضروب المماسات» فتلك الحالة أيضاً حادثة عند الإبصار، غاية الأمر أنّ اللمس ضرب من ضروب المماسات، والإبصار ضرب من ضروب المقابلات، وبإعمال كلّ واحد من الحواس تتحقّق إضافة بين الحاسة والمحسوس، وفي ظلها يتحقّق الإبصار واللمس والشمّ والذوق.
وأضف إلى ذلك ما نقله عن بعض أصحابه في نقد السؤال الماضي وحاصله:
إنّ لمسنا أو ذوقنا أو شمنا إياه سبحانه، يتصور على صورتين:
1. أن يحدث الله تعالى للذائق أو الشام أو اللامس إدراكاً من غير أن يحدث في الباري تعالى معنى.
2. تلك الصورة لكن يحدث فيه سبحانه معنى، فالثاني غير جائز، والأوّل جائز، ولكن الأمر في التسمية إلى الله، إن أمرنا أن نسمّيه لمساً وذوقاً وشماً سمّيناه، وإن منعنا امتنعنا.(1)
يلاحظ عليه:
أوّلاً:
أنّ معنى ذلك أن يكون سبحانه مشموماً ملموساً، مذوقاً، إذا لم يحدث فيه معنى بشمنا، وذوقنا، ولمسنا، وهذا في نهاية الضعف لا تجترئ عليه المجسّمة، فكيف بالمنزّهة؟!
وثانياً: أنّ إيجاده سبحانه في جوارحنا إدراكاً، حتى يتحقّق في ظله لمسه وذوقه، وشمّه، بلا حدوث معنى فيه، أشبه بترسيم الأسد على عضد البطل، من غير رأس ولا ذنب، لأنّ واقعية أعمال هذه الحواس لا تنفك عن تحقّق إضافة ورابطة بينها و بين المحسوس من غير فرق بين الإبصار وغيره، وهذه الإضافة إضافة مقولية قائمة بالطرفين. وقد التزم المجيب بامتناع هذا القسم، وإنّما سوغ قسماً آخر، غير معقول ولا متصوّر.
________________________________________
1. اللمع: 62.
________________________________________
(200)
وباختصار: إنّ الدليل السلبي الذي اعتمد عليه الشيخ الأشعري غير كاف، لأنّ الرؤية تستلزم التشبيه، أي ما يستحيل عليه سبحانه من كونه طرف الإضافة المقولية الحاصلة بينه و بين الحواس.
الدليل العقلي الثاني لجواز الرؤية
إنّ الوجود هو المصحح للرؤية، وهو مشترك بين الواجب وغيره وقد نسبه في المواقف إلى الشيخ الأشعري والقاضي وأكثر أئمّة الأشاعرة.(1)
وحاصله: أنّ الرؤية مشتركة بين الجوهر والعرض، ولابدّ للرؤية المشتركة من علّة واحدة وهي إمّا الوجود أو الحدوث، والحدوث لا يصلح للعلية، لأنّه أمر عدمي، فتعيّن الوجود، والوجود مشترك بين الواجب والممكن، فينتج أنّ صحّة الرؤية مشتركة بين الواجب والممكن.
وقد اعترض على ذلك البرهان في الكتب الكلامية، حتى من جانب نفس الأشاعرة(2)، بكثير ولكنّا نعتمد في نقض هذا البرهان على ما يبطله من أساسه، فنقول:
إنّ الحصر في كلامه غير حاصر، فمن أين علم أنّ مصحّح الرؤية هو الوجود؟ إذ من المحتمل أن يكون الوجود شرطاً لازماً، لا شرطاً كافياً، ويكون الملاك هو الوجود الممكن، وليس المراد من الممكن في قولنا «الوجود الممكن» الإمكان الذاتي، الذي يقع وصفاً للماهية، حتى يقال بأنّ الماهية ووصفها «الإمكان» من الأُمور العدمية والاعتبارية لا تصلح أن تكون جزء العلّة، بل المراد هو الإمكان الذي يقع وصفاً للوجود، ومعناه كون الوجود متعلقاً بالغير قائماً به، كقيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي، وليس الإمكان بهذا المعنى شيئاً غير حقيقة الوجود الإمكاني، كما أنّ الوجوب ليس وراء نفس حقيقة
________________________________________
1. شرح المواقف:8/115. 2. تلخيص المحصل: 317، غاية المرام:160، شرح التجريد للقوشجي: 431 وغيره.
________________________________________
(201)
الوجود في الواجب شيئاً طارئاً عليه، ومع قيام هذا الاحتمال لا يصحّ للمستدلّ أن يجعل مصحّح الرؤية نفس الوجود، ثمّ يدّعي اشتراكه بين الواجب وغيره.
بل هناك احتمال ثالث، هو أن يكون الملاك ومصحّح الرؤية هو الوجود الإمكاني المادي، الذي يقع في إطار شرائط خاصة لتحقّقها، وهي عبارة عن المقابلة وكونه طرف الإضافة المقولية بين البصر والمبصر، بضميمة وجود الضوء بينهما، فادّعاء كون الملاك أمراً وسيعاً (الوجود)، يحتاج إلى دليل.
ولو أردنا أن نقف على ما هو الملاك ـ من زاوية العلوم الطبيعية ـ فإنّ الإبصار حسب هذه العلوم رهن ظروف خاصة، ولا تعدو عن كون المبصر موجوداً ممكناً مادياً، يقع في أُفق الحس حيث يوجد هناك ضوء، وادّعاء إمكان الإبصار في غير هذه الظروف يحتاج إلى دليل، وليس الاحتمال كافياً في مقام البرهان.
والعجب أنّه يدّعي أنّ مصحّح الرؤية هو الوجود، وعليه أن يعترف بصحّة رؤية الأفكار والعقائد، والروحيات والنفسانيات من القدرة والإرادة، إلى غير ذلك من الموجودات التي لا يشكّ أحد في امتناع رؤيتها.
ولكن الشيخ حسب نقل شارح المواقف أجاب عن هذا النقض بقوله: إنّنا لا نرى هذه الأشياء التي ذكرتموها لجريان العادة من الله بعدم الرؤية، فإنّه أجرى عادته بعدم خلق رؤيتها فينا، ولكن لا يمتنع أن يخلق فينا رؤيتها كما خلق رؤية غيرها.(1)
ولا يخفى أنّ كلامه يتضمن المصادرة على المطلوب، إذ من أين وقف على إمكان رؤيتها حتى يصحّ تعليل عدم وقوعها بقوله: «أجرى عادته بعدم خلق رؤيتها فينا مع إمكانها» فإنّ الكلام في نفس الإمكان، والخصم يدّعي الامتناع وهو يدّعي خلافه.
أضف إلى ذلك أنّ اللجوء إلى عادة الله في كلمات الشيخ الأشعري
________________________________________
1. شرح المواقف:8/123.
________________________________________
(202)
وأتباعه، يرجع لبه إلى إنكار السببية والمسببية بين عوالم الوجود ودرجات العالم، وأنّ كلّ حادثة طارئة تستند إليه سبحانه مباشرة، وأنّه هو المحرق والمبرد، وما يتبادر إلى الأذهان والحواس من كون النار محرقة ليس إلاّ جريان عادة الله على إيجاد الحرارة بعد وجود النار، ولا صلة بين النار والحرارة.
وهذا الأصل الذي يعتمد عليه الأشاعرة في كثير من المواضع يضاد الكتاب العزيز والبرهان القويم. كيف و قد صرّح سبحانه في الذكر الحكيم بتأثير العلل الطبيعية في معلولاتها بإذن منه سبحانه، ونكتفي من الآيات الكثيرة بآية واحدة: (الّذي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَبِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا للّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (1). أنظر إلى قوله سبحانه(فَأخرج به)أي بسبب الماء، فللماء سببية وتأثير في خروج الثمرات.(2)
الأمر الثالث: دليل القائلين بالجواز من القرآن
استدل القائلون بجواز الرؤية بآيات كثيرة نذكر المهم منها:
الأُية الأُولى
قوله سبحانه: (كَلاّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ* وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ)* وُجُوهٌ يَومَئِذ ناضِرَةٌ) *إِلى رَبِّها ناظِرَة)* وَوُجُوهٌ يَومَئِذ باسِرَةٌ)* تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) .(3)
تمسّكت الأشاعرة لجواز رؤية الله بهذا الدليل السمعي، قائلين بأنّ النظر إذا كان بمعنى الانتظار، يستعمل بغير صلة، ويقال انتظرته، وإذا كان بمعنى التفكر يستعمل بلفظة «في»، وإذا كان بمعنى الرأفة يستعمل باللام، وإذا كان بمعنى الرؤية يستعمل بـ«إلى» و النظر في الآية استعمل بلفظ «إلى»، فيحمل
________________________________________
1. البقرة:22. 2. تقدّم الكلام فيه.لاحظ: ص 161. 3. القيامة:20ـ 25.
________________________________________
(203)
على الرؤية.(1)
قال الشيخ أبو الحسن: والدليل على أنّ الله تعالى يُرى بالأبصار قوله تعالى: (وُجُوهٌ يَومَئِد ناضِرَة* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (2) ولا يجوز أن يكون معنى قوله (إِلى ربّها ناظرة)معتبرة، كقوله تعالى: (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ)(3). لأنّ الآخرة ليست بدار اعتبار، ولا يجوز أن يعني متعطفة راحمة كما قال: «ولا ينظر إليهم» أي لا يرحمهم ولا يتعطف عليهم، لأنّ الباري لا يجوز أن يتعطف عليه(4). ولا يجوز أن يعني منتظرة، لأنّ النظر إذا قرن النظر بذكر القلب لم يكن معناه نظر العين، لأنّ القائل إذا قال: أنظر بقلبك في هذا الأمر، كان معناه نظر القلب، وكذلك إذا قرن النظر بالوجه لم يكن معناه إلاّ نظر الوجه.
والنظر بالوجه هو نظر الرؤية الذي يكون بالعين التي في الوجه، فصحّ أنّ معنى قوله تعالى :(إِلى رَبِّها ناظرةٌ) رائية. إذا لم يجز أن يعني شيئاً من وجوه النظر الأُخرى.(5)
قال أيضاً حول دلالة الآية على الرؤية:
إنّ النظر في هذه الآية لا يمكن أن يكون نظر الانتظار، لأنّ الانتظار معه تنقيص وتكدير، وذلك لا يكون يوم القيامة، لأنّ الجنّة دار نعيم وليست دار ثواب أو عقاب، ولا يمكن أن يكون نظر الاعتبار، لأنّ الآخرة ليست دار الاعتبار بل دار ثواب أو عقاب، ولا يمكن أن يكون نظر القلب، لأنّ الله تعالى ذكر النظر مع الوجه، فاتضح أنّه نظر العينين، وإذا بطلت هذه المعاني
________________________________________
1. شرح التجريد للقوشجي: 334. 2. القيامة: 22ـ 23. 3. الغاشية: 17. 4. هذا سهو من قلمه، لأنّ الآية تتضمن نفي نظره سبحانه إليهم بالرحمة والعطف، لا نظرهم إليه بالعطف والحنان حتى يصح قوله: «لأنّ الباري لا يجوز أن يتعطف عليه» فلاحظ. 5. اللمع: 64.
________________________________________
(204)
للنظر لم يبق إلاّ حالة واحدة وهي نظر الرؤية.
يلاحظ عليه: من أين وقف الشيخ الأشعري على أنّ الآيات تحكي عن أحوال المؤمنين بعد دخول الجنّة والكافرين بعد الاقتحام في النار؟
والظاهر بقرينة قوله: (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) أنّ الآيات تحكي عن أحوالهم قبل دخولهم في مستقرهم ومأواهم، فلا مانع من أن يكون انتظار من دون أن يكون هناك تكدير وتنقيص.
قد شغلت هذه الآية بال الأشاعرة والمعتزلة، فالفرقة الأُولى تصرُّ على أنّ النظر هنا بمعنى الرؤية، والثانية تصر على أنّها بمعنى الانتظار لا الرؤية، ويقولون: إنّ النظر إذا استعمل مع «إلى» يجيء بمعنى الانتظار أيضاً، يقول الشاعر:
وجوه ناظرات يـوم بـدر * إلى الرحمن يأتي بالفلاح(1)
أي منتظرة إتيانه تعالى بالنصرة والفلاح.
إلى غير ذلك من الآيات والروايات والأشعار العربية، الواردة فيها تلك اللفظة بمعنى الانتظار، حتى فيما إذا كانت مقرونة بـ«إلى».
غير أنّ الحقّ أنّ الآية لا تدلّ على نظرية الأشاعرة، حتى ولو قلنا إنّ النظر في الآية بمعنى الرؤية، فإنّ الآية على كلا المعنيين تهدف إلى أمر آخر، لا صلة له بمسألة الرؤية، ويعرف مفاد الآيات بمقارنة بعضها ببعض، وإليك بيانه:
إنّ الآية الثالثة تقابل الآية الأُولى، كما أنّ الرابعة تقابل الثانية، وعند المقابلة يرفع إبهام الثانية بالآية الرابعة، وإليك تنظيم الآيات حسب المقابلة:
أ. (وجوه يومئذ ناضرة) ـ يقابلها قوله: (وجوه يومئذ باسرة) .
ب. (إلى ربّها ناظرة) ـ يقابلها قوله: (تظن أن يفعل بها فاقرة) .
وبما أنّ المقابل للآية الثانية واضح المعنى، فيكون قرينة على المراد منها،
________________________________________
1. وفي رواية: تنتظر الخلاصا.
________________________________________
(205)
فإذا كان المقصود من المقابل أنّ الطائفة العاصية تظن وتتوقع أن ينزل بها عذاب يكسر فقارها، ويقصم ظهرها، يكون المراد من عدله وقرينه عكسه وضدّه، وليس هو إلاّ أنّ الطائفة المطيعة تكون مستبشرة برحمته،ومتوقعة لفضله وكرمه، لا النظر إلى جماله وذاته وهويته، وإلاّ لخرج المقابلان عن التقابل وهو خلف.
وبعبارة أُخرى: يجب أن يكون المقابلان ـ بحكم التقابل ـ متحدي المعنى والمفهوم، ولا يكونا مختلفين في شيء سوى النفي والإثبات، فلو كان المراد من المقابل الأو،ّل أعني: (إلى ربّها ناظرة)، هو رؤية جماله سبحانه وذاته، فيجب أن يكون الجزاء في قرينه، أعني: (تظن أن يفعل بها فاقرة) هو حرمان هؤلاء عن الرؤية، أخذاً بحكم التقابل. وبما أنّ تلك الجملة ـ أعني: القرين الثاني ـ لا تحتمل ذلك المعنى، أعني: الحرمان من الرؤية، بل صريحة في انتظار العذاب الفاقر، يكون ذلك قرينة على المراد من القرين الأوّل، هو رجاء رحمته وانتظار فرجه وكرمه.
بيان آخر
إنّ المراد من «ناظرة» سواء أفسرت بمعنى الانتظار أم النظر المرادف مع الرؤية، هو توقّع المطيعين المتقين الرحمة الإلهية، في مقابل توقع العصاة عذابه الفاقر، فإذا كان هو المراد من الآية حسب التقابل، فلو قلنا بأنّ لفظة «ناظرة» بمعنى الانتظار تسقط دلالة الآية على الرؤية ـ ولو كانت بمعنى النظر المرادف مع الرؤية ـ فهي كناية عن انتظار الرحمة، مثلاً يقال: فلان ينظر إلى يد فلان، يراد أنّه رجل معدم محتاج ليس عنده شيء، وإنّما يتوقع أن يعطيه ذلك الشخص، فما أعطاه ملكه، وما منعه حرم منه، وهذا ممّا درج عليه الناس في محاوراتهم العرفية، إذ يقول إنسان في حقّ آخر«فلان ينظر إلى الله ثمّ إليك» فالنظر، وإن كان هنا بمعنى الرؤية بلا شك، لكنّه كناية عن انتظار فضله سبحانه وكرمه، كانتظاره بعد الله فضل سيده، ويفسره في «أقرب الموارد» بقوله«يتوقع فضل الله ثمّ كرمك» و الآية نظير قول القائل:
إنّي إليك لمـا وعـدت لناظـر * نظر الفقير إلى الغنيّ الموسر
________________________________________
(206)
فمحور البحث والمراد، في أمثال المورد، هو توقّع الرحمة وحصولها، أو عدم توقّعها وشمولها، فالطغاة يظنون شمول عذاب يفقرهم ويكسر ظهورهم، والصالحون يظنّون عكسه وضدّه. وأمّا رؤية الله سبحانه ووقوع النظر إلى ذاته فخارج عن مدار البحث في هذه المواقع، والأشعري وكلّ من استدلّ بهذه الآية على الرؤية خلط المعنى المكنّى به بالمعنى المكنّى عنه. فقد كنّى بالنظر إلى الله عن الانتظار لرحمته وشمول فضله وكرمه.
ولذلك نظائر في الكتاب العزيز، يقول سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيمانِهِمْ ثَمَناً قَليلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَليم) (1). والمراد من قوله: «لا ينظر إليهم» هو المعنى المكنّى عنه، وهو طردهم عن ساحته، وعدم شمول رحمته لهم، وعدم تعطّفه عليهم،وتدلّ على ذلك الآية المتقدّمة عليها، حيث قال عزّ من قائل: (بَلى مَنْ أَوفى بِعَهْدِهِ وَاتّقى فَإنَّ الله يُحِبُّ المُتَّقينَ) .(2)
فلو قمنا بالمقابلة يكون سياق الآيات بالشكل التالي:
(مَن أَوفى بِعَهدِهِ وَاتّقى) يكون جزاؤه قوله:(يحبّه الله فإنّ الله يحبّ المتقين).
و(إِنَّ الَّذينَ يَشترون بِعَهْدِ الله وَأَيمانِهِمْ ثَمَناً قَليلاً) يكون جزاؤهم قوله: (لا يُكَلّمُهُمُ اللّه وَلا يَنْظُر إِليهِمْ يَومَ القِيامةِ).
فالإبهام الموجود في الجزاء الثاني يرتفع بالمعنى المتبادر من الجزاء الأوّل، فبما أنّ المراد منه هو عموم رحمته وشمول فضله يكون المراد من الجزاء الثاني هو قبض رحمته وعدم شموله لهم.
وإن شئت قلت: إنّ المراد من «لا ينظر إليهم» ليس هو عدم رؤية الله وعدم مشاهدته إيّاهم، لأنّ رؤيتهم أو عدم رؤيته ليس أمراً مطلوباً لهم حتى
________________________________________
1. آل عمران: 77. 2. آل عمران: 76.
________________________________________
(207)
يُهَدَّدوا بعدم النظر إليهم وإنّما النافع بحالهم هو وصول رحمته إليهم، والمضر بحالهم عدم شمول لطفه لهم، فيكون المراد عدم تعطّفه إليهم.
هذا هو مفتاح حل المشكل المتوهم في الآية، فتفسير الآية برؤية الله أخذاً بالمعنى المكنّى به غفلة عن محور البحث فيها.
ويدلّ على أنّ المراد من النظر ـ حتى ولو كان بمعنى الرؤية ـ ليس هو الرؤية البصرية، بل المقصود انتظار الرحمة، تقديم المفعول، أعني: «إلى ربّها» على الفعل والفاعل أعني: «ناظرة»، فإنّ تقديمه يدلّ على معنى الاختصاص، والاختصاص صحيح لو قلنا بأنّ المراد هو انتظار رؤيته، لأنّ الإنسان في هذا الظرف الهائل لا يتوقع إلاّ رحمة الله وعنايته ولطفه فقط، ولا يتوقع شيئاً سواها حتى يتخلص من أهوال القيامة، وأمّا رؤية الله سبحانه فليست بهذه المنزلة في تلك الأحوال، فليس الناس بحالة لا يطلبون فيها إلاّ النظر إليه وعدم النظر إلى غيره. وإن عمّهم العذاب بعد الرؤية ليصحّ وجه الحصر. لأنّ ما ينجيهم من الأهوال هو رحمته،لا رؤية وجهه.
يقول صاحب الكشاف: إنّ المؤمنين ينظرون إلى أشياء لا يحيط بها الحصر ولا تدخل تحت العدد. فاختصاصه سبحانه بنظرهم إليه لو كان منظوراً إليه، محال أو غير واقع، فوجب حمله على معنى يصحّ معه الاختصاص. والذي يصحّ معه أن يكون من قبيل قول الناس«أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي» يريد معنى التوقّع والرجاء ومن هذا القبيل قوله:
وإذا نظرت إليك من ملك والبحر دونـك زدتني نعماً(1)
إنّ هنا كلمة أُخرى للزمخشري في كشافه، يقول:
«وسمعت سروية مستجدية بمكة وقت الظهر حين يغلق الناس أبوابهم ويأوون إلى مقائلهم، تقول: «عيينتي نويظرة إلى الله وإليكم».تقصد راجية ومتوقعة لإحسانهم إليها، كما هو معنى قولهم: «أنا أنظر إلى الله ثمّ إليك»: «أتوقع فضل الله ثمّ فضلك».(2)
________________________________________
1. الكشاف:4/662. 2. الكشاف:3/294، في تفسير قوله سبحانه:(إلى ربّها ناظرة) .
________________________________________
(208)
فلو أنّ القوم تجرّدوا عن انتحال مسلك مسبق، ونظروا إلى القرآن بعين التفهّم والاستفادة، لما شكّ أحد في أنّ المراد من النظر إلى الله سبحانه في ذلك المشهد الرهيب هو رجاء رحمته وفضله وكرمه.
وممّا ذكرنا تعرف أنّ ما أتعب به الشيخ نفسه لا يفيد شيئاً. فإنّ غاية ما أثبته هو أنّ النظر هنا بقرينة «وجوه» بمعنى الرؤية، ولكنّه لم يستدلّ على أنّ الرؤية هل هي المقصود بالذات، أو هي كناية عن معنى آخر وهو انتظار رحمته، واليقين بفضله وكرمه؟ مع أنّ هنا فرقاً واضحاً بين قولنا:«عيون يومئذ ناظرة» و (وجوه يومئذ ناظرة) فلو كان الأوّل ظاهراً في الرؤية فليس الثاني كذلك. فهو في الانتظار أوضح وأبين. وليس الفاعل في قوله سبحانه :(إِلى ربّها ناظرة) هو العيون، بل الوجوه المذكورة في الآية المتقدمة، أعني قوله: (وجوه يومئذ ناظرة) فالنظر منسوب إلى الوجوه لا إلى العيون، فافهم.
وباختصار، إنّا لا نقول بأنّ النظر هنا نظر القلب، حتى يستدلّ الشيخ على عدم صحّته بأنّ النظر إذا قرن بالوجوه لم يكن معناه نظر القلب، الذي هو انتظاره، وإنّما نقول بأنّ المراد منه هو النظر بالعين، ولكن هذا المعنى المطابقي كناية عن معنى التزامي. والمقصود في الكنايات هو المعنى الثاني لا المعنى الأوّل. فإذا قلت «فلان كثير الرماد» فصدقه يتوقّف على كثرة ضيوفه ووفرة من ينزل في بيته، لا على وجود رماد في بيته.
وعلى ذلك فالذي يجب التركيز عليه هو الوقوف على ما هو مقصود المتكلّم من قوله: (إِلى ربّهاناظرة) فهل هو يريد أنّ جزاء المطيعين ذوي الوجوه الناظرة هو النظر إلى ذات الله ورؤيته؟ أو أنّه كناية عن جزاء آخر، هو انتظار رحمته وفضله وكرمه، في مقابل الطغاة ذوي الوجوه الباسرة الظانين بنزول العذاب الفاقر.
وهذه هي النكتة المهمة في فهم الآية وقد غفل عنها الأشعري وروّاد منهجه.
الآية الثانية
قوله سبحانه: (وَلَمّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبّهُ قالَ رَبِّ أَرِني أَنْظُرْ)
________________________________________
(209)
إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَراني وَلكِنِ انْظُر إِلَى الجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوفَ تَراني فَلَمّا تَجلّى رَبُّهُ لِلْجَبَل جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوّلُ المُؤْمِنينَ) (1).(2)
احتجت الأشاعرة بهذه الآية بوجهين:
الوجه الأوّل:
أنّ موسى سأل الرؤية ولو كانت ممتنعة لما سألها، لأنّه إمّا يعلم امتناع الرؤية أو يجهله، فإن علم فالعاقل لا يطلب المحال،وإن جهله فهو لا يجوز في حقّ موسى، فإنّ مثل هذا الشخص لا يستحقّ أن يكون نبيّاً.
يلاحظ عليه: أنّ المستدلّ أخذ بآية واحدة، وترك التدبّر في سائر الآيات الواردة حول الموضوع، وتصور أنّ الكليم ابتدأ بالسؤال وأُجيب بالنفي،وعلى ذلك بنى استدلاله بأنّه لو كان ممتنعاً لما سأله الكليم، ولكن الحقيقة غير ذلك، وإليك بيانه:إنّ الكليم لماأخبر قومه بأنّ الله كلّمه وقرّبه وناجاه، قالوا لن نؤمن بك حتى نسمع كلامه كما سمعت، فاختار منهم سبعين رجلاً لميقات ربّه، فخرج بهم إلى طور سيناء وسأله سبحانه أن يكلّمه، فلمّا كلّمه الله، وسمعوا كلامه، قالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فعند ذلك أخذتهم الصاعقة بظملهم وعتوهم واستكبارهم.
وإلى هذه الواقعة تشير الآيات الثلاث التالية:
1.(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرى اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) .(3)
2.(يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ بِظُلْمِهِم) .(4)
3. (وَاخْتارَ مُوسى قَومَهُ سَبْعينَ رَجُلاً لِميقاتِنا فَلمّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ)
________________________________________
1. الأعراف:143. 2. وقد استدلّت به الأشاعرة ولم يستدلّ به الشيخ أبو الحسن في لمعه وإنّما ذكرناه تتميماً للبحث. 3. البقرة:55. 4. النساء:153.
________________________________________
(210)
رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنّا إِنْ هِيَ إِلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِر لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيرُ الغافِرين).(1)
إلى هذه اللحظة الحسّاسة لم يَحُمْ الكليم حول الرؤية، ولم ينبس فيها ببنت شفة، ولم يطلب شيئاً، بل طلب منه سبحانه أن يحييهم، حتى يدفع اعتراض قومه عن نفسه إذا رجع إليهم، فلربما قالوا إنّك لما لم تكن صادقاً في قولك:إنّ الله يناجيك، ذهبت بهم فقتلتهم، فعند ذلك أحياهم الله وبعثهم معه. وهذا هو مقاله. يقول سبحانه عنه(قال ربّ لو شئت أهلكتهم من قبل وإيّاي أتهلكنا بما فعل السُّفهاء منّا إن هي إلاّفتنتك) .
فلو كان هناك سؤال من موسى فإنّما كان بعد هذه المرحلة، وبعد إصابة الصاعقة للسائلين وعودهم إلى الحياة بدعاء موسى.
وعند ذلك يطرح السؤال الآتي:
هل يصحّ أن ينسب إلى الكليم ـ بعد ما رأى بأُمّ عينه ما أصاب القوم من الصاعقة والدمار، إثر سؤالهم الرؤية ـ أنّه قام بالسؤال لنفسه بلا داع وسبب مبرر أو بلا ضرورة؟ أو أنّه ما قام بالسؤال ثانياً إلاّ بعد إصرار قومه وإلحاحهم عليه أن يسأل الرؤية لا لهم بل لنفسه، حتى تحصل رؤيته لله مكان رؤيتهم، فيؤمنوا به بعد إخباره بالرؤية؟
لا شكّ أنّ الأوّل بعيد جداً لا تصحّ نسبته إلى من يملك شيئاً من العقل والفكر، فضلاً عن نبي عظيم مثل الكليم. كيف وقد رأى جزاء من سأل الرؤية، فالثاني هو المتعين، وفي نفس الآية قرائن تدلّ على أنّ السؤال في المرة الثانية كان بإصرار القوم وإلحاحهم،وكفى في القرينة قوله (أَتُهلكنا بما فعل السُّفهاء)حيث يعد السؤال من فعل السفهاء، ومعه كيف يصحّ له الإقدام بلا ملزم و مبرر أو بلا ضرورة وإلجاء،وبما أنّ الله سبحانه يعلم بأنّه لم يقدم إلى
________________________________________
1. الأعراف:155.
________________________________________
(211)
السؤال إلاّ بإصرار قومه حتى يكبت هؤلاء ويسكتهم، لم يوجّه إلى الكليم أي مؤاخذة، بل خاطبه بقوله( لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني) .
وهناك كلام للإمام الطاهر علي بن موسى الرضا ـ عليه السَّلام ـ يعرب عن صحّة ما ذكرناه، وأنّ سؤال الكليم لم يكن من جانب نفسه، بل من جانب قومه. قال الإمام ـ عليه السَّلام ـ «إنّ كليم الله موسى بن عمران ـ عليه السَّلام ـ علم أنّ الله، تعالى عن أن يرى بالأبصار، ولكنّه لما كلّمه الله عزّوجلّ وقرّبه نجياً، رجع إلى قومه فأخبرهم أنّ الله عزّوجلّ كلّمه وقرّبه وناجاه، فقالوا: لن نؤمن لك حتى نسمع كلامه كما سمعت.
وكان القوم سبعمائة ألف رجل، فاختار منهم سبعين ألفاً، ثمّ اختار منهم سبعة آلاف، ثمّ اختار منهم سبعمائة، ثمّ اختار منهم سبعين رجلاً لميقات ربّه، فخرج بهم إلى طور سيناء، فأقامهم في سفح الجبل،وصعد موسى ـ عليه السَّلام ـ إلى الطور وسأل الله تبارك وتعالى أن يكلّمه، ويسمعهم كلامه، فكلّمه الله، تعالى ذكره، وسمعوا كلامه من فوق وأسفل ويمين وشمال ووراء وأمام. لأنّ الله عزّ وجلّ أحدثه في الشجرة، ثمّ جعله منبعثاً منها حتى سمعوه من جميع الوجوه فقالوا: لن نؤمن لك بأنّ هذا الذي سمعناه كلام الله حتى نرى الله جهرة، فلمّا قالوا هذا القول العظيم واستكبروا وعتَوا، بعث الله عزّوجلّ عليهم صاعقة فأخذتهم بظلمهم فماتوا.
فقال موسى: يا ربّ ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم وقالوا: إنّك ذهبت به فقتلتهم، لأنّك لم تكن صادقاً فيما ادعيت من مناجاة الله إيّاك، فأحياهم الله وبعثهم معه. فقالوا: إنّك لو سألت الله أن يريك أن تنظر إليه لأجابك، وكنت تخبرنا كيف هو فنعرفه حقّ معرفته، فقال موسى ـ عليه السَّلام ـ : «يا قوم إنّ الله لا يُرى بالأبصار ولا كيفية له، وإنّما يُعرف بآياته ويُعلم بأعلامه.
فقالوا لن نؤمن لك حتى تسأله، فقال موسى ـ عليه السَّلام ـ : يا ربّ قد سمعت مقالة بني إسرائيل وأنت أعلم بصلاحهم، فأوحى الله جلّ جلاله إليه: يا

________________________________________
(212)
موسى اسألني ما سألوك فلن أُؤاخذك بجهلهم، فعند ذلك قال موسى ـ عليه السَّلام ـ : ربّ أرني أنظر إليك. قال: لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه (وهو يهوي) فسوف تراني، فلما تجلّى ربّه للجبل (بآية من آياته) جعله دكاً وخرّ موسى صعقاً، فلمّا أفاق قال: سبحانك تبت إليك(يقول: رجعت إلى معرفتي بك عن جهل قومي) وأنا أوّل المؤمنين (منهم بأنّك لا تُرى)، فقال المأمون: لله درك يا أبا الحسن.(1)
ثمّ إنّ للعّلامة الزمخشري كلاماً حول تفسير الآية هو فصل الخطاب، يقرب كلامه ممّا نقلناه عن الإمام الطاهر أبي الحسن الرضا ـ عليه السَّلام ـ ، فإلى القارىء نصه: «فإن قلت: كيف طلب موسى ـ عليه السَّلام ـ ذلك وهو من أعلم الناس بالله وصفاته و مايجوز عليه ومالا يجوز، وبتعاليه عن الرؤية التي هي إدراك ببعض الحواس، وذلك إنّما يصحّ فيما كان في جهة،وما ليس بجسم ولا عرض فمحال أن يكون في جهة.
قلت: ما كان طلب الرؤية إلاّ ليبكِّت هؤلاء الذين دعاهم سفهاء وضُلاّلاً، وتبرأ من فعلهم،وليلقمهم الحجر; وذلك أنّهم حين طلبوا الرؤية أنكر عليهم،وأعلمهم الخطأ ونبّههم على الحقّ، فلجّوا وتمادوا في لجاجهم، وقالوا: لابدّ، ولن نؤمن حتى نرى الله جهرة. فأراد أن يسمعوا النصّ من عند الله باستحالة ذلك،وهو قوله: «لن تراني» ليتيقّنوا وينزاح عنهم ما دخلهم من الشبهة، فلذلك قال: (
ربِّ أرني أَنظر إليك).
فإن قلت: فهلاّ قال: أرهم ينظروا إليك؟ قلت: لأنّ الله سبحانه إنّما كلّم موسى ـ عليه السَّلام ـ وهم يسمعون، فلمّا سمعوا كلام ربّ العزّة أرادوا أن يري موسى ذاته فيبصروه معه، كما أسمعه كلامه فسمعوه معه،إرادة مبنية على قياس فاسد، فلذلك قال موسى:(أَرني أَنظر إليك) ولأنّه إذا زجر عمّا طلب وأنكر عليه في نبوته واختصاصه وزلفته عند الله، وقيل له: لن يكون ذلك، كان غيره أولى بالإنكار، ولأنّ الرسول إمام أُمّته فكان ما يخاطب به أو ما

________________________________________
1. توحيد الصدوق:121ـ 122.
________________________________________
(213)
يخاطب، راجعاً إليهم، وقوله: (أَنظر إليك) وما فيه من معنى المقابلة التي هي محض التشبيه والتجسيم، دليل على أنّه ترجمة عن مقترحهم،وحكاية لقولهم، وجلّ صاحب الجمل أن يجعل الله منظوراً إليه، مقابلاً بحاسة النظر، فكيف بمن هو أعرف في معرفة الله تعالى من واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد والنظام وأبي الهذيل والشيخين وجميع المتكلّمين.
فإن قلت: ما معنى «لن»؟
قلت: تأكيد النفي الذي تعطيه «لا» و ذلك أنّ «لا» تنفي المستقبل، تقول: لا أفعل غداً، فإذا أكدت نفيها قلت: لن أفعل غداً. والمعنى أنّ فعله ينافي حالي، كقوله: (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلو اجْتَمعوا له) ، فقوله: (لا تُدركه الأَبصار) نفي للرؤية فيما يستقبل و (لن تراني) تأكيد و بيان، لأنّ النفي مناف لصفاته.
(1)
ذلك كلام الإمام الطاهر علي بن موسى الرضا ـ عليه السَّلام ـ ، أحد قرناء الكتاب وأعداله حسب تنصيص النبي الأكرمصلَّى الله عليه و آله و سلَّم.(2) وهذا تحليل علاّمة المعتزلة، ولو تأمل الإنسان المحايد فيما ذكر، لعرف دلالة الآية على امتناع الرؤية.
وبذلك يعلم أنّ الميقات الوارد في قوله تعالى: (وَلَمّا جاءَمُوسى لِميقاتِنا وَكَلّمَهُ رَبّهُ قالَ رَبِّ أَرِني أَنْظُر إِليك) نفس الميقات الوارد في الآية الأُخرى، أعني قوله: (وَاخْتارَمُوسى قومهُ سَبْعينَ رَجُلاً لِميقاتِنا فَلَمّا أَخَذتهُمُ الرّجْفَة)ولم يكن لموسى مع قومه أي ميقات غير هذا. غير أنّ الرجوع في سورة الأعراف إلى مسألة الميقات ثانياً بعد ذكره في بدء القصة، لأجل العناية بهذه القطعة من القصة، والقرآن ليس كتاب قصة، وإنّما هو كتاب هداية يكرر من القصة ما يهمّه.
وبعبارة أُخرى: إنّ موضوع طلب الرؤية ذكر في ثنايا القصة مرّة
________________________________________
1. الكشاف:1/573ـ 574 ط مصر. كذا في المطبوع، والصحيح: أنّ الرؤية منافية، كما في جوامع الجامع. 2. في حديث الثقلين المتواتر عند الفريقين، قال ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ : «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي».
________________________________________
(214)
(الأعراف:143) لأجل حفظ تسلسل فصول القصة، وذكر في نهايتها ثانياً (الأعراف:155) لأجل إبراز العناية، وأنّه كان مسألة مهمة في حياة بني إسرائيل.
لقاء أو لقاءان؟
قد استظهرنا أنّه لم يكن لموسى حول مسألة الرؤية إلاّ ميقات واحد، ولم يكن هنا إلاّ طلب واحد لأجل إصرار قومه. وربما يحتمل تعدد اللقاءين، وأنّ الأوّل منهما كان عند اصطفائه سبحانه لكلامه، وتشريفه بإعطاء التوراة، وإرساله إلى قومه; وكان الثاني بعد رجوعه من الميقات ومشاهدة اتخاذ قومه العجل إلهاً، فعند ذاك اختار من قومه سبعين رجلاً وذهب بهم إلى الميقات، فأصروا على أنّهم لا يؤمنون به إلاّ بعد رؤية الله جهرة. فالآية الأُولى (وَلَمّاجاء مُوسى لميقاتنا)ناظرة إلى اللقاء الأوّل والآية الثانية (واختار موسى قومه) إلى اللقاء الثاني. وكان في كلّ، طلب وسؤال خاص.
هذا هو المفترض، ولكنّه بعيد جداً، وعلى فرض ثبوته لا يدلّ على المطلوب المدّعى ثانياً.
أمّا الأوّل: فلأنّه لو كان للكليم لقاءان، وقد سأل في الأُولى منهما الرؤية لنفسه وحده وأُجيب بالنفي، ولمّا شاهد اندكاك الجبل عند تجلي الرب صعق ووقع على الأرض، كان عليه تذكير قومه بما وقع وتخويفهم من الطلب، مع أنّه لم يذكر منه شيء في الآية الثانية. ولو نبّههم بذلك ـ و مع ذلك ألّحوا على الرؤية ـ لأشار إليه الذكر الحكيم إيعازاً إلى لجاجهم وعنادهم.
وكلّ ذلك يعرب عن وحدة اللقاء، وأنّ مجيئه لميقات ربّه لإخذ الألواح كان مع من اختارهم من قومه، ولم يكن إلاّ طلب واحد في حضرة القوم.
تفسير الآية بوجه آخر
وعلى فرض التعدّد فالرؤية التي طلبها موسى لنفسه وقال: (أَرني أَنْظُر إِليك) غير الرؤية التي طلبها قومه، فالمراد من الثانية هو الرؤية البصرية
________________________________________
(215)
المستحيلة، وقد أعقب السؤال نزول الصاعقة وإهلاك القوم، ولكن المراد من الأوّل هوحصول العلم الضروري، وإنّما سمي بالرؤية للمبالغة في الظهور. وله نظائر في القرآن كقوله سبحانه: (وَكَذلِكَ نُري إِبْراهيمَ مَلَكُوتَ السَّمواتِ وَالأَرْض ولِيَكُونَ مِنَ المُوقِنين) (1)وقوله عزّ من قائل:(كَلاّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليَقينِ) *لَتَرَوُنَّ الجَحيم) .(2)
فالكليم أجلّ من أن يجهل امتناع الرؤية الحسية بالأبصار، خصوصاً في الدنيا التي يسلّم الخصم امتناعه فيها. فهذا قرينة على أنّ مقصوده منها هو العلم الضروري من دون استعمال آلة حسية أو فكرية. فالله سبحانه لما اصطفاه برسالته وتكليمه وهو العلم بالله من جهة السمع، رجا أن يزيده بالعلم من جهة الرؤية، وهو كمال العلم الضروري، فأُجيب بالنفي، وأنّ الإنسان ما دام شاغلاً بتدبير بدنه، لا ينال ذاك العلم.
هذا، والأصح هو الجواب الأوّل، وأنّه لم يكن هنا إلاّ طلب واحد بإصرار من قومه.
إكمال
بقي الكلام في ارتباط قوله سبحانه: (وَلكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني) بما قبله (لن تراني) وقد قيل في وجه ارتباطه وجهان، والثاني هو المتعيّن، وإليك بيانه:
الأوّل ما ذكره صاحب الكشاف، وحاصله، أنّ اندكاك الجبل كان ردّ فعل لطلب الرؤية حتى يقف موسى على استعظام ما أقدم عليه من السؤال، وإن كان بإلحاح قومه وإصرارهم، وكأنّه عزّ وجلّ حقّق عند طلب الرؤية ما ذكره في مورد آخر، أعني: نسبة الولد إليه، أعني قوله: (وتخرّ الجبال هداً* أن دعوا للرّحمن ولداً).(3)
________________________________________
1. الأنعام:75. 2. التكاثر:5ـ6. 3. الكشاف:1/575.
________________________________________
(216)
يلاحظ عليه: أنّ سياق الآية، سياق الهداية والبرهنة على أنّه لا يُرى، وعلى ما ذكره يكون الكلام وارداً موضع العتاب الخفيف على موسى، لأجل طلب الرؤية من جانب قومه، ليقف على استعظام عمله وعظم أثره، وهو اندكاك الجبل وانخراره وصيرورته تراباً، وهذا لا ينطبق على ظاهر الآية وإن استحسنه الزمخشري وقال:
«وهذا كلام وارد في أُسلوب عجيب ونمط بديع، فقد تخلص من النظر إليه إلى النظر إلى الجبل بكلمة الاستدراك».
الثاني: أنّ الاستدراك بمنزلة التعليل لقوله:«لن تراني» والمقصود بيان ضعف الإنسان وعدم طاقته لرؤيته سبحانه، وقد بين ذلك بتجلّيه على الجبل فصار دكاً،وهوأقوى من الإنسان وأرسخ منه، فإذا كان هذا حال الجبل فكيف حال الإنسان الذي يشاركه في كونه موجوداً مادياً خاضعاً للسنن الكونية، وقد (خلق الإنسان ضعيفاً)؟!
وبذلك يحفظ على سياق الآية وارتباط أجزائها بعضها ببعض.
وأمّا ما هو المقصود من تجلّيه سبحانه، فالتجلّي هو الانكشاف والظهور بعد الخفاء، قال سبحانه: (وَاللّيلِ إِذا يَغْشى* وَالنَّهارِ إِذا تَجَلّى) (1) فالليل يغشى النهار ويستره، ثمّ يتجلّى النهار ويظهر بالتدريج. والمقصود من تجلّيه سبحانه هو تجلّيه بآثاره وأفعاله. وبما أنّ نتيجة التجلّي كانت اندكاك الجبل وصيرورته تراباً، كان التجلّي بنزول الصاعقة على الجبل التي تقلع الأشجار، وتهدم البيوت وتذيب الحديد، وتحدث الحرائق، وتقتل من تصيبه من الناس، وليست هي إلاّ شرارة كهربائية تنتج من اتحاد كهربائية سحابة في الجو مع الكهربائية الأرضية، فتكون نتيجة الاتحاد هي الصاعقة وبروز الشرارة، وما يرى من نورها هو البرق، وما يسمع هو الرعد، وهو صوت الشرارة الكهربائية التي تخرق طبقات الهواء.
فإذا كان الإنسان عاجزاً وفاقداً للطاقة في مقابل تجلّيه بفعله وأثره، فأولى
________________________________________
1.    الليل:1ـ2.
________________________________________
(217)
أن يكون عاجزاً في مقابل تجلّيه بذاته ونفسه.
وبذلك تتبيّن دلالة الآية على عدم إمكان رؤيته، فضلاً عن دلالته على إمكانها.
قد عرفت أنّ الأشاعرة استدلّت بهذه الآية بوجهين، وقد ظهر مدى صحّة الوجه الأوّل، وإليك بيان الوجه الثاني:
الوجه الثاني
قالوا: إنّه تعالى علّق الرؤية على استقرار الجبل، وهو أمر ممكن في نفسه، والمعلّق على الممكن ممكن، لأنّ معنى التعليق أنّ المعلّق يقع على تقدير وقوع المعلّق عليه. والمحال في نفسه لا يقع على شيء من التقادير.
يلاحظ عليه: أنّ الاستدلال مبني على أن يكون المراد من قوله سبحانه (فإن استقر مكانه) هو إمكان الاستقرار. ولا شكّ أنّه أمر ممكن، ولكن الظاهر أنّ المراد هو استقراره بعد تجلّيه، وهو بعد لم يستقر عليه، بدليل قوله سبحانه:(جعله دكاً) وهذا نظير قولك: «أنا أعطيك هذا الكتاب إن صليت» والمراد قيام المخاطب بها بالفعل لا إمكان قيامه.
وبذلك يظهر أنّ ما حكاه صاحب الانتصاف عن أحمد بن حنبل لا يفيد القائلين بالرؤية، فقد نقل عنه أنّ من حيل القدرية في إحالة الرؤية ما يقولون إنّه سبحانه علّق الرؤية على شرط محال وهو استقرار الجبل حال دكّه. والمعلّق على المحال محال. وهذه حيلة باطلة، فإنّ المعلّق عليه استقرار الجبل من حيث هو استقرار، وذلك ممكن جائز، وحينئذ نقول: استقرار الجبل ممكن وقد علّق عليه وقوع الرؤية، والمعلّق على الممكن ممكن.(1)
وغير خفي على النبيه أنّ المعلّق عليه ليس ما حكي عن المعتزلة، وهو استقرار الجبل حال دكّه، ولا ما ذهب إليه أحمد من إمكان الاستقرار، بل
________________________________________
1. الانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال للإمام ناصر الدين أحمد بن محمد الاسكندري المالكي بهامش الكشاف:1/575.
________________________________________
(218)
المعلّق عليه وجود الاستقرار وبقاؤه بعد تجلّي الرب سبحانه، ولم يكن هذا واقعاً.
وباختصار، إنّ إمكان الرؤية، علّق على وجود الاستقرار وتحقّقه بعد التجلّي، وهو حسب الفرض لم يقع. وينتج أنّ الرؤية ليست أمراً ممكناً.
الآية الثالثة
قوله سبحانه: (إِذا تُتْلى عَليهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الأَوّلينَ* كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ)* كَلاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذ لَمَحْجُوبونَ)* ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الجَحيم) .(1)
قال الرازي: «احتج أصحابنا بقوله سبحانه: (كَلاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَومَئِذ لَمَحْجُوبُون)على أنّ المؤمنين يرون سبحانه و تعالى. قال:ولولا ذلك لم يكن للتخصيص فائدة، ثمّ قال: وفيه تقرير آخر، وهو أنّه تعالى ذكر هذا الحجاب في معرض التهديد والوعيد للكفّار، وما يكون وعيداً وتهديداً للكفّار لا يجوز حصوله في حقّ المؤمن».(2)
والاستدلال مبني على أنّ المراد هو كون الكفّار محجوبين عن رؤيته سبحانه مع أنّ المناسب لظاهر الآية كونهم محجوبين عن رحمة ربّهم بسبب الذنوب التي اقترفوها، وبأي دليل حملها الرازي على الحرمان من الرؤية؟
على أنّ المعرفة التامة به تعالى، التي هي فوق الرؤية الحسية بالأبصار الظاهرة، تكون حاصلة لكلّ الناس يوم القيامة، إذ عندئذ ترتفع الحجب المتوسطة بينه تعالى و بين خلقه، قال سبحانه: (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ هُوَ الحَقُّ المُبينُ) .(3)
وقال سبحانه: (لَقَدْ كُنْتَ في غَفْلَة مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ )
________________________________________
1. المطففين: 13ـ 16. 2. مفاتيح الغيب:8/354، ط مصر. 3. النور:25.
________________________________________
(219)
فَبَصَرُكَ الْيَومَ حَديد) .(1)
الآية الرابعة
قوله سبحانه:(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) .(2)
قالوا:إنّ المراد من «الحسنى» هو الجنة و من «زيادة» هو رؤية الله. قال الرازي: إنّ الحسنى لفظ مفرد دخل عليه حرف التعريف، فانصرف إلى المعهود السابق وهو دار السلام المذكور في الآية المتقدمة: (وَالله يَدعُو إِلى دار السَّلام)وَإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد من «زيادة» أمراً مغايراً لكلّ ما في الجنة من المنافع والتعظيم، وإلاّ لزم التكرار، وكلّ من قال بذلك قال: إنّما هي رؤية الله.(3)
يلاحظ عليه: أنّه لا دليل على حمل اللام على العهد، بل المراد الجنس، والمراد أنّ الذين أحسنوا لهم المثوبة الحسنى مع زيادة على ما يستحقونه. قال سبحانه: (ليوفّيهم أُجورهُمْ ويزيدهم من فَضله) ويؤيده ذيل الآية التي تليها(وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَة بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ الله مِنْ عاصِم كَأْنَّما أُغشيِتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).(4)
وأنت إذا قارنت بين الآيتين تقضي بأنّ المراد: إنّ للذين أحسنوا في الدنيا، المثوبة الحسنى مع زيادة عمّا يستحقونه،والّذين كسبوا السّيئات لا يجزون إلاّ بمثلها، وليس في الآية إشعار برؤية الله، فضلاً عن الدلالة.
وبذلك يتبين مفاد آية أُخرى، أعني قوله سبحانه: (ادْْخُلُوها بِسَلام ذلِكَ)
________________________________________
1. ق:22. 2. يونس:26. 3. مفاتيح الغيب:8/354. 4. يونس:27.
________________________________________
(220)
يَومُ الخُلُودِ)* لَهُمْ ما يَشاءُونَ فِيها وَلَدَيْنا مَزيد) (1) فالآيتان تشيران إلى ما يفيده قوله: (فَأَمّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَدِّبُهُمْ عَذاباً أَليماً) .(2)
ولقد جرى الحقّ على قلم الرازي إذ قال: ويحتمل أن يكون المعنى: عندنا ما نزيده على ما يرجون وعلى ما يشتهون.
الآية الخامسة
قوله سبحانه:(وَاسْتَعينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنّها لَكَبيرَةٌ إِلاّ عَلى الخاشِعينَ) *الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِليهِ راجِعُونَ) .(3)
قالوا: «إنّ الملاقاة تستلزم الرؤية بحكم العقل».(4)!
يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ لقاء الربّ لو كان مستلزماً لرؤيته، فهو عام للمؤمن والكافر، قال سبحانه: (يا أَيُّهَا الإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقيه* فَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمينِهِ)* فَسَوفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسيراً) .(5) مع أنّ الأشاعرة يخصّون الرؤية بالمؤمن.
وثانياً: أنّ المراد بلقاء الله وقوف العبد موقفاً لا حجاب بينه و بين ربّه، كما هو الشأن يوم القيامة الذي هو ظرف ظهور الحقائق. قال الله تعالى: (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ هُوَ الحَقُّ المُبينُ) .(6)
وقال سبحانه: (لِمَنِ المُلْكِ اليَومَ للّهِ الواحِدِ القَهّارِ) .(7)
وقال سبحانه:(لَقَدْ كُنْتَ في غَفْلَة مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ)
________________________________________
1. ق: 34ـ 35. 2. النساء:173. 3. البقرة:45، 46. 4. مفاتيح الغيب:2/346، ط مصر. 5. الإنشقاق:6ـ8. 6. النور:25. 7. غافر:16.
________________________________________
(221)
غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَومَ حَديدُ) .(1) والمراد من كشف الحجب هو وصول الإنسان في الإذعان والإيمان إلى حد لا يبقى معه أيّ شك وتردد.
إنّ الإنسان في المشهد الأخروي يبلغ مبلغاً من الكمال، يدرك حضوره عند خالقه وبارئه، وذلك نفس حقيقةوجود الممكن وواقعيته، إذ لا حقيقة للوجود الإمكاني إلاّ قوامه بعلّته،و تعلّقه بموجده، تعلّق المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي، والإنسان في ذلك المشهد يجد نفسه حاضرة عند بارئها حضوراً حقيقياً كما يجد ذاته حاضرة لدى ذاته، والعلم الحضوري لا يختصّ بالعلم بالذات، بل يعم العلم بالموجد الذي هو قائم به.
وباختصار: فرقٌ بين أن يتصوّر الإنسان تعلّقه ببارئه، وبين أن يجد تلك الواقعة التعلقية بوجودها الخارجي. فذلك الحضور والشهود، شهود بين القلب، وحضور بتمام الوجود، لا يصل الأوحدي في الدنيا، كما يصل إليه الإنسان في المشهد الأُخروي.
وإلى ذلك يشير ما روي عن أمير المؤمنين علي ـ عليه السَّلام ـ حين جاءه حبر وقال له: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربّك حين عبدته؟ فقال: ويلك، ما كنت أعبد ربّاً لم أره. قال: وكيف رأيته؟ قال: ويلك، لا تدركه العيون بمشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان.(2)
ونظيره ما روي عن أبي جعفر ـ عليه السَّلام ـ حيث سئل عن أيّ شيء يعبد؟ قال: «الله تعالى». فقيل له: رأيته؟ قال: «لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، لا يعرف بالقياس، ولا يدرك بالحواس، ولا يشبه بالناس، موصوف بالآيات، معروف بالعلامات، لا يجور في حكمه، ذلك الله لا إله إلاّ هو». فخرج السائل وهو يقول: الله أعلم حيث يجعل رسالته.(3)
________________________________________
1. ق: 22. 2. الكافي:1، كتاب التوحيد، باب في إبطال الرؤية، الحديث 6. 3. المصدر السابق، الحديث5.
________________________________________
(222)
ويحتمل أن يكون المراد من لقاء الله هو يوم البعث، ويؤيده قوله سبحانه: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ الله) (1) فكنّى بلقاء الله عن يوم البعث، لأنّ الكافرين ما كانوا يكذبون إلاّ بيوم البعث، قال سبحانه: (فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا).(2)
وقال تعالى: (يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرونَكُمْ لِقاءَ يَومِكُمْ هذا).(3)
وقال عزّاسمه: (وَقيلَ الْيَومَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَومِكُمْ هذا) .(4)
وإنّما كنّي عن لقاء يوم البعث بلقاء الله، لأنّه سبحانه يتجلّى للإنسان بقدرته وسلطانه، ووعده ووعيده، ولطفه وكرمه، وعزّه وجلاله، وجنوده وملائكته، إلى غير ذلك من شؤونه. فيصح أن يقال: إنّ هذا اليوم يوم لقاء الرب، فإنّ لقاء الآثار والآيات الدالة على عظمة صاحبها، نوع لقاء له.
ويرشدك إلى ما ذكرنا قوله سبحانه: (إِنَّ الّذِينَ لا يَرجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها...) (5) فجعل عدم رجاء لقاء الرب في مقابل الرضى بالحياة الدنيا، يدل على أنّ المراد من لقاء الرب هو الحياة الأُخروية، الملازمة لشهود آياته وآثاره العظيمة.
وما أوردناه من الآيات هي من أهمّ ما استدل به الأشاعرة، وبقيت هناك آيات ربما تمسكوا بها ولكنّها لا تمت إلى مقصودهم بصلة. ولأجل ذلك تركنا التعرض لها.
الاستدلال على الرؤية بالسنَّة
استدلّ القائلون بالرؤية بالأدلّة السمعية، منها الكتاب، وقد عرفت المهم منها، ومنها السنّة، ونكتفي بالمهم منها أيضاً:
________________________________________
1. لأنعام:31. 2. السجدة:14. 3. الزمر:71. 4. الجاثية:24. 5. يونس:7.
________________________________________
(223)
روى البخاري في باب «الصراط جسر جهنم» بسنده عن أبي هريرة قال: قال أُناس: يا رسول الله هل نرى ربّنا يوم القيامة؟ فقال: هل تضارّون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: هل تضارّون في القمر ليلة البدر ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: فإنّكم ترونه يوم القيامة، كذلك يجمع الله الناس فيقول: من كان يعبد شيئاً فليتبعه، فيتبع من كان يعبد الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت، وتبقى هذه الأُمّة فيها منافقوها، فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربّكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربّنا، فإذا أتانا ربّنا عرفناه، فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربّكم، فيقولون: أنت ربّنا فيتبعونه ويضرب جسر جهنم... إلى أن يقول: و يبقى رجل مقبل بوجهه على النار فيقول: يا ربّ قد قشبني ريحها،وأحرقني ذكاؤها، فاصرف وجهي عن النار، فلا يزال يدعو الله فيقول: لعلّك إن أعطيتك أن تسألني غيره.
فيقول: لا وعزّتك لا أسألك غيره، فيصرف وجهه عن النار، ثمّ يقول بعد ذلك: يا رب قرّبني إلى باب الجنة، فيقول: أليس قد زعمت أن لا تسألني غيره؟ ويلك ابن آدم ما أغدرك، فلا يزال يدعو فيقول: لعلّك إن أعطيتك ذلك تسألني غيره، فيقول: لا وعزّتك لا أسألك غيره، فيعطي الله من عهود ومواثيق أن لا يسأله غيره، فيقربه إلى باب الجنّة فإذا رأى ما فيها، سكت ما شاء الله أن يسكت، ثمّ يقول: ربّي أدخلني الجنة، ثمّ يقول: أو ليس قد زعمت أن لا تسألني غيره، ويلك يابن آدم ما أغدرك، فيقول: يا ربّ لا تجعلني أشقى خلقك، فلا يزال يدعو حتى يضحك (الله)، فإذا ضحك منه أذن له بالدخول فيها... الحديث.(1)
ورواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة مع اختلاف يسير.(2)
________________________________________
1. البخاري:8/117باب الصراط جسر جهنم. 2. صحيح مسلم:1/113، باب معرفة طريق الرؤية.
________________________________________
(224)
ورواه أيضاً عن أبي سعيد الخدري باختلاف غير يسير في المتن وفيه:حتى إذا لم يبق إلاّ من كان يعبد الله تعالى من بر وفاجر أتاهم رب العالمين سبحانه وتعالى في أدنى صورة من التي رأوه فيها، قال: فما تنتظرون تتبع كلّ أُمّة ما كانت تعبد، قالوا: يا ربّنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم، فيقول: أنا ربّكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، لا نشرك بالله شيئاً، مرتين أو ثلاثاً حتى أنّ بعضهم ليكاد أن ينقلب، فيقول: هل بينكم وبينَه آية فتعرفونه بها، فيقولون: نعم، فيكشف عن ساق، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه، إلاّ أذن الله له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد اتّقاءً ورياءً إلاّ جعل الله ظهره طبقة واحدة، كلّما أراد أن يسجد خرّ على قفاه...الحديث.(1)
وقد نقل الحديث في مواضع من الصحيحين بتلخيص. ورواه أحمد في مسنده.(2)
تحليل الحديث
إنّ هذا الحديث مهما كثرت رواته، وتعددت نَقَلَتُه لا يصحّ الركون إليه في منطق الشرع والعقل بوجوه:
1. إنّه خبر واحد لا يفيد شيئاً في باب الأُصول والعقائد، وإن كان مفيداً في باب الفروع والأحكام، إذ المطلوب في الفروع هو الفعل والعمل،وهو أمر ميسور سواء أذعن العامل بكونه مطابقاً للواقع أم لا، بل يكفي قيام الحجّة على لزوم الإتيان به، ولكن المطلوب في العقائد هو الإذعان وعقد القلب ونفي الريب والشكّ عن وجه الشيء، وهو لا يحصل من خبر الواحد ولا من خبر الاثنين، إلاّ إذا بلغ إلى حدّ يورث العلم والإذعان، و هو غير حاصل بنقل شخص أو شخصين.
________________________________________
1. صحيح مسلم:1/115، باب معرفة طريق الرؤية. 2. مسند أحمد بن حنبل:2/368.
________________________________________
(225)
2. إنّ الحديث مخالف للقرآن الكريم، حيث يثبت لله صفات الجسم ولوازم الجسمانية كما سيوافيك بيانه عن السيد الجليل شرف الدين ـ رحمه الله ـ .
3. ماذا يريد الراوي في قوله: «فيأتي الله في غير الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربّكم»؟ فكأنّ لله سبحانه صوراً متعدّدة يعرفون بعضها، وينكرون البعض الآخر، وما ندري متى عرفوا التي عرفوها، فهل كان ذلك منهم في الدنيا، أو كان في البرزخ أم في الآخرة؟
4. ماذا يريد الراوي من قوله: «فيقولون: نعم، فيكشف عن ساق، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه...»؟ فإنّ معناه أنّ المؤمنين والمنافقين يعرفونه سبحانه بساقه، فكانت هي الآية الدالة عليه.
5. كفى في ضعف الحديث ما علّق عليه العلاّمة السيد شرف الدين ـ رحمه الله ـ حيث قال: إنّ الحديث ظاهر في أنّ لله تعالى جسماً ذا صورة مركبة تعرض عليها الحوادث من التحول والتغير، وأنّه سبحانه ذو حركة وانتقال، يأتي هذه الأُمّة يوم حشرها، وفيها مؤمنوها ومنافقوها، فيرونه بأجمعهم ماثلاً لهم في صورة غير الصورة التي كانوا يعرفونها من ذي قبل. فيقول لهم: أنا ربّكم، فينكرونه متعوذين بالله منه، ثمّ يأتيهم مرّة ثانية في الصورة التي يعرفون. فيقول لهم: أنا ربّكم، فيقول المؤمنون والمنافقون جميعاً: نعم، أنت ربّنا وإنّما عرفوه بالساق، إذ كشف لهم عنها، فكانت هي آيته الدالة عليه، فيتسنّى حينئذ السجود للمؤمنين منهم، دون المنافقين، وحين يرفعون رؤوسهم يرون الله ماثلاً فوقهم بصورته التي يعرفون لا يمارون فيه، كما كانوا في الدنيا لا يمارون في الشمس والقمر، ماثلَيْن فوقهم بجرميهما النيرين ليس دونهما سحاب، وإذ به، بعد هذا يضحك ويعجب من غير معجب، كما هو يأتي ويذهب، إلى آخر ما اشتمل عليه الحديثان ممّا لا يجوز على الله تعالى، ولا على رسوله، بإجماع أهل التنزيه من أشاعرة وغيرهم، فلا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم.(1)
________________________________________
1. كلمة حول الرؤية: 65، وهي رسالة قيمة في تلك المسألة، وقد مشينا على ضوئها ـ رحم الله مؤلفها رحمة واسعة ـ .
________________________________________
(226)
إنّ أحمد بن حنبل احتج في مجلس المعتصم بحديث جرير، فقال المعتصم للقاضي أحمد بن أبي داود: «ما تقول في هذا؟» فقال القاضي: إنّه يحتجّ بحديث جرير، وإنّما رواه عنه قيس بن حازم، وهو أعرابي بوّال على عقبيه.(1)
استدلال المنكرين بالعقل
استدلّ المنكرون بوجوه عقلية:
الأوّل:
إنّ الرؤية البصرية لا تقع إلاّ أن يكون المرئي في جهة ومكان، ومسافة خاصة بينه و بين رأيه، أن يكون مقابلاً لعين الرائي، وكلّ ذلك ممتنع على الله سبحانه، والقول بحصول الرؤية بلا هذه الشرائط أشبه بتمنّي المحال.
الثاني: إنّ الرؤية إمّا أن تقع على الله كلّه فيكون مركباً محدوداً متناهياً محصوراً، وإمّا أن تقع على بعضه فيكون مبعّضاً مركباً، وكلّ ذلك ممّا لا يلتزم به أهل التنزيه.
الثالث: إنّ كلّ مرئي بجارحة العين يشار إليه بحدقتها، وأهل التنزيه كالأشاعرة وغيرهم ينزّهونه سبحانه عن الإشارة إليه بإصبع أو غيره.
الرابع: إنّ الرؤية بالعين الباصرة لا تتحقّق إلاّ بوقوع النور على المرئي وانعكاسه منه إلى العين، والله سبحانه منزّه عن كلّ ذلك.
وإلى هذا الدليل يشير الإمام الهادي أبو الحسن علي بن محمد العسكري عليمها السَّلام فيما رواه الكليني عن أحمد بن إدريس، عن أحمد بن إسحاق قال: كتبت إلى أبي الحسن الثالث ـ عليه السَّلام ـ أسأله عن الرؤية وما اختلف فيه الناس. فكتب : «لا تجوز الرؤية ما لم يكن بين الرائي والمرئي هواء ينفذه البصر، فإذا انقطع الهواء عن الرائي والمرئي لم تصح الرؤية».(2)
________________________________________
1. مناقب أحمد:1/391. 2. الكافي:1/97، كتاب التوحيد، باب في إبطال الرؤية، الحديث4.
________________________________________
(227)
ومراده من الهواء هو الأثير الحامل للنور ونحوه.
الاستدلال بالكتاب
استُدِلَّ على امتناع رؤيته سبحانه بآيات:
الآية الأُولى: قوله سبحانه:(ذلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْء فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْء وَكيلٌ* لا تُدْرِكُهُ الأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطيفُ الخَبيرُ).(1)
الإدراك مفهوم عام لا يتعين في البصري أو السمعي أو العقلي، إلاّبإضافته إلى الحاسّة التي يراد الإدراك بها، فالإدراك بالبصر يراد منه الرؤية بالعين، والإدراك بالسمع يراد منه السماع، ولأجل ذلك لو قال قائل: أدركته ببصري وما رأيته، أو قال: رأيته وما أدركته ببصري يعدّ متناقضاً، والآية بصدد بيان علوّه، وأنّه تعالى تفرّد بهذا الوصف، وهو أنّه يرى ولا يُرى، كما تفرَّد سبحانه بأنّه يطعم ويجير، ولا يطعم ولا يجار عليه، قال سبحانه: (قُل أَغَيْرَ اللّهِ أَ تَّخِذُ وَلِيّاً فاطِرِالسَّمواتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) (2) وقال سبحانه: (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْء وَهُوَ يُجيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) .(3)
وإن شئت قلت: إنّ الأشياء في مقام التصوّر على أصناف:
1. ما يرى و يُرى(بالضم) كالإنسان.
2. مالا يرى ولا يُرى كالأعراض النسبية، أي: الكيف والكم.
3. ما يُرى ولا يرى كالجمادات.
________________________________________
1. الأنعام:102، 103. 2. الأنعام:14. 3. المؤمنون: 88.
________________________________________
(228)
4. ما يرى ولا يُخرى، وهذا القسم تفرّد به سبحانه، وأنّه تعالى لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار.
وبعبارة أُخرى: إنّه سبحانه لمّا قال:(وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْء وَكيل) ربما يتبادر إلى بعض الأذهان أنّه إذا صار وكيلاً على كلّ شيء، يكون جسماً قائماً بتدبير الأُمور الجسمانية، فدفعه بأنّه سبحانه مع كونه وكيلاً لكلّ شيء (لا تُدْرِكُهُ الأَبصار)ولمّا يتبادر من ذلك الوصف، إلى بعض الأذهان أنّه إذا تعالى عن تعلّق الأبصار فقد خرج عن حيطة الحس، وبطل الاتصال الوجودي الذي هو مناط الإدراك والعلم بينه و بين مخلوقاته، دفعه بقوله: (وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصار) ثمّ علّل بقوله: (وَهُوَ اللَّطيفُ الْخَبير)، واللّطيف وهو الرقيق النافذ في الشيء و الخبير من له الخبرة الكاملة، فإذا كان تعالى محيطاً بكلّ شيء لرقته ونفوذه في الأشياء، كان شاهداً على كلّ شيء، لا يفقده ظاهر كلّ شيء وباطنه، ومع ذلك فهو عالم بظواهر الأشياء وبواطنه، من غير أن يشغله شيء عن شيء، أو يحتجب عنه شيء بشيء.(1)
ومن عجيب التأويل: قول الأشعري: إنّ قوله سبحانه:(لا تُدْرِكُهُ الأَبْصار): تأويله الصحيح: إمّا أنّ الأبصار لا تدركه تعالى في الدنيا ولكن تدركه في الآخرة.
وإمّا أنّ أبصار الكافرين لا تدركه.
(2)
ولا يخفى أنّه تأويل لا شاهد له، وهو يهاجم المعتزلة بنظير هذه التأويلات، وقد ارتكبه هو في الذب عن مذهبه.
وحسبك في توضيح الآية ما ذكره الإمام الطاهر علي بن موسى الرضا ـ عليه السَّلام ـ في تفسير الآية، روى العياشي في تفسيره عن الأشعث بن حاتم قال: قال ذو الرئاستين: قلت لأبي الحسن الرضا ـ عليه السَّلام ـ : جعلت
________________________________________
1. الميزان:7/308بتلخيص. 2. الإبانة: 17.
________________________________________
(229)
فداك، أخبرني عمّا اختلف فيه الناس من الرؤية، فقال بعضهم: لا يُرى. فقال: يا أبا العباس من وصف الله بخلاف ما وصف به نفسه، فقد أعظم الفرية على الله، قال الله: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأَبصار وهو اللَّطيف الخبير).(1)
وهناك حديث آخر عن الإمام الطاهر علي بن موسى الرضا ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ : قال أبو قرة للإمام الرضا ـ عليه السَّلام ـ : إنّا رُوينا أنّ الله عزّ وجلَّ قسم الرؤية والكلام بين اثنين، فقسم لموسى ـ عليه السَّلام ـ الكلام، ولمحمّد ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ الرؤية؟ فقال أبو الحسن ـ عليه السَّلام ـ : فمن المبلّغ عن الله عزّوجلّ إلى الثقلين: الجن والإنس: (لا تُدْرِكُهُ الأَبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبصار) ، و(وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) ، و (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيء)أليس محمداً ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ؟ قال: بلى. قال: فكيف يجيء رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم أنّه جاء من عند الله، وأنّه يدعوهم إلى الله بأمر الله ويقول:(لا تُدْرِكُهُ الأَبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبصار)،(وَلا يُحيطُونَ بِهِ عِلْماً) ، و (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيء)ثمّ يقول: أنا رأيته بعيني، وأحطت به علماً، وهو على صورة البشر، أما تستحيون؟ ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا: أن يكون يأتي عن الله بشيء، ثمّ يأتي بخلافه من وجه آخر.(2)
كلام الرازي حول الآية
وإنّ تعجب فعجب قول الرازي: «إنّ أصحابنا(الأشاعرة) احتجوا بهذه الآية على أنّه يجوز رؤيته، والمؤمنون يرونه في الآخرة» فإنّ الآية لو لم تدل على مقالة المنكِر، لا تدل على مقالة المثبت، ولما كان موقف الرازي في المقام موقف المفسر الذي اتخذ لنفسه عقيدة وفكرة، حاول أن يثبت دلالة الآية على ما يرتئيه بوجوه عليلة، وإليك تلك الوجوه:
________________________________________
1. تفسير العياشي:1/373 الحديث 79. 2. التوحيد للصدوق: 110ـ 111، الحديث 9، وقد استدلّ الإمامعليه السَّلام بعدة آيات على امتناع رؤيته، وسيوافيك بيان دلالتها.
________________________________________
(230)
(الأوّل): أنّ الآية في مقام المدح، فلو لم يكن جائز الرؤية لما حصل التمدّح بقوله: (لا تدركه الأبصار) ألا ترى أنّ المعدوم لا تصحّ رؤيته، والعلوم والقدرة والإرادة والروائح والطعوم، لا تصحّ رؤية شيء منها، ولا مُدح شيء منها في كونها لا تدركها الأبصار، فثبت أنّ قوله : (لا تدركه الأبصار) يفيد المدح، ولا يصحّ إلاّ إذا صحت الرؤية.
يلاحظ عليه: أوّلاً: لو كان المدح دليلاً على إمكان الرؤية فليكن المدح في الآية التالية دليلاً على إمكان ما ذكر فيها، قال سبحانه: (وَقُلِ الْحَمْدُ للّهِ الَّذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَريكٌ فِي المُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبيراً).(1) فلو دل سلب شيء عن شيء على إمكان ثبوته له، لدلت الآية على جواز اتخاذه الولد والشريك، ممّا يعد مستحيلاً في نفسه عليه تعالى.
وثانياً: أنّ المدح ليس بالجزء الأوّل وهو (لا تدركه الأبصار) بل بمجموع الجزءين المذكورين في الآية، واللّهـ سبحانه جلّت عظمته ـ يدرك، ولكن لعلوّ شأنه، ومقامه لا يُدرك.
(الثاني): أنّ لفظ الأبصار، صيغة جمع دخل عليها الألف واللام فهي تفيد الاستغراق بمعنى أنّه لايدركه جميع الأبصار، وهذا يفيد سلب العموم ولا يفيد عموم السلب.
يلاحظ عليه: أنّ المتبادر في المقام هو الثاني لا الأوّل، وأيّ عبارة أصرح من الآية في الدلالة على أنّه لا يدركه أحد من جميع ذوي الأبصار من مخلوقاته، وأنّه تعالى يدركهم، وهذا هو المفهوم من نظائره.
قال سبحانه: (إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتدين) (2)، و قال سبحانه: (فَإِنَّ)
________________________________________
1. الإسراء:111. 2. البقرة:190.
________________________________________
(231)
اللّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرينَ) (1)، (وَاللّهُ لا يُحِبُّ الْظالِمينَ) .(2)
قال الإمام عليّ ـ عليه السَّلام ـ : «الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون، ولا يحصي نعماءه العادّون، ولا يؤدّي حقّه المجتهدون، الذي لا يدركه بعد الهمم، ولا يناله غوص الفِطَن».(3)
فهل يحتمل الرازي أنّ المراد من هذه الجمل سلب العموم وأنّ بعض القائلين والعادّين والمجتهدين يبلغ مدحته، ويحصي نعماءه، ويؤدّي حقّه؟
(الثالث): أنّ الله تعالى لا يُرى بالعين وإنّما يرى بحاسة سادسة، يخلقها الله تعالى يوم القيامة لما دلّت عليه الآية (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصار) ، لتخصيص نفي إدراك الله، بالبصر، وتخصيص الحكم بالشيء يدلّ على أنّ الحال في غيره بخلافه، فوجب أن يكون إدراك الله بغير البصر جائزاً، ولما ثبت أنّ سائر الحواس الموجودة الآن لا تصلح لذلك، ثبت أنّ الله تعالى يخلق حاسة سادسة فينا تحصل رؤية الله بها.
يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ محور البحث رؤية الله بالعيون والأبصار لا بحاسة سادسة، فماذ كره خروج من محل البحث والأشاعرة تبعاً لإمامهم، يقولون برؤية الله سبحانه في الآخرة بهذه العيون كفلق القمر، وتفسير الرؤية بخلق حاسة سادسة، رجم بالغيب.
ثانياً: كيف رضي الإمام بأنّ مفهوم قوله: (لا تدركه الأبصار) أنّه يدرك بغير الأبصار، فحاول التفتيش عن الحاسة التي يدرك بها يوم القيامة، فهداه التدبر إلى القول بأنّه يدرك بحاسة سادسة، فهل يقول به في نظائره؟ إذا قال قائل: «ما رأيت بعيني» و«ما سمعت بأذني»، فهل معناهما أنّه رآه بغير عينه أو سمعه بغير أذنه؟
________________________________________
1. آل عمران:32. 2. آل عمران:57. 3. نهج البلاغة: الخطبة الأُولى.
________________________________________
(232)
هذا ولو سمح لي أدب البحث والنقد، لقلت بأنّ ما ذكره الرازي أشبه بالمهزلة، وليست محاولته هذه إلاّ أنّه بصدد إصلاح ما اتخذه من موقف مسبق في هذا المجال. وإلاّ فالرازي ينبغي أن يترفع عن مثل هذا الكلام.
ولأجل ذلك ضربنا عن الوجه الرابع صفحاً، لكونه في الوهن مثل الثالث(1)، بل أوهن منه.
الآية الثانية: قوله سبحانه: (يَومَئِذ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَولاً* يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحيطُونَ بِهِ عِلْماً) .(2)
إنّ الرؤية سواء أوقعت على الكل أم على الجزء، نوع إحاطة به سبحانه عنها. والآية في كيفية البيان نظير الآية السابقة، وتختلفان في تقدّم الإيجاب وتأخّر السلب هنا، عكس الآية السابقة.
فقوله: (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) نظير قوله: (وهو يدرك الأبصار).
وقوله: (ولا يحيطون به علماً) نظير قوله: (لاتدركه الأبصار) .
والضمير في (ولا يحيطون به) يرجع إلى الله. واحتمل الرازي لأجل الفرار من دلالة الآية على امتناع رؤيته سبحانه رجوع الضمير إلى (ما بين أيديهم و ما خلفهم) أي لا يحيط العباد بما فيهما. وهو تأويل لأجل تثبيت موقف مسبق، لأنّ عدم علم العباد بما فيهما، أمر واضح لا حاجة لذكره هنا بلا موجب، وإنّما المناسب هو ذكر إحاطته سبحانه بعباده، وعدم إحاطتهم به، فالآية تصف علمه تعالى بهم في موقف الآخرة، وهو (مابين أيديهم) ، و قبل أن يحضروا الموقف في الدنيا وهو (وما خلفهم) ، فهم محاطون بعلمه، ولا يحيطون به علماً فيجزيهم بما فعلوا، وقد عرفت أنّ الرؤية نوع إحاطة.
________________________________________
1. راجع للوقوف على هذه الوجوه تفسير الرازي:4/118ـ 119. 2. طه:109ـ 110.
________________________________________
(233)
الآية الثالثة: (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَومِهِ يا قَومِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا اِلى بِارئِكُمْ فَاْقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوّابُ الرَّحيمُ* وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذْتُكُمُ الصّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ).(1)
إذا كان جزاء اتخاذ العجل معبوداً هو قتل الأنفس، كان جزاء الطالبين رؤية الله تعالى جهرة هو الأخذ بالصاعقة. وهذا يدلّ على أنّ الجرمين من باب واحد. فكما أنّ عبدة العجل جسّدوا الإله في العجل فطلبة الرؤية والمصرّون عليها، صوّروه جسماً أو عرضاً قابلاً للرؤية، فكلتا الطائفتين ظلموا ربّهم ونزّلوا الإله المتعالي عن الكيف والتشبيه والتجسيم والتجسيد ـ حسب زعمهم ـ إلى حضيض الأجسام والماديات والصور والأعراض، فاستحقوا جزاءً واحداً، وهو أخذهم من أديم الأرض بقتل أنفسهم، أو حرقهم بالصاعقة.
وإن شئت قلت: إنّ التماس الرؤية لو كان التماس أمر ممكن، لم يكن في سؤالهم بأس أبداً، فإمّا أن تجاب دعوتهم أو ترد، ولا يصحّ إحراقهم بالصاعقة كما في سؤالهم الآخر.(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعام واحِد فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذي هُوَ اَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) .(2)
الآية الرابعة: إنّه سبحانه ما ذكر سؤال الرؤية إلاّ استعظمه، وما نوّه به إلاّ استفظعه،ولو كانت الرؤية أمراً جائزاً وشيئاً ممكناً، لما كان لهذا الاستعظام وجه، وكان سؤالهم لها مثل سؤال الأُمم أنبياءهم بأنّهم لا يؤمنون إلاّ أن يحيي الموتى، أو غير ذلك، من دون الاستعظام والاستفظاع.
وإليك هذه الآيات:
1. (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكِتابِ اَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأْلُوا)
________________________________________
1. البقرة:54ـ 55. 2. البقرة:61.
________________________________________
(234)
مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا العِجْلَ مِنْ بَعْدِما جاءَتْهُمُ البَّيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبيناً) .(1)
فسمّى سبحانه نفس السؤال ظلماً وعدواناً، ويكفي في الاستعظام قوله (فقد سألوا موسى أكبر من ذلك) وقوله (ثمّ اتخذوا العجل) فكان السؤال واتخاذ العجل من باب واحد.
2. (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَولا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبّنا لَقَدِ اسْتَكْبَروا في أَنْفُسِهمْ وَعَتَوا عُتُوّاً كَبيراً).(2)
3.(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرى الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ)(3).(4)
فلو كانت الرؤية جائزة وهي عند مجوزيها من أعظم الجزاء، لم يكن التماسها عتواً، لأنّ من سأل تعالى نعمة في الدنيا لم يكن عاتياً، وجرى مجرى ما يقال: لن نؤمن لك حتى يحيي الله بدعائك هذا الميت.
وباختصار: إنّ هذا الاستعظام والاستفظاع لا يناسب كونه أمراً ممكناً ونعمة من نعمه سبحانه يكرم عباده بها في الآخرة.
الرازي والاستدلال بهذه الآيات
قد اتخذ الرازي في تفسير الآيات موقف المجادل الذي لا يهمه سوى الدفاع عن فكرته، أو موقف الغريق الذي يتشبث بكلّ حشيش وإن كان يعلم أنّه لا يجديه. وإن كنت في ريب ممّا ذكرنا فاستمع لما نتلوه عليك منه وهو بصدد ردّالاستدلال بهذه الآيات من عدّ السؤال أمراً منكراً:
________________________________________
1. النساء:153. 2. الفرقان:21. 3. البقرة:55. 4. وقد مرّت الآية في الحجة الثالثة، ولكن كيفية الاستدلال في المقام تختلف عن ما تقدّم.
________________________________________
(235)
1. إنّ رؤية الله لا تحصل إلاّ في الآخرة، فكان طلبها في الدنيا أمراً منكراً.
يلاحظ عليه: أنّه سبحانه يصف طلب الرؤية في الآيات السابقة بالظلم تارة والاستكبار ثانية، والعتو الكبير ثالثة، وإيجابه العذاب ونزول الصاعقة رابعة.
فهل هذا أنسب مع طلب الأمر المحال، أو أنسب مع طلب الأمر الممكن غير الواقع لمصلحة؟
فهل الظلم(التعدّي عن الحدود) والاستكبار والعتو، يناسب تطّلعهم إلى أمر عظيم رفيع، وهؤلاء أقصر منه وتناسيهم أين التواب ورب الأرباب، أو أنّه يناسب سؤالهم شيئاً ليس خارجاً عن مستواهم، غير أنّ المصلحة أوجبت حرمانهم، لا شكّ أنّ الأُمور الأربعة التي تحكي عن تكون جرم كثير وعصيان فظيع، إنّما هي تناسب الأمر الأوّل لا الثاني.
والذي يكشف عن ذلك أنّه سبحانه عدّ طلب الرؤية من موسى أكبر من سؤال أهل الكتاب من النبي الأكرم تنزيل كتاب عليهم من السماء وقال: (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا الله جَهْرَةً) (1). وليس وجه كون الثاني أكبر من الأوّل سوى كونه أمراً محالاً دون الآخر، وإن كان غير واقع.
2. إنّ حكم الله تعالى أن يزيل التكليف عن العبد حال ما يرى الله، فكان طلب الرؤية طلباً لإزالة التكليف، والرؤية تتضمن العلم الضروري وهو ينافي التكليف.
يلاحظ عليه: أنّه من أين وقف الرازي على أنّ رؤية الله سبحانه في الدنيا لحظة أو لحظات توجب إزالة التكليف؟ فهل ورد ذلك في الكتاب أو السنّة، أو أنّه من نتاج ذهنه وفكرته؟
ثمّ إنّ مزيل التكليف هو حصول غايات التكليف وأهدافه. وليست
________________________________________
1. النساء:153.
________________________________________
(236)
الغاية من التكليف إلاّ التكامل الروحي، والانسلاخ من المادة والماديات، والانسلاك في عداد الروحانيين وليس هذا ممّا يحصل بوقوع البصر على ذاته لحظة أو لحظات، إلاّ أن تحولهم الرؤية إلى إنسان مثالي قد أتم كمالاته، وهل هذا يحصل بصرف الرؤية؟ لا أدري، ولا المنجم يدري، ولا الرازي يدري.
وأقصى ما يعطيه النظر بالأبصار، هو الإذعان وحصول العلم الضروري بوجوده سبحانه عن طريق الحس، وأين هذا من إنسان مثالي صار بالعبادة والطاعة مثلاً لأسمائه، ومجالي لصفاته، وترفع عن حضيض المادية، متوجهاً إلى عالم التجرد.
3. إنّه لما تمت الدلائل على صدق المدّعى، كان طلب الدلائل الأُخرى تعنتاً، والتعنت يستوجب التعنيف.
يلاحظ عليه: أنّ بني إسرائيل أُمّة معروفة بالجدل والعناد، وكانت حياتهم مملوءة بالتعنت. فلماذا لم تأخذهم الصاعقة إلاّ في هذا المورد؟
وهذا يكشف عن كون التعنت في المورد ذا خصوصية، وليست هي إلاّ لأجل إصرارهم على الرؤية عن طريق التكبر والعتو، على تحقّق أمر محال.
4. لا يمنع أن يعلم الله أنّ في منع الخلق عن رؤيته في الدنيا ضرباً من المصلحة المهمة، فلذلك استنكر طلب الرؤية في الدنيا.(1)
يلاحظ عليه: إذا كانت الرؤية أمراً ممكناً وجزاءً للمؤمنين في الآخرة، وقد اقتضت المصلحة منعها عن الخلق في الدنيا، فما معنى هذا التفزيع والاستنكار والاستفظاع؟ فهل طلب شيء خال عن المصلحة، يوجب نزول الصاعقة والإحراق بالنار؟
لم تكن هذه المحاولات الفاشلة صادرة عن الرازي لتبنّي الحقّ والبخوع
________________________________________
1. راجع تفسير الرازي:1/369، ط مصر في ثمانية أجزاء.
________________________________________
(237)
للحقيقة، وإنّما هو نوع تعنت في مقابل أدلّة المحقّين في باب الرؤية. ونعم الحكم الله.
الآية الخامسة: قوله سبحانه: (وَلَما جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَةُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِني اَنْظُر إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَراني وَلكِنِ انْظُرْ إِلى الجَبَلِ فَإنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَراني فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتتُ إِلَيْكَ وَأَنَا اَوّلُ الْمُؤْمِنين).(1)
وقد تعرفت على كيفية الاستدلال بالآية عند سرد أدلّة المثبتين ونقدها، فلا حاجة للتكرار. ولكن نشير إلى بعض الأهواء الساقطة للرازي في الاستدلال بها:
1. لو كانت الرؤية ممتنعة فلماذا طلبها موسى؟
وقد تعرفت على الإجابة عنه فلا نعيد.
2. لو كانت رؤيته مستحيلة لقال لا أرى (بصيغة المجهول). ألا ترى أنّه لو كان في يد رجل حجر. فقال له إنسان: ناولني هذا لآكله، فإنّه يقول له: هذا لا يؤكل، ولا يقول له لا تأكل، ولو كان في يده بدل الحجر تفاحة، لقال له«لا تأكله» أي هذا ممّا يؤكل ولكن لا تأكله. فلما قال تعالى«لن تراني» ولم يقل لا أُرى علمنا أنّ هذا يدل على أنّه تعالى في ذاته جائز الرؤية.
يلاحظ عليه: أنّ الإجابة بـ«لن تراني» مكان «لا أُرى» لأجل حفظ المطابقة بين السؤال والجواب، فلمّا كان السؤال بـ«أرني» وافاه الجواب بـ«لن تراني» وحين سمع القوم إنكاره سبحانه عليه مع نبوّته، علموا أنّهم أولى به. وأنّ رؤيته تعالى شيء غير ممكن، ولو جازت لنبيه.
فأي قصور في دلالة الآية على الامتناع حتى يبدل الجواب بـ«لا أُرى».
________________________________________
1. الأعراف:143.
________________________________________
(238)
3.إنّه سبحانه علّق رؤيته على أمر ممكن جائز، والمعلّق على الجائز، جائز فينتج أنّ الرؤية في نفسها جائزة.
وقد تعرفت على الإجابة عنه.
4. إنّ تجلّيه سبحانه للجبل هو رؤية الجبل لله، وهو لما رآه سبحانه اندكّت أجزاؤه، فإذا كان الأمر كذلك، ثبت أنّه تعالى جائز الرؤية. أقصى ما في الباب أن يقال: الجبل جماد، والجماد يمتنع أن يرى شيئاً، إلاّ أنّا نقول: لا يمتنع أن يقال: إنّه تعالى خلق في ذلك الجبل الحياة والعقل والفهم ثمّ خلق فيه الرؤية متعلّقة بذات الله.(1)
يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من رؤية الجبل إياه سبحانه، مع الحياة والعقل والفهم، شيء نسجته فكرته، وليس في نفس الآية أي دليل عليه، والحافز إلى هذه الحياكة، هو الدفاع عن الموقف المسبق والعقيدة التي ورثها، فإنّ ظاهر الآية أنّ الجبل لم يتحمل تجلّيه سبحانه فدُك وذاب، وبطلت هويته، لا أنّه رآه وشاهده، وقد عرفت أنّ التجلّي كما يكون بالذات، يكون بالفعل أيضاً، ولو كان الجبل لائقاً بهذه الفضيلة الرابية، فنبيّه أولى بها، وفي قدرته سبحانه أن يريه ذاته، مع حفظه عمّا ترتّب على الجبل من الاندكاك، فالنتيجة أنّ العالم بأسره لا يتحمل تجلّيه سبحانه، بفعل أو بوصف من أوصافه، أو باسم من أسمائه.
استدلال المنكرين بالسنّة
لقدعرفت هدي القرآن وقضاءه في الرؤية. وهناك روايات متضافرة عن طريق أهل البيت والعترة الطاهرة الذين جعلهم الرسول ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ أعدال الكتاب وقرناءه، فقال ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ : «إنّي تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلّوا بعدي، كتاب الله عزّوجلّ حبل ممدود
________________________________________
1. تفسير الرازي:4/292ـ 295، ط مصر في ثمانية أجزاء، وقد جعل كلّ واحد من هذه الأُمور حجّة على جواز الرؤية، وقد نقلناه ملخصاً.
________________________________________
(239)
من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتّى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما».(1)
ومن يرجع إلى خطب الإمام ـ عليه السَّلام ـ في التوحيد، وما أثر من أئمّة العترة الطاهرة، يقف على أنّ مذهبهم في ذلك هو امتناع الرؤية، وأنّه لا تدركه أوهام القلوب، فكيف أبصار العيون. وإليك النزر اليسير في ذلك الباب:
1. قال الإمام في خطبة الأشباح: «الأوّل الذي لم يكن له قبل فيكون شيء قبله، والآخر الذي ليس له بعد، فيكون شيء بعده، والرادع أناسي الأبصار عن أن تناله أو تدركه».(2)
2. وقد سأله ذعلب اليماني فقال: هل رأيت ربّك يا أمير المؤمنين؟ فقال ـ عليه السَّلام ـ : «أفأعبد مالا أرى؟!» فقال: وكيف تراه؟ فقال: «لا تدركه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان، قريب من الأشياء غير ملابس، بعيد عنها غير مباين».(3)
3. وقال ـ عليه السَّلام ـ : «الحمد لله الذي لا تدركه الشواهد، ولا تحويه المشاهد ولا تراه النواظر، ولا تحجبه السواتر».(4)
إلى غير ذلك من خطبه ـ عليه السَّلام ـ الطافحة بتقديسه وتنزيهه عن إحاطة الأبصار والقلوب به.(5)
وأمّا المروي عن سائر أئمّة أهل البيت فقد عقد ثقة الإسلام الكليني في
________________________________________
1. مسند أحمد:3/26، وقريب منه ما رواه غيره. 2. نهج البلاغة:(الخطبة: 87) ط مصر للإمام عبده. «أناسي»: جمع إنسان البصر: هو ما يرى وسط الحدقة ممتازاً عنها في لونها. 3. نهج البلاغة: الخطبة:174. 4. نهج البلاغة: الخطبة:180. 5. لاحظ الخطب: 48و 81و....
________________________________________
(240)
كتاب «الكافي»، باباً خاصاً للموضوع روى فيه ثماني روايات.(1)
كما عقد الصدوق في كتاب التوحيد باباً لذلك روى فيه إحدى وعشرين رواية، فيها نور القلوب وشفاء الصدور.(2) ومن أراد الوقوف فليرجع إلى تلك الجوامع الحديثية.
________________________________________
1. الكافي:1/95، باب إبطال الرؤية. 2. التوحيد: 107ـ 122، الباب8.
 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية