كلام الله غير مخلوق أو قديم

البريد الإلكتروني طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 2 ، ص 253 ـ  270
________________________________________
(253)
(14)
كلام الله غير مخلوق أو قديم

لقد شاع في أواخر القرن الثاني، كون كلام الله غير مخلوق وقد اعتنقه أهل الحديث وفي مقدمهم إمام الحنابلة، وتحمل في طريق عقيدته هذه ألوان التعذيب، وقد اعتنقوا هذه الفكرة مع الاعتراف بأنّه لم يرد فيها نصّ من رسول الله ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ، ولا جاء من الصحابة فيها كلام.
وقد تسربت تلك العقيدة مثل القول بالتشبيه والتجسيم إلى المسلمين من اليهودية والنصرانية، حيث قال اليهود بقدم التوراة(1) والنصرانية بقدم الكلمة (المسيح).
يقول أبو زهرة: كثر القول حول القرآن الكريم في كونه مخلوقاً أو غير مخلوق، وقد عمل على إثارة هذه المسألة، النصارى الذين كانوا في حاشية البيت الأموي وعلى رأسهم يوحنا الدمشقي، الذ ي كان يبث بين علماء النصارى في البلاد الإسلامية طرق المناظرات التي تشكّك المسلمين في دينهم، وينشر بين المسلمين الأكاذيب عن نبيّهم، مثل زعمه عشق النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ لزينب بنت جحش، فقد جاء في القرآن أنّ عيسى بن مريم كلمته ألقاها إلى مريم، فكان يبث بين المسلمين أنّ كلمة الله قديمة، فيسألهم أكلمته قديمة أم لا؟ فإن قالوا: لا...فقد قالوا: إنّ كلامه مخلوق(2)،
________________________________________
1. اليهودية: ص 222 تأليف أحمد شلبي كما في بحوث مع السلفيين: 153. 2. يراد أنّه مختلق و مزور.
________________________________________
(254)
وإن قالوا: قديمة... ادّعى أنّ عيسى قديم.(1)
وعلى ذلك وجد من قال إنّ القرآن مخلوق، ليرد كيد هؤلاء، فقال ذلك الجعد بن درهم، وقاله الجهم بن صفوان، وقالته المعتزلة واعتنق ذلك الرأي المأمون.
وقد أعلن في سنة 212، أنّ المذهب الحقّ هو أنّ القرآن مخلوق، وأخذ يدعو لذلك في مجلس مناظراته، وأدلى في ذلك بما يراه حججاً قاطعة في هذا الموضوع، وقد ترك المناقشة حرة، والناس أحراراً فيما يقولون.
ولكن في سنة 218 وهي السنة التي توفي فيها، بدا له أن يدعو الناس بقوة السلطان إلى اعتناق هذه الفكرة، ومن الغريب أنّه ابتدأ بهذا وهو خارج بغداد، وقد خرج مجاهداً فكتب هذه الكتب وهو بمدينة الرقة، وأخذ يرسل الكتب لحمل الناس على اعتناق عقيدة أنّ القرآن مخلوق، إلى نائبه ببغداد إسحاق بن إبراهيم، وقد جاء في بعض كتبه:وأعلمهم أنّ أمير المؤمنين غير مستعين في عمله، ولا واثق فيمن قلده واستحفظه من أُمور رعيته بمن لا يوثق بدينه، وخلوص توحيده ويقينه، فإذا أقروا بذلك ووافقوا أمير المؤمنين فيه وكانوا على سبيل الهدى والنجاة، فمرهم بنصّ من يحضرهم من الشهود على الناس ومسألتهم عن علمهم في القرآن وترك شهادة من لم يقر بأنّه مخلوق محدث.(2)
وقد سارع نائبه ببغداد إلى تنفيذ ما أمر به، لكنّه تجاوز الحدّ السلبي إلى الحدّ الإيجابي فأحضر المحدثين والفقهاء فسألهم عن عقيدتهم حول القرآن،
________________________________________
1. «ولا شكّ أنّ ذلك تلبيس، لأنّ معنى كلمة الله، أنّ الله خلقه بكلمة منه، كما نصّ على ذلك في آيات أُخرى، لا أنّه هو ذات كلمة الله». هذا ما أفاده أبو زهرة في تعليقته على كتابه. والحقّ أنّ المسيح كلمة الله نفسها، وليس المسيح وحده كذلك، بل الموجودات الإمكانية كلّها كلامه تعالى. قال سبحانه: (وَلو أنّ ما فِي الأَرض مِنْ شَجَرة أَقلام وَالبَحر يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَة أَبْحُر ما نَفِدَتْ كَلمات الله) (لقمان:27). 2. تاريخ الطبري: 7/196، والرسالة مبسوطة.
________________________________________
(255)
وأعلن الكلّ عن اعتناق ما كتبه المأمون سوى أربعة، فأصرّوا على عدم كون القرآن مخلوقاً وهم:«أحمد بن حنبل»، و«محمد بن نوح»، و«القواريري»، و«سجادة» فشدوا بالوثاق. لكن الكلّ رجعوا عن عقيدتهم إلاّ اثنان وهما: ابن نوح وأحمد بن حنبل، فسيقا إلى طرطوس ليلتقيا بالمأمون، ومات الأوّل في الطريق، وبقي أحمد، وبينا هم في الطريق مات المأمون وترك وصية بها من بعده أن يؤخذ بسيرته في خلق القرآن، وقد تولى الحكم المعتصم ثمّ الواثق فكانا على سيرة المأمون في مسألة خلق القرآن.(1)
ولمّا تولّى المتوكّل الحكم انقلب الأمر وصارت الظروف مناسبة لصالح المحدثين، وفي هذا الجو أعلن إمام الحنابلة عقيدته في القرآن بالقول بعدم كونه مخلوقاً.
وقال محقّق كتاب«الأُصول الخمسة» للقاضي عبد الجبار: الحديث في القرآن وكلام الله من أهمّ المشاكل التي عرضت لمفكري الإسلام. وقد أثارت ضجة كبيرة في صفوف العلماء والعامة، وارتبطت بها محنة كبيرة تعرف بمحنة الإمام أحمد بن حنبل، وكان شعار النظريتين المتنازعتين«هل القرآن مخلوق أم غير مخلوق؟». فتزعم المعتزلة جهة المنادين بخلق القرآن واستجلبوا لصفهم خليفة من أعظم الخلفاء وهو المأمون، ووزيراً من أعظم وزراء بني العباس هو أحمد بن أبي دؤاد، وذهب ضحية الخلاف كثيرون، وثبت القائلون بأنّه غير مخلوق على رأيهم وليس لهم من أُمور الحكم بشيء. وتراجع القائلون بخلق القرآن تحت ضغط الناس، وخرج أحمد بن حنبل من المحنة ظافراً يضرب به المثل في الثبات على العقيدة، كما سجل المعتزلة بموقفهم ومحاولتهم أخذ الناس بالعنف على القول برأيهم أسوأ مثال على التدخل في الحرية الفكرية، مع أنّهم روّادها الأوائل.
أقول: و(2)ليس هذا أوّل قارورة كسرت في الإسلام، وكم في تاريخ خلفاء
________________________________________
1. تاريخ المذاهب الإسلامية: 294ـ 296 بتلخيص. 2. الأُصول الخمسة للقاضي عبد الجبار: 527.
________________________________________
(256)
الإسلام من ضغط وعنف وتدخل في الحرية الفكرية!!
هؤلاء هم شيعة أهل البيت عاشوا قروناً بين إخوانهم المسلمين تحت ستار التقية خوفاً على نفوسهم ودمائهم وأموالهم.
وعلى أي تقدير فقد قال المحقّق المزبور: إنّ أوّل من تفوّه بقدم القرآن هو عبد الله بن كلاب، لأنّ السلف كانوا يتحرجون من وصف القرآن بأنّه قديم و قالوا فقط غير مخلوق، لكن المعتزلة زادوا بأنّ كلام الله مخلوق محدث، وميز الأشعري متابعاً لابن كلاب بين الكلام النفسي الأزلي القديم، والكلام المتعلّق بالأمر والنهي والخبر وهو حادث.(1)
وأمّا ابن تيمية ففرّق بين كونه غير مخلوق وكونه قديماً وقال: وكما لم يقل أحد من السلف إنّه (أي كلام الله) مخلوق، لم يقل أحد منهم إنّه قديم، ولم يقل واحداً من القولين أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا من بعدهم من الأئمّة الأربعة ولا غيرهم... وأوّل من عرف أنّه قال هو قديم عبد الله بن سعيد بن كلاب.(2)
والظاهر الواضح أنّ القول بأنّ السلف القائلين بعدم خلق القرآن، لا يقولون بقدم القرآن، والتفريق بين عدم الخلق والقدم لا يعدو عن أن يكون كذباً وغير صحيح.
فأوّلاً: إنّ ابن الجوزي يصرّح بأنّ الأئمّة المعتمد عليهم قالوا إنّ القرآن كلام الله قديم.(3)
وثانياً: إنّ معنى كون شيء غير مخلوق هو أنّه قديم، إذ لو فرض كونه غير قديم مع كونه غير مخلوق ، فلابدّ و أن يكون قد حدث ووجد من العدم بنفسه، وهو واضح البطلان، قال سبحانه: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ)
________________________________________
1. الأُصول الخمسة: 528. 2. مجموعة الرسائل:3/20. 3. المنتظم في ترجمة الأشعري: 6/332.
________________________________________
(257)
شَيْء) ) (1).(2)
ولأجل إيضاح الحال نأتي بما جاء به أحمد بن حنبل وأبو الحسن الأشعري في ذلك المجال.
قال أحمد بن حنبل: والقرآن كلام الله ليس بمخلوق، فمن زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهمي كافر، ومن زعم أنّ القرآن كلام الله عزّوجلّ ووقف، ولم يقل مخلوق ولا غير مخلوق، فهو أخبث من الأوّل. ومن زعم أنّ ألفاظنا بالقرآن وتلاوتنا له مخلوقة، والقرآن كلام الله، فهو جهمي، ومن لم يكفِّر هؤلاء القوم كلّهم فهو مثلهم.
وكلّم الله موسى تكليماً، من الله، سمع موسى يقيناً، وناوله التوراة من يده، ولم يزل الله متكلماً عالماً، تبارك الله أحسن الخالقين.
(3)
وقال أبو الحسن الأشعري: ونقول إنّ القرآن كلام الله غير مخلوق وإنّ من قال بخلق القرآن فهو كافر.(4)
وقد نقل عن إمام الحنابلة أنّه قيل له: هاهنا قوم يقولون: القرآن لا مخلوق ولا غير مخلوق. فقال: هؤلاء أضر من الجهمية على الناس، ويلكم فإن لم تقولوا: ليس بمخلوق فقولوا مخلوق. فقال أحمد: هؤلاء قوم سوء، فقيل له: ما تقول؟ قال: الذي اعتقد وأذهب إليه ولا أشك فيه أنّ القرآن غير مخلوق. ثمّ قال: سبحان الله، ومن شكّ في هذا؟(5)
هذا ما لدى المحدثين والحنابلة والأشاعرة. وأمّا المعتزلة: فيقول القاضي عبد الجبار: أما مذهبنا في ذلك: أنّ القرآن كلام الله تعالى ووحيه وهو
________________________________________
1. الطور:35. 2. بحوث مع أهل السنّة والسلفية: 158. 3. كتاب السنة: 49. 4. الإبانة: 21، ولاحظ مقالات الإسلاميين: 321. 5. الإبانة: 69، وقد ذكر في: ص 76 أسماء المحدثين القائلين بأنّ القرآن غير مخلوق.
________________________________________
(258)
مخلوق حدث، أنزله الله على نبيّه ليكون علماً ودالاً على نبوته، وجعله دلالة لنا على الأحكام، لنرجع إليه في الحلال والحرام واستوجب منّا بذلك الحمد والشكر، وإذاً هو الذي نسمعه اليوم و نتلوه، وإن لم يكن محدثاً من جهة الله تعالى فهو مضاف إليه على الحقيقة، كما يضاف ما ننشده اليوم من قصيدة امرئ القيس على الحقيقة، وإن لم يكن امرؤ القيس محدثاً لها الآن.(1)
وقبل الخوض في تحليل المسألة نقدّم أُموراً:
1. إذا كانت مسألة خلق القرآن أو قدمه بمثابة أوجدت طائفتين يكفّر كلّ منهما عقيدة الآخر فإمام الحنابلة يقول: إنّ من زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهمي كافر. وقالت المعتزلة: إنّ القول بكون القرآن غير مخلوق أو قديم، شرك بالله سبحانه، فيجب تحليلها على ضوء العقل والكتاب والسنة بعيداً عن كلّ هياج ولغط. وممّا لا شكّ فيه أنّ المسألة قد طرحت في أجواء خاصة، عزّ فيها التفاهم وساد عليها التناكر، وإلاّ فلا معنى لمسلم يؤمن بالله ورسوله، وكتابه وسنته، التنازع في أمر تزعم إحدى الطائفتين أنّه ملاك الكفر وأنّ التوحيد في خلافه، وتزعم الطائفة الأُخرى عكس ذلك.
ولو كانت مسألة خلق القرآن بهذه المثابة لكان على الوحي، التصريح بأحد القولين، ورفع الستار عن وجه الحقيقة، مع أنّا نرى أنّه ليس في الشريعة الإسلامية نصّ في المسألة، وإنّما طرحت في أوائل القرن الثاني. نعم، استدلت الأشاعرة ببعض الآيات، غير أنّ دلالتها خفية، لا يقف عليها ـ على فرض الدلالة ـ إلاّ الأوحدي. وما يعد ملاك التوحيد والشرك يجب أن يرد فيه نصّ لا يقبل التأويل، ويقف عليه كلّ حاضر وباد...
2. قد عرفت أنّ بعض السلف كانوا يتحرّجون من وصف القرآن بأنّه قديم، وقالوا فقط إنّه غير مخلوق. ثمّ إنّ القائلين بهذا القول تدرّجوا فيه ووصفوا كلام الله بأنه قديم، ومن المعلوم أنّ توصيف شيء بأنّه غير مخلوق أو قديم ممّا لا يتجرّأ عليه العارف، لأنّ هذين الوصفين من خصائص ذاته
________________________________________
1. شرح الأُصول الخمسة: 258.
________________________________________
(259)
سبحانه، فلو كان كلامه سبحانه غير ذاته فكيف يمكن أن يتصف بكونه غير مخلوق، أو كونه قديماً. ولو فرضنا صحّة تلك العقيدة التي لا ينالها إلاّ الأوحدي في علم الكلام، فكيف يمكن أن تكون هذه المسألة الغامضة ممّا يجب الاعتقاد به على كلّ مسلم، مع أنّ الإنسان البسيط بل الفاضل لا يقدر أن يحلل ويدرك كون شيء غير الله سبحانه، وفي الوقت نفسه غير مخلوق.
إنّ سهولة العقيدة ويسر التكليف من سمات الشريعة الإسلامية وبهما تفارق سائر المذاهب السائدة على العالم، مع أنّ تصديق كون كلامه تعالى ـ و هو غير ذاته ـ غير مخلوق أو قديم، شيء يعسر فهمه على الخاصة، فكيف على العامة.
3. إنّ الظاهر من أهل الحديث هو قدم القرآن المقروء، الأمر الذي تنكره البداهة والعقل ونفس القرآن. وقد صارت تلك العقيدة بمنزلة من البطلان حتى تحامل عليها الشيخ محمد عبده إذ قال: «والقائل بقدم القرآن المقروء أشنع حالاً وأضلّ اعتقاداً عن كلّ ملّة جاء القرآن نفسه بتضليلها والدعوة إلى مخالفتها».(1)
ولمّا رأى ابن تيمية الذي يظن نفسه مروّجاً لعقيدة أهل الحديث، أنّها عقيدة تافهة، صرح بحدوث القرآن المقروء وحدوث قوله تعالى: (يا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ) و (يا أَيُّهَا المُدَّثِّر) وقوله: (قَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الّتي تُجادِلُكَ في زَوْجِها)... إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على حدوث النداء والسمع من حينه لا من الأزل.(2)
والعجب أنّه استدلّ بدليل المعتزلة على حدوث القرآن المقروء، وقال : إنّ ترتيب حروف الكلمات الجمل يستلزم الحدوث آنَ تحقُّقِ كلمة «بسم الله»، يتوقف على حدوث الباء وانعدامها، ثمّ حدوث السين كذلك إلى آخر
________________________________________
1. رسالة التوحيد، الطبعة الأُولى وقد حذف نحو صفحة من الرسالة في الطبعات اللاحقة لاحظ: ص 49 من طبعة مكتبة الثقافة العربية. 2. مجموعة الرسائل الكبرى: 3/97.
________________________________________
(260)
الكلمة، فالحدوث والانعدام ذاتي لمفردات الحروف لا ينفك عنها، وذلك حتى يمكن أن توجد كلمة، فإذاً كيف يمكن أن يكون مثل هذا قديماً أزلياً مع الله تعالى؟!
4. لمّا كانت فكرة عدم خلق القرآن أو القول بقدمه شعار أهل الحديث وسمتهم،ومن جانب آخر كان القول بقدم القرآن المقروء والملفوظ شيئاً لا يقبله العقل السليم، جاءت الأشاعرة بنظرية جديدة أصلحوا بها القول بعدم خلق القرآن وقدمه، والتجأوا إلى أنّ المراد من كلام الله ليس هو القرآن المقروء بل الكلام النفسي، وقد عرفت مدى صحّة القول بالكلام النفسي. وليس هذا أوّل مورد تقوم الأشاعرة فيه بإصلاح عقيدة أهل الحديث بشكل يقبله العقل، وعلى كلّ تقدير فالقول بقدم الكلام النفسي ليس بمنزلة القول بقدم القرآن المقروء.
5. كيف يكون القول بخلق القرآن وحدوثه ملاكاً للكفر مع أنّه سبحانه يصفه بأنّه محدث أي أمر جديد. قال سبحانه: (اقْتَرَبَ لِلنّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَة مُعْرِضُونَ* ما يَأْتيهِمْ مِنْ ذِكْر مِنْ رَبِّهِمْ مُحَدَث إِلاّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُون)(1). والمراد من الذكر هو القرآن الكريم لقوله سبحانه: (إِنّا نَحْنُ نَزّلْنا الذِّكْر وَإِنّا لَهُ لَحافِظُون)(2). وقال سبحانه: (وَإِنَّهُ لَذِكرٌ لَكَ وَلِقَومِك) .(3)
والمراد من «محدث» هو الجديد، وهو وصف للذكر، ومعنى كونه جديداً أنّه أتاهم بعد الإنجيل. كما أنّ الإنجيل جديد لأنّه أتاهم بعد التوراة. وكذلك بعض سور القرآن وآياته «ذكرجديد» أتاهم بعد بعض. وليس المراد كونه محدثاً من حيث نزوله، بل المراد كونه محدثاً بذاته بشهادة أنّه وصف لـ«ذكر» فالذكر ـ بذاته وشؤونه ـ محدث، فلا معنى لإرجاع الوصف إلى النزول، بعد كونه محدثاً بالذات.
________________________________________
1. الأنبياء:1ـ2. 2. الحجر:9. 3. الزخرف:44.
________________________________________
(261)
وكيف يمكن القول بقدم القرآن مع أنّه سبحانه يقول في حقّه: (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبنَّ بِالَّذي أَوحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكيلاً)(1). فهل يصحّ توصيف القديم بالإذهاب والإعدام؟
6. العجب أنّ محط النزاع لم يحدد بشكل واضح يقدر الإنسان معه على القضاء فيه، فهاهنا احتمالات نطرحها على بساط البحث ونطلب حكمها من العقل والقرآن:
أ. الألفاظ والجمل الفصيحة البليغة التي عجز الإنسان في جميع القرون عن الإتيان بمثلها، وقد جاء بها أمين الوحي إلى النبي الأكرم وقرأها الرسول فتلقتها الأسماع وحرّرتها الأقلام على الصحف المطهرة.
ب. المعاني السامية والمفاهيم الرفيعة في مجالات التكوين والتشريع والحوادث والأخلاق والأدب أو غيرها.
ج. ذاته سبحانه وصفاته من العلم والقدرة والحياة التي بحث عنها القرآن وأشار إليها بألفاظه وجمله.
د. علمه سبحانه بكلّ ما ورد في القرآن الكريم.
هـ. الكلام النفسي القائم بذاته.
و. كون القرآن ليس مخلوقاً للبشر «وما هو قول البشر».
وهذه المحتملات لا تختص بالقرآن الكريم بل تطَّرد في جميع الصحف السماوية النازلة إلى أنبيائه ورسله، وإليك بيان حكمها من حيث الحدوث والقدم:
أمّا الأوّل: فلا أظن إنساناً يملك شيئاً من الدرك والعقل يعتقد بكونه غير مخلوق أو كونه قديماً، كيف وهو شيء من الأشياء، وموجود من الموجودات، ممكن غير واجب. فإذا كان غير مخلوق وجب أن يكون واجباً
________________________________________
1. الإسراء:86.
________________________________________
(262)
بالذات، وهو نفس الشرك بالله سبحانه. حتى لو فرض أنّه سبحانه تكلم بهذه الألفاظ والجمل، فلا يخرج تكلمه عن كونه فعله، فهل يمكن أن يقال إنّ فعله غير مخلوق أو قديم؟
وأمّا الثاني: فهو قريب من الأوّل في البداهة، فإنّ القرآن يشتمل ـ و كذا سائر الصحف ـ على الحوادث المحقّقة في زمن النبي من محاجّة أهل الكتاب والمشركين وما جرى في غزواته وحروبه من الحوادث المؤلمة أوالمسرّة، فها يمكن أن نقول بأنّ الحادثة التي يحكيها قوله سبحانه: (قَدْ سَمِعَ اللّهُ قَول الَّتي تُجادِلُكَ في زَوجِها وَتَشْتَكي إِلَى اللّهِ وَاللّهُ يَسْمَعُ تَحاوُركُما إِنَّ اللّهَ سَميعٌ بَصيرٌ)(1)، قديمة؟
وقد أخبر الله تبارك و تعالى في القرآن والصحف السماوية عمّا جرى على أنبيائه من الحوادث، وما جرى على سائر الأُمم من ألوان العذاب، كما أخبر عمّا جرى في التكوين من الخلق والتدبير، فهذه الحقائق واردة في القرآن الكريم، حادثة بلا شك لا قديمة.
وأمّا الثالث: فلا شكّ أنّ ذاته وصفاته من العلم والقدرة والحياة وكلّ ما يرجع إليها كشهادته أنّه لاإله إلاّ هو، قديم بلا إشكال، وليس بمخلوق بالبداهة، ولكنّه لا يختصّ بالقرآن، بل كلّما يتكلّم به البشر ويشير به إلى هذه الحقائق. فحقائقه المشار إليها بالألفاظ والأصوات قديمة، وفي الوقت نفسه ما يشير به من الكلام والجمل، حادث.
وأمّا الرابع: أي علمه سبحانه بما جاء في هذه الكتب وما ليس فيها ـ فلا شكّ أنّه قديم بنفس ذاته، ولم يقل أحد من المتكلّمين الإلهيين ـ إلاّمن شذّ من الكرامية ـ بحدوث علمه.
وأمّا الخامس: أعني كونه سبحانه متكلماً بكلام قديم أزلي نفساني ليس بحروف ولا أصوات، مغاير للعلم والإرادة ـ فقد عرفت أنّ ما أسماه الشيخ
________________________________________
1. المجادلة:1.
________________________________________
(263)
الأشعري بكلام نفسي لا يخرج عن إطار العلم والإرادة، ولا شكّ أنّ علمه وإرادته البسيطة قديمان.
وأمّا السّادس: أعني كون الهدف من نفي كونه غير مخلوق القرآن غير مخلوق للبشر، وفي الوقت نفسه هو مخلوق لله سبحانه، فهذا أمر لا ينكره مسلم، فإنّ القرآن مخلوق لله سبحانه، والناس بأجمعهم لا يقدرون على مثله قال سبحانه: (قُلْ لَئِنِ اجَتَمَعتِ الإِنْس وَالجِنّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرآن لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهيراً).(1)
وقد نقل سبحانه عن بعض المشركين الألداء أنّ القرآن قول البشر وقال: (فَقالَ إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ يُؤْثَر* اِنْ هذا إِلاّ قَولُ الْبَشَر) ـ ثمّ أوعده بقوله: ـ (سَأُصليه سَقَر* وَما أَدْراكَ ما سَقَر)* لا تُبْقي ولا تَذرَ) .(2)
وهذا التحليل يعرب عن أنّ المسألة كانت مطروحة في أجواء مشوّشة اختلط فيها الحابل بالنابل، ولم يكن محط البحث محرراً على وجه الوضوح حتى يعرف المثبت عن المنفي، ويمخّض الحقّ من الباطل، ومع هذا التشويش في تحرير محل النزاع، نرى أهل الحديث والأشاعرة يستدلّون بآيات وغيرها على قدم كلامه، وكونه غير مخلوق، وإليك هذه الأدلة واحداً بعد واحد:
أدلّة الأشاعرة على كون القرآن غير مخلوق
استدلّ الأشعري على قدم القرآن بوجوه:
الأوّل: قوله سبحانه: (إِنَّما قُولُنا لِشيء إِذا أرْدناهُ اَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون)(3) قال الأشعري: وممّا يدلّ من كتاب الله على أنّ كلامه غير مخلوق قوله عزّوجلّ: (إِنَّما قُولُنا لِشيء إِذا أَرْدناهُ اَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون). فلوكان القرآن مخلوقاً لوجب أن يكن مقولاً له: «كن فيكون». ولو كان الله عزّوجلّ
________________________________________
1. الإسراء:88. 2. المدثّر:24ـ 28. 3. النحل:40.
________________________________________
(264)
قائلاً للقول«كن» لكان القول قولاً، وهذا يوجب أحد أمرين:
إمّا أن يؤول الأمر إلى أنّ قول الله غير مخلوق.
أو يكون كلّ قول واقعاً بقول لا إلى غاية،وذلك محال،وإذااستحال ذلك، صحّ وثبت أنّ لله عزّ وجلّ قولاً غير مخلوق.(1)
يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ الاستدلال مبني على كون الأمر بالكون في الآية ونظائرها أمراً لفظياً مؤلّفاً من الحروف والأصوات، وأنّه سبحانه كالسلطان الآمر، فكما أنّه يتوسل عند أمر وزرائه وأعوانه باللفظ فهكذا سبحانه يتوسل عند خلق السماوات والأرض باللفظ والقول، فيخاطب المعدوم المطلق بلفظة «كن».
ولا شكّ أنّ هذا الاحتمال باطل جدّاً، إذ لا معنى لخطاب المعدوم. وما يقال في تصحيحه بأنّ المعدوم معلوم لله تعالى ـ فهو يعلم الشيء قبل وجوده، وأنّه سيوجد في وقت كذا ـ غير مفيد، لأنّ العلم بالشيء لا يصحح الخطاب الجدي، وإنّما المراد من الأمر في الآية كما فهمه جمهور المسلمين، هو الأمر التكويني المعبر به عن تعلّق الإرادة القطعية بإيجاد الشيء، والمقصود من الآية: إنّ تعلّق إرادته سبحانه بشيء يستعقب وجوده، ولا يأبى عنه الشيء، وأنّ ما قضاه من الأُمور وأراد كونه، فإنّه يتكون ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف، كالمأمور المطيع الذي يؤمر فيمتثل، لا يتوقف ولا يمتنع ولا يكون منه الإباء. وبذلك تقف على الفرق بين الأمر التكليفي التشريعي الوارد في الكتاب والسنّة، والأمر التكويني، فالأوّل يخاطب به الإنسان العاقل القابل للتكليف ولا يخاطب به غيره فضلاً عن المعدوم، وهذا بخلاف الأمر التكويني فإنّه رمز إلى تعلّق الإرادة القطعية بإيجاد المعدوم.
وهذا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ـ عليه السَّلام ـ يفسر الأمر التكويني بقوله: «يقول لمن أراد كونه، كن، فيكون لا بصوت يقرع، ولا بنداء
________________________________________
1. الإبانة: 52ـ 53.
________________________________________
(265)
يسمع، وإنّما كلامه سبحانه فعل منه، أنشأه ومثله، لم يكن من قبل ذلك كائناً، ولو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً».(1)
وثانياً: نحن نختار الشق الثاني، ولا يلزم التسلسل، ونلتزم بأنّ هنا قولاً سابقاً على القرآن هو غير مخلوق، أوجد به سبحانه مجموع القرآن وأحدثه، حتّى كلمه «كن» الواردة في تلك الآية ونظائرها، فتكون النتيجة حدوث القرآن وجميع الكتب السماوية وجميع كلمه وكلامه إلاّ قولاً واحداً سابقاً على الجميع، فينقطع التسلسل بالالتزام بعدم مخلوقية لفظ واحد، فتدبر.
وثالثاً: كيف يمكن أن تكون كلمة «كن» الواردة في الآية وأمثالها قديمة، مع أنّها إخبار عن المستقبل فتكون حادثة. يقول سبحانه مخبراً عن المستقبل: ( إنّما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) و لأجل ذلك التجأ المتأخرون من الأشاعرة إلى أنّ لفظ «كن» حادث، والقديم هو المعنى الأزلي النفساني.(2)
***
الثاني: قوله سبحانه: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذي خَلَقَ السَّمواتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّام ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَيَطْلُبُهُ حَثيثاً والشَّمْسَ وَالْقَمَرَوَالنُّجُومَ مُسَخَّرات بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبارَكَ الله رَبُّ الْعالَمينَ) .(3)
قال الأشعري: «فالخلق» جميع ما خلق داخل فيه، ولما قال«الأمر» ذكر أمراً غير جميع الخلق. فدلّ ما وصفناه على أنّ الله غير مخلوق. وأمّا أمر الله فهو كلامه.
وباختصار: انّه سبحانه أبان الأمر من الخلق، وأمر الله كلامه، وهذا
________________________________________
1. نهج البلاغة: الخطبة 186. 2. دلائل الصدق حاكياً عن ابن روزبهان الأشعري: 1/153. 3. الأعراف:54.
________________________________________
(266)
يوجب أن يكون كلام الله غير مخلوق.(1)
يلاحظ عليه: أنّ الاستدلال مبني على أنّ «الأمر» في الآية بمعنى كلام الله، وهو غير ثابت، بل القرينة تدلّ على أنّ المراد منه غير ذلك، كيف وقد قال سبحانه في نفس الآية: (والنُّجُوم مُسَخَّرات بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الخَلْق وَالأَمْر) والمراد من اللفظين واحد، والأوّل قرينة على الثاني. وهدف الآية هو أنّ الخلق بمعنى الإيجاد وتدبير الموجد كلاهما من الله سبحانه، وليس شأنه سبحانه خلق العالم والأشياء ثمّ الانصراف عنها وتفويض تدبيره إلى غيره، حتّى يكون الخلق منه، والتدبير على وجه الاستقلال من غيره، بل الكلّ من جانبه سبحانه.
وباختصار: المراد من الخلق هو إيجاد ذوات الأشياء، والمراد من الأمر، النظام السائد عليها: فكأنّ الخلق يتعلّق بذواتها، والأمر بالأوضاع الحاصلة فيها والنظام الجاري بينها. وتدلّ على ذلك بعض الآيات التي يذكر فيها «تدبير الأمر» بعد الخلق.
يقول سبحانه: (إِنَّ رَبّكُمُ الله الَّذي خَلَقَ السَّمواتِ وَالأَرْضَ في سِتَّةِ أَيّام ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ ما مِنْ شَفيع إِلاّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِه).(2)
وقال تعالى: (اللّهُ الَّذي رَفَعَ السَّمواتِ بِغَيْرِ عَمَد تَرَونها ثُمَّ اسْتَوى عَلى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْري لأَجَل مُسَمّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) .(3)
فليس المراد من الأمر ما يقابل النهي، بل المراد الشؤون الراجعة إلى التكوين، فيكون المقصود إنّ الإيجاد أوّلاً، والتصرف والتدبير ثانياً، منه سبحانه، فهو الخالق المالك لا شريك له في الخلق والإيجاد، ولا في الإرادة والتدبير.
________________________________________
1. الإبانة:51ـ 52. 2. يونس:3. 3. الرعد:2.
________________________________________
(267)
وفي الختام نضيف أنّه سبحانه يصف الروح بكونه من مقولة الأمر ويقول: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (1) فهل الأشعري يسمح لمسلم أن يعتقد بكون الروح (بأيّ وجه فسر) المسؤول عنه في الآية غير مخلوق؟!
***
الثالث: قوله سبحانه:(إِنْ هذا إِلاّ قَولُ الْبَشَرِ) (2) قال الأشعري: فمن زعم أنّ القرآن مخلوق فقد جعله قولاً للبشر، وهذا ما أنكره الله على المشركين.(3)
يلاحظ عليه: أنّ من يقول بأنّ القرآن مخلوق لا يريد إلاّ كونه مخلوقاً لله سبحانه. فالله سبحانه خلقه وأوحى به إلى النبي، ونزّله عليه نجوماً في مدة ثلاث وعشرين سنة، وجعله فوق قدرة البشر، فلن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً.
نعم، كون القرآن مخلوقاً لله سبحانه لا ينافي أن يكون ما يقرأه الإنسان مخلوقاً له، لبداهة أنّ الحروف والأصوات التي ينطق بها الناس مخلوقة لهم، وهذا كمعلّقة امرئ القيس وغيرها، فأصلها مخلوق لنفس الشاعر، لكن المقروء مثال له، ومخلوق للقارئ.
والعجب أنّ الأشعري ومن قبله ومن بعده لم ينقّحوا موضع النزاع، فزعموا أنّه إذا قيل «القرآن مخلوق» فإنّما يراد منه كون القرآن مصنوعاً للبشر، مع أنّ الضرورة قاضية بخلافه، فكيف يمكن لمسلم يعتنق القرآن ويقرأ هتاف الباري سبحانه فيه:(نَزَّلَ عَلَيْكَ الكِتابَ بِالْحَقِّ)(4)أن يتفوّه بأنّ القرآن مخلوق للبشر. بل المسلمون جميعاً يقولون في القرآن نفس ما قاله سبحانه في
________________________________________
1. الإسراء:85. 2. المدثر:25. 3. الإبانة:56. 4. آل عمران:3.
________________________________________
(268)
حقّه، غير أنّ المقروء على ألسنتهم مخلوق لأنفسهم، فيكون مثال ما نزّله سبحانه مخلوقاً للإنسان. وكون المثال مخلوقاً ليس دليلاً على أنّ الممثَّل مخلوق لهم. والناس بأجمعهم عاجزون عن إيجاد مثل القرآن، ولكنّهم قادرون على إيجاد مثاله، فلاحظ وتدبّر.
وبذلك تقف على أنّ أكثر ما استدل به الأشعري في كتاب «الإبانة» غير تام من جهة الدلالة، ولا نطيل المقام بإيراده ونقده، وفيما ذكرنا كفاية.
بقيت هنا نكتة ننبه عليها وهي: أنّ المعروف من إمام الحنابلة أنّه ما كان يرى الخوض في المسائل التي لم يخض فيها السلف الصالح، لأنّه ما كان يرى علماً إلاّ علم السلف. فما يخوضون فيه يخوض فيه، وما لا يخوضون فيه من أُمور الدين يراه ابتداعاً يجب الإعراض عنه. وهذه مسألة لم يتكلم فيها السلف فلا يتكلّم فيها. والمبتدعون هم الذين يتكلمون، وعلى هذا ، كان عليه أن يسير وراءهم،وكان من واجبه حسب أُصوله، التوقّف وعدم النبس في هذا الموضوع ببنت شفة. نعم، نقل عنه ما يوافق التوقف ـ رغم ما نقلناه عنه من خلافه ـ وأنّه قال: من زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهمي، ومن زعم أنّه غير مخلوق فهو مبتدع.
ويرى المحقّقون أنّ إمام الحنابلة كان في أوليات حياته يرى البحث حول القرآن ـ بأنّه مخلوق أو غير مخلوق ـ بدعة، ولكنّه بعد ما زالت المحنة وطلب منه الخليفة العباسي المتوكل، المؤيد له، الإدلاء برأيه، اختار كون القرآن ليس بمخلوق. ومع ذلك لم يؤثر عنه أنّه قال إنّه قديم.(1)
موقف أهل البيت ـ عليهم السَّلام ـ
إنّ تاريخ البحث وما جرى على الفريقين من المحن، يشهد بأنّ التشدد فيه لم يكن بهدف إحقاق الحقّ وإزاحة الشكوك. بل استغلت كلّ طائفة تلك المسألة للتنكيل بخصومها. فلأجل ذلك نرى أنّ أئمّة أهل البيت
________________________________________
1. تاريخ المذاهب الإسلامية: 300.
________________________________________
(269)
ـ عليهم السَّلام ـ منعوا أصحابهم عن الخوض في تلك المسألة، فقد سأل الريان بن الصلت، الإمام الرضا ـ عليه السَّلام ـ وقال له: ما تقول في القرآن؟ فقال: «كلام الله لا تتجاوزوه ولا تطلبوا الهدى في غيره فتضّلوا».
وروى علي بن سالم، عن أبيه قال: سألت الصادق جعفر بن محمد فقلت له: يابن رسول الله ما تقول في القرآن؟ فقال: «هو كلام الله، وقول الله، وكتاب الله، ووحي الله، وتنزيله، وهو الكتاب العزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل حكيم حميد».
وحدّث سليمان بن جعفر الجعفري قال: «قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر ـ عليهم السَّلام ـ : يابن رسول الله، ما تقول في القرآن؟ فقد اختلف فيه من قبلنا، فقال قوم إنّه مخلوق، وقال قوم إنّه غير مخلوق؟ فقال ـ عليه السَّلام ـ : «أمّا إنّي لا أقول في ذلك ما يقولون، ولكنّي أقول إنّه كلام الله».
فإنّا نرى أنّ الإمام ـ عليه السَّلام ـ يبتعد عن الخوض في تلك المسألة لمّا رأى أنّ الخوض فيها ليس لصالح الإسلام، وأنّ الاكتفاء بأنّه كلام الله أحسم لمادة الخلاف. ولكنّهم ـ عليهم السَّلام ـ عندما أحسّوا بسلامة الموقف، وهدوء الأجواء أدلوا برأيهم في الموضوع، وصرّحوا بأنّ الخالق هو الله، وغيره مخلوق، والقرآن ليس نفسه سبحانه، وإلاّ يلزم اتحاد المنزل(بالكسر) والمنزل، فهو غيره، فيكون لا محالة مخلوقاً.
فقد روى محمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني قال: كتب علي بن محمد بن علي بن موسى الرضا ـ عليهم السَّلام ـ إلى بعض شيعته ببغداد: «بسم الله الرّحمن الرّحيم، عصمنا الله وإيّاك من الفتنة، فإن يفعل فقد أعظم بها نعمة، وإن لا يفعل فهي الهلكة، نحن نرى أنّ الجدال في القرآن بدعة اشترك فيها السائل والمجيب، فيتعاطى السائل ما ليس له، ويتكلّف المجيب ما ليس عليه، وليس الخالق إلاّ الله عزّوجلّ، وما سواه مخلوق، والقرآن كلام الله، لا تجعل له اسماً من عندك فتكون من الضالّين، جعلنا الله وإيّاك من الّذين
________________________________________
(270)
يخشون ربّهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون».(1)
في الروايات المروية إشارة إلى المحنة التي نقلها المؤرّخون، فقد كان أحمد بن أبي دؤاد في عصر المأمون كتب إلى الولاة في العواصم الإسلامية أن يختبروا الفقهاء والمحدّثين في مسألة خلق القرآن، وفرض عليهم أن يعاقبوا كلّ من لا يرى رأي المعتزلة في هذه المسألة. وجاء المعتصم والواثق فطبقا سيرته وسياسته مع خصوم المعتزلة، وبلغت المحنة أشدّها على المحدثين،وبقي أحمد بن حنبل ثمانية عشر شهراً تحت العذاب فلم يتراجع عن رأيه. ولماجاء المتوكل العباسي نصر مذهب الحنابلة وأقصى خصومهم، فعند ذلك أحس المحدّثون بالفرج، وأحاطت المحنة بأُولئك الذين كانوا بالأمس القريب يفرضون آراءهم بقوة السلطان.
فهل يمكن عدّ مثل هذا الجدال جدالاً إسلامياً، وقرآنياً، لمعرفة الحقيقة وتبيينها، أو أنّه كان وراءه شيء آخر. والله العالم بالحقائق وضمائر القلوب.
________________________________________
1. توحيد الصدوق، باب القرآن ما هو، الأحاديث: 2و 3و 4و 5.
 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية