العدل

البريد الإلكتروني طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 3 ، ص 339 ـ 345
________________________________________
(339)
الأصل الثاني
العدل
هذا هو الأصل الثّاني من الاُصول الخمسة، والأصل الأوّل يهدف إلى تنزيه ذاته سبحانه عمّا لا يجوز حمله عليه، وتمييزه عمّا يجوز، و هذا يهدف إلى أفعاله سبحانه و تمييز ما يجوز عليه عمّا لا يجوز، فإذا وصفنا القديم تعالى بأنّه عدل حكيم، فالمراد به أنّه لا يفعل القبيح أو لا يختاره ولا يخلّ بما هو واجب عليه وإنّ أفعاله كلّها حسنة. وخالفتهم المجبِّرة و أضافت إلى الله تعالى كلّ قبيح، وقد تعرّفت على تعريف القاضي لهذا الأصل في مدخل البحث عن الاُصول الخمسة.
وخلاصة هذا الأصل عند العدليّة من غير فرق بين المعتزلة والإماميّة، هو أنّ الله عزّوجلّ عدل كريم، خلق الخلق لعبادته، وأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته، وعمّهم بهدايته، بدأهم بالنِّعم و تفضّل عليهم بالاحسان. لم يكلِّف أحداً إلاّ دون الطاقة، ولم يأمره إلاّ بما جعل له عليه الاستطاعة. لا عبث في صنعه ولا قبيح في فعله. جلّ عن مشاركة عباده في الأفعال، وتعالى عن اضطرارهم إلى الأعمال لا يعذِّب أحداً إلاّ على ذنب فعله، ولا يلوم عبداً إلاّ على قبيح صنعه. لا يظلم مثقال ذرّة، وإن تك حسنة يضاعفها و يؤت من لدنه أجراً عظيماً.
ثمّ إنّ لهذا الأصل دوراً كبيراً في تطوير المسائل الكلاميّة، وهو الحجر الأساس لكثير من آراء المعتزلة كما نشير إليها. وهو يبتنى على التّحسين والتّقبيح العقليّين، فلو ثبتا بالبرهان العقلي، يثبت العدل كما ثبت كلّ ما بنى عليه من المسائل، وإلاّ يصبح الأساس والبناء خاليين من البرهان. وترى ما ذكرنا في نصّ القاضي، يقول:
________________________________________
(340)
«إنّ العَدْل مصدر عَدَلَ يَعْدلُ عَدْلاً، ثمّ قد يذكر و يراد به الفعل، وقد يذكر و يراد به الفاعل، فإذا وصف به الفعل، فالمراد به كلّ فعل حسن يفعله الفاعل لينفع به غيره أو ليضرّه.
فأمّا إذا وصف به الفاعل، فعلى طريق المبالغة كقولهم للصائم:صوم، ونحن إذا وصفنا القديم تعالى بأنّه عدل حكيم، فالمراد به أنّه لا يفعل القبيح، أو لا يختاره، ولا يخلّ بما هو واجب عليه، وأنّ أفعاله كلّها حسنة، وقد خالفنا في ذلك المجبِّرة وأضافت إلى الله تعالى كلّ قبيح
»(1).
إنّ إثبات عدله سبحانه مبنيّ على ثبوت اُمور ثلاثة:
الأوّل: إنّ هناك أفعالاً تتّصف بذاتها بالحسن والقبح.
الثاني: إنّ الله تعالى عالم بحسن الأشياء و قبحها.
الثّالث: إنّه سبحانه لا يصدر منه القبيح.
أمّا الأوّل: فقد برهنوا عليه بوجوه مختلفة، أوضحها ما أشار إليه أبو عبدالله البصري في عبارة مختصرة و قال: «إنّ كلّ عاقل يستحسن بكمال عقله التّفرقة بين المحسن والمسيء، وإنّما تفرق بينهما الحسنة و إلاّ فلا نفع في ذلك ولا دفع ضرر».
قال القاضي عبدالجبّار: «ومعرفة حسن الأفعال أو قبحها كمعرفة حسن الصِّدق وقبح الكذب، إنّما يعلم ببداهة العقول. أمّا استنباط وجوه الحسن أو القبح في فعل معيّن فذلك يحتاج الى تفكير و استدلال، ومن ثمّ لا تختلف العقول في التّمييز بين حسن الأفعال وقبحها على وجه الجملة، كمعرفة قبح الظّلم، ولكنّها تختلف في الحكم على الإفعال تفصيلاً، فيستحسن الخوارج قتل مخالفيهم بينما تستقبح ذلك معظم فرق المسلمين»(2).
________________________________________
1. شرح الاُصول الخمسة: ص 301. 2. المغني: ج 6، ص 20.
________________________________________
(341)
توضيحه إنّ في الحكمة النّظريّة قضايا نظريّة تنتهي إلى قضايا بديهيّة، ولولا ذلك لعقمت القياسات و صارت غير منتجة، ومثلها الحكمة العمليّة، ففيها قضايا غير معلومة لا تعرف إلاّ بالانتهاء إلى قضايا ضروريّة، وإلاّ لما عرف الإنسان شيئاً من قضايا الحكمة العمليّة. فكما أنّ العقل يدرك القضايا البديهيّة في الحكمة النظريّة من صميم ذاتها، فهكذا يدرك بديهيّات القضايا في الحكمة العمليّة من صميم ذاتها بلا حاجة إلى تصوّر شيء آخر.
مثلاً، إنّ كلّ القضايا النظريّة يجب أن تنتهي إلى قضيّة امتناع اجتماع النّقيضين وارتفاعهما، بحيث لو ارتفع التّصديق بهما لما أمكن التّصديق بشيء من القضايا ولذا تسمّى بـ «أمّ القضايا» فلا يحصل اليقين بأنّ زوايا المثلّث مثلاً تساوي قائمتين، إلاّ إذا حصل قبله امتناع صدق نقيض تلك القضيّة، أي عدم مساواتها لهما. وإلاّ فلو احتمل صدق النّقيض لما حصل اليقين بالنّسبة، ولأجل ذلك اتّفقت كلمة الحكماء على أنّ إقامة البرهان على المسائل النّظريّة إنّما تتمّ إذا انتهى البرهان إلى أُمّ القضايا الّتي قد عرفت.
وعلى ضوء هذا البيان نقول: كما أنّ للقضايا النّظرية في العقل النّظري قضايا بديهيّة أو قضايا أوّليّة تنتهي إليها، فهكذا القضايا غير الواضحة في العقل العملي يجب أن تنتهي إلى قضايا أوّليّة و واضحة عند ذلك العقل، بحيث لو ارتفع التّصديق بهذه القضايا في الحكمة العمليّة لما صحّ التّصديق بقضيّة من القضايا فيها.
فمن تلك القضايا البديهيّة في العقل العملي مسألة التّحسين والتّقبيح العقليّين الثابتين لجملة من القضايا مثل قولنا: «العدل حسن» و «الظّلم قبيح» و «جزاء الإحسان بالإحسان حسن» و «جزاء الإحسان بالإساءة قبيح». فهذه القضايا قضايا أوّلية في الحكمة العمليّة، والعقل العملي يدركها من ملاحظة القضيّة بنفسها وفي ضوئها يحكم بما ورد في مجال العقل العملي من الأحكام المربوطة بالأخلاق أوّلاً، وتدبير المنزل ثانياً، وسياسة المدن ثالثاً، الّتي يبحث عنها في العقل العملي. وليس استقلال
________________________________________
(342)
العقل في تلك القضايا الأوّلية الراجعة إلى العقل العملي إلاّ لأجل أنّه يجدها إمّا ملائمة للجانب العالي من الإنسانيّة، المشترك بين جميع أفراد الإنسان، أو منافرة له. وبذلك تصبح قضيّة التّحسين والتّقبيح في قسم من الأفعال، قضيّة كلّية لا تختصّ بزمان دون زمان، ولا جيل دون جيل. بل لا تختصّ ـ في كونها كمالاً أو نقصاً ـ بالإنسان بل تعمّ الموجود الحيّ المدرك المختار، لأنّ العقل يدركها بصورة قضيّة عامّة شاملة لكلّ من يمكن أن يتّصف بهذه الأفعال كالعدل والظلم، فهو يدرك أنّ الأوّل حسن عند الجميع ومن الجميع، والثاني قبيح كذلك، وليس للانسان خصوصيّة في ذلك القضاء.
وبذلك يصبح المدّعي للتّحسين والتّقبيح العقليّين الذاتيّين في غنى عن البرهنة لما يتبنّاه، كما أنّ المدّعي لامتناع اجتماع النقيضين و ارتفاعهما كذلك.
والعجب أنّ الحكماء والمتكلّمين اتّفقوا على أنّه يجب انتهاء القضايا النّظريّة في العقل النظري إلى قضايا بديهيّة، و إلاّ عقمت الأقيسة ولزم التّسلسل في مقام الاستنتاج، ولكنّهم غفلوا عن إجراء ذلك الأصل في جانب العقل العملي ولم يقسّموا القضايا العمليّة إلى فكرية و بديهيّة، أو نظريّة و ضروريّة. كيف والاستنتاج والجزم بالقضايا الواردة في مجال العقل لا يتمّ إلاّ إذا انتهى العقل إلى قضايا واضحة في ذلك المجال.
فالمسائل المطروحة في الأخلاق ممّا يجب الاتّصاف به أو التنزّه عنه، أو المطروحة في القضايا البيتيّة و العائليّة الّتي يعبّر عنها بتدبير المنزل، أو القضايا المبحوث عنها في علم السياسة و تدبير المدن، ليست في الوضوح على نمط واحد، بل لها درجات ومراتب.
فلا ينال العقل الجزم بكلّ القضايا العمليّة إلاّ إذا كانت هناك قضايا بديهيّة واضحة تبتنى عليها القضايا المجهولة العمليّة حتّى يحصل الجزم بها و يرتفع الابهام عن وجهها. ولأجل ذلك فالقائل بالتّحسين والتّقبيح العقليّين في غنى عن التوسّع في طرح أدلّة القائلين بهما.
________________________________________
(343)
وبهذا البيان يستغني الإنسان عن كثير من الأدلّة الّتي أقامها القائلون بالحسن والقبح، سواء أكانت صحيحة أم لا. نظير ما ربّـما يقال من أنّ أحدنا لو خيّر بين الصّدق و الكذب وكان النّفع في أحدهما كالنّفع في الآخر وقيل له: إن كذبت أعطيناك درهماً و إن صدقت أعطيناك درهماً، فإنّه قطُّ لا يختار الكذب على الصدق. ليس ذلك إلاّ لعلمه بقبحه و بغناه عنه(1).
يلاحظ عليه: أنّ اختيار الصِّدق على الكذب يمكن أن يكون مستنداً إلى أمر آخر، وهو كون الصِّدق مطابقاً للفطرة و الكذب على خلافها. ولأجل ذلك لا يختار الصبي إلاّ الصِّدق وليس ذلك لأجل العلم بقبح الكذب. هذا كلّه حول الأمر الأوّل.
وأمّا الأمر الثاني: أعني كونه سبحانه عالماً بحسن الأشياء وقبحها، فقد استدلّ عليه القاضي بأنّه تعالى عالم لذاته، ومن حقِّ العالم لذاته ـ أن يعلم جميع المعلومات على الوجوه الّتي يصح أن تعلم عليها. ومن الوجوه الّتي يصحّ أن يعلم المعلوم عليه قبح القبائح، فيجب أن يكون القديم تعالى عالماً به(2).
يلاحظ عليه: أنّ كلامه مجمل و لعلّه يريد أنّ ذاته سبحانه علّة الأشياء و علّة لصفاتها، والعلم بالعلّة، علم بالمعاليل. فهو سبحانه بما أنّه عالم لذاته، عالم بمعاليله من الذوات والصفات.
ولكن التقرير عليل من وجهين:
الأوّل:إنّ الحسن والقبح من صفات الأفعال لا من صفات الأشياء الخارجية من الجواهر والاعراض القائمة بها، وأفعال الإنسان ليست مخلوقة له سبحانه عند المعتزلة فلا تكون معلولة لذاته حتّى يلزم من العلم بالذات، العلم بها.
الثاني: إنّ الحسن والقبح، بمعنى يجب أَنْ يفعل أو لا يفعل، من الأحكام العقلية وليست من الصفات الخارجية للأفعال و الأشياء، حتّى يكونا مخلوقين له سبحانه،
________________________________________
1. شرح الاُصول الخمسة: ص 303. 2. المصدر السابق: ص 302.
________________________________________
(344)
وحتى يقال بأنّ خالق القبيح والحسن خالق لقبحه أو حسنه. فالطريق الأوسط، الاستدلال على علمه بالحسن والقبيح بعلم الإنسان بهما، والله سبحانه عالم بما خلق، وبما ينطوي عليه مخلوقه من التصورات والتّصديقات.
فاذا كان حسن الأشياء وقبحها بذاتها معلومة للإنسان المخلوق، فهي معلومة له بالضرورة، لانتهاء ما في الكون إلى الله سبحانه. قال تعالى: (ألا يعلم من خلق وهو الّلطيف الخبير) (الملك/14) وقد تعرّفت في البيان الّذي أوضحنا به دليل أبي عبدالله البصري أنّ العقل يدرك أن هنا شيئاً حسناً لدى الكلّ وقبيحاً كذلك. فلا يختصّ قبح الأشياء ولا حسنها بشخص دون آخر.
وأماّ الأمر الثالث: فقد استدلّوا عليه بما ورد في الكتب الكلاميّة من أنّ القبيح لا يختاره إلاّ الجاهل بالقبح أو المحتاج إليه، وكلاهما منفيّان عنه تعالى، ولأجل ذلك إنّ الظّلمة والفسقة لا يرتكبون القبائح إلاّ لجهلهم بقبحها أو لاعتقادهم أنّهم سيحتاجون إليها في المستقبل، كما في غصب الأموال.
يلاحظ عليه: أنّ هذا الدّليل مبنيّ على كون فاعليّة الواجب بالدّاعي الزائد على ذاته، وهو خلاف التّحقيق لكونه تامّاً في الفاعليّة. فلا يكون في الايجاد محتاجاً إلى شيء وراء ذاته.
والأولى أن يقرّر بأنّ مقتضى التّحسين والتّقبيح العقليّين-على ما عرفت-هو أنّ العقل بما هو هو، يدرك أنّ هذا الشيء بما هو هو، حسن أو قبيح، وأنّ أحد هذين الوصفين ثابت للشيء بما هو هو، من دون دخالة ظرف من الظروف أو قيد من القيود، ومن دون دخالة درك مدرك خاصّ.
وعلى ذلك فالعقل في تحسينه و تقبيحه يدرك واقعيّة عامّة و متساوية بالنسبة إلى جميع المدركين والفاعلين، من غير فرق بين الممكن والواجب. فالعدل حسن يمدح فاعله عند الجميع، والظّلم قبيح يذمّ فاعله عند الجميع، وعلى هذا الأساس فالله سبحانه، المدرك للفعل ووصفه ـ أعني استحقاق الفاعل للمدح أو الذمّ من غير
________________________________________
(345)
خصوصيّة للفاعل ـ كيف يقوم بفعل ما يحكم بأنّ فاعله مستحقّ للذّم، أو يقوم بفعل مايحكم بأنّه يجب التنزّه عنه؟!
وعلى ذلك فالله سبحانه عادل، لأنّ الظلم قبيح و ممّا يجب التنزّه عنه، ولا يصدر القبيح من الحكيم، والعدل حسن وممّا ينبغي الاتّصاف به، فيكون الاتّصاف بالعدل من شؤون كونه حكيماً منزّهاً عمّا لا ينبغي.
وإن شئت قلت: إنّ الإنسان يدرك أنّ القيام بالعدل كمال لكلّ أحد، وارتكاب الظّلم نقص لكلّ أحد. وهو كذلك حسب إدراك العقل، عنده سبحانه. ومعه كيف يجوز أن يرتكب الواجب خلاف الكمال، ويقوم بما يجرّ النّقص إليه؟!
ما يتفرّع على العدل من المسائل
قد عرفت أنّ الحسن والقبح أساس القول بالعدل، وعنه تتفرّع عدّة مسائل تفترق فيها مدرسة الاعتزال عن مدرسة أهل الحديث و الأشاعرة. ونحن نشير إلى عناوينها، ثمّ نبحث عن كلّ واحد تلو الآخر وهي عبارة عن:
1- الله قادر على القبيح.
2- أفعال العباد غير مخلوقة فيهم و أنّهم المحدثون لها.
3- الاستطاعة متقدِّمة على الفعل.
4- قبح التّكليف بما لايطاق.
5- الله تعالى لا يكون مريداً للمعاصي.
6- اللّطف واجب على الله سبحانه.
7- حكم القرآن الكريم من حيث الحدوث والقدم.
8- ما يتعلّق بالنبوّات والشرائع و معاجز الأنبياء.

هذه هي المسائل المبنيّة على العدل، ونحن نأخذ بالبحث عنها على منهج الاعتزال، وسيوافيك أنّ ثمرات التّحسين والتّقبيح العقليّين أوسع مما ذكر.
 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية