هل يحسن العفو عن العصاة من الله أو لا؟

البريد الإلكتروني طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 3 ، ص 393 ـ 397
________________________________________
(393)
أ ـ هل يحسن العفو عن العصاة من الله أو لا؟
اختلفت مدارس الاعتزال فيها، فالبصريّون و منهم القاضي عبدالجبّار على الجواز، والبغداديّون على المنع، حتّى قالوا: يجب عليه أن يعاقب المستحقّ للعقوبة، ولا يجوز أن يعفو عنه، حتّى صار العقاب عندهم أعلى حالاً في الوجوب من الثّواب. فإنّ الثّواب عندهم لا يجب إلاّ من حيث الجود. وليس هذا قولهم في العقاب فإنّه يجب فعله على كلِّ حال.
________________________________________
(394)
احتجّ القاضي على الجواز بأنّ العقاب حقّ الله تعالى على العبد، وليس في إسقاطه إسقاط حقّ ليس من توابعه، وإليه استبقاؤه فله إسقاطه، كالدّين فإنّه لمّا كان حقّاً لصاحب الدّين خالصا، ولم يتضمّن إسقاط حقّ ليس من توابعه وكان إليه استبقاؤه، كان له أن يسقط كما أنّ له أن يستوفيه.
استدلّ البغداديّون بوجوه:
الأوّل: إنّ العقاب لطف من جهة الله تعالى واللُّطف يجب أن يكون مفعولاً بالمكلّف على أبلغ الوجوه، ولن يكون كذلك إلاّ والعقاب واجب على الله تعالى. فمعلوم أنّ المكلّف متى علم أنّه يفعل به ما يستحقّه من العقوبة على كلِّ وجه، كان أقرب إلى أداء الواجبات و اجتناب الكبائر(1).
يلاحظ عليه: أنّ اللُّطف عبارة عمّا يقرِّب الإنسان من الطّاعة و يبعِّده عن المعصية، وهذا لا يتصوّر إلاّ في دار التّكليف لا دار الجزاء، ففي الاُولى العمل والسّعي، وفي الاُخرى الحساب والاجتناء.
وأمّا ما ذكروه أخيراً من أنّه لو علم المكلّف أنّه يفعل به ما يستحقّه من العقوبة على كلِّ وجه كان أقرب إلى أداء الواجبات و اجتناب الكبائر فيلاحظ عليه: أنّه لو تمّ لوجب سدّ باب التّوبة، لإمكان أن يقال إنّ المكلّف لو علم أنّه لا تقبل توبته، كان أقرب إلى الطّاعة، وأبعد من المعصية.
أضف إلى ذلك إنّ للرجاء آثاراً بنّاءة في حياة الإنسان، ولليأس آثاراً سلبيّة في الادامة على الموبقات، ولأجل ذلك يشتمل الذِّكر الحكيم على آيات التّرغيب كما يشتمل على آيات التّرهيب.
وأخيراً نقول: إنّ القول بجواز العفو، غير القول بحتميّته. و الأثر السّلبي ـ لو سلّمنا ـ يترتّب على الثاني دون الأوّل، والكلام في جواز العفو لا في وجوبه و حتميّته.
________________________________________
1. شرح الاُصول الخمسة: ص 646 و 647.
________________________________________
(395)
الثّاني: مانقله عنهم العلاّمة الدوّاني في (شرح العقائد)، قال: «المعتزلة والخوارج أوجبوا عقاب صاحب الكبيرة إذا مات بلا توبة، و حرّموا عليه العفو. واستدلّوا عليه بأنّ الله أوعد مرتكب الكبيرة بالعقاب، فلو لم يعاقب لزم الخلف في وعده والكذب في خبره، وهما محالان»(1).
واُجيب عنه بأنّ الوعد والوعيد مشروطان بقيود و شروط معلومة من النّصوص، فيجوز التخلّف بسبب انتفاء بعض تلك الشّروط(2).
وربّما اُجيب بوجه آخر وهو أنّ الخلف في الوعيد جائز على الله تعالى و إن كان لا يجوز أن يخلف الوعد. وروي عن أنس بن مالك أنّ رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال: «من وعده الله على عمله ثواباً فهو منجز له، ومن أوعده على عمله عقاباً فهو في الخيار»(3).
وروي أنّ عمرو بن عبيد (رئيس المعتزلة بعد واصل) جاء إلى أبي عمرو بن العلاء وقال: يا أبا عمرو، يخلف الله ما وعده؟ قال: لا. قال: أفرأيت من أوعده الله على عمل عقاباً، أيخلف الله وعيده فيه؟ فقال أبو عمرو: من العجمة أتيت يا أبا عثمان، إنّ الوعد غير الوعيد. إنّ العرب لا يَعدّ عيباً ولا خلفاً، أن يعد شرّاً ثمّ لم يفعل، بل يرى ذلك كرماً و فضلاً، وإنّما الخلف أن يعد خيراً ثمّ لم يفعل. قال (عمرو بن عبيد) فأوجدني هذا العرب. قال:نعم، أما سمعت قول الشاعر:
وإنّي إذا أوعدتـه أو وعدتـه * لمخلف إيعادي و منجز موعدي
وذكر الشاعر الآخر:
إذا وعد السرّاء أنجز وعده * وإن أوعد الضرّاء فالعفو مانع(4)
________________________________________
1. شرح العقائد العضدية: ج 2 ص 194 ـ 198. المطبوع مع حاشية اسماعيل الكلنبوي عام 1319 في الاستانة. 2. شرح العقائد العضدية: ج 2 ص 194 ـ 198. المطبوع مع حاشية اسماعيل الكلنبوي عام 1319 في الاستانة. 3. شرح العقائد العضدية ج 2 ص 194 ـ 199 والمتن للقاضي الايجي (المتوفى عام 756) والشرح لجلال الدين الدواني (المتوفى عام 908، أو 909هـ) طبعا مع حواشي الشيخ اسماعيل الكلنبوي المتوفى (عام 1205هـ) في استنبول (عام 1317هـ). 4. المعتزلة: ص 157، والظاهر منه أنّه نقله عن الجويني في كتابه «الارشاد الى قواطع الأدلّة إلى صحيح الاعتقاد».
________________________________________
(396)
يلاحظ على الجواب الأوّل أنّه احتمال محض يثبت به الامكان لا الوقوع، ويرتفع به الاستحالة. ولعلّ الغاية هي اثبات الامكان.
وأمّا الجواب الثّاني فظاهره أشبه بالبحث اللّفظي و الأدبي، مع أنّ المسألة عقليّة، ولعلّ المجيب يريد شيئاً آخر أشار إليه شيخنا المفيد في كتاب «العيون والمحاسن» وهو التّفصيل بين الوعد والوعيد، وأنّ الخلف في الأوّل قبيح عقلاً والخلف في الثّاني ليس بقبيح عقلاً. والدّليل على ذلك أنّ كلّ عاقل يستحسن العفو بعد الوعيد في ظروف خاصّة، ولا يعلِّقون بصاحبه ذمّاً. فلو كان العفو من الله تعالى مع الوعيد قبيحاً، يجب أن يكون كذلك عند كلِّ عاقل.
ولعلّ وجه ذلك أنّ الخلف في الوعد إسقاط لحقّ الغير و إمساك عن أداء ما عليه من الحقّ، وأمّا الوعيد فإنّ م آل الخلف إلى إسقاط حقّ نفسه، ومثل ذلك يعدّ مستحسناً لا قبيحاً إذا وقع الخلف في موقعه.
الثالث : إنّ في جواز ذلك إغراء للمكلّف بفعل القبيح اتّكالاً منه على عفو الله، فالعقاب ضروري، لأنّه زاجر عن ارتكاب القبائح، كما أنّ في العفو تسوية بين المطيع والعاصي و ذلك ما لا يتّفق مع العدل(1).
يلاحظ عليه: أنّ الاغراء لازم القول بالعفو قطعاً كما عليه المرجئة، لا القول به احتمالاً كما عليه الراجئة، ولو صحّ ما ذكر، لبطل الوعد بالتّوبة والشفاعة، وأمّا حديث التّسوية، فهو يرتفع باثابة المطيع دون العاصي و إنّما يلزم بتسويتهما في الثواب أيضاً.
إلى هنا تمّ الكلام في المسألة الاُولى و ثبت أنّ العفو عن العصاة من المسلمين جائز. ولأجل ذلك يقول الصّدوق في تبيين عقائد الإماميّة:
اعتقادنا في الوعد والوعيد هو أنّ من وعده الله على عمل ثواباً فهو منجزه، ومن وعده على عمل عقاباً فهو بالخيار إن عذّبه فبعدله، وإن عفا عنه فبفضله (ومَا رَبُّكَ)
________________________________________
1. المعتزلة: ص 157، والظاهر منه أنّه نقله عن الجويني في كتابه «الارشاد الى قواطع الأدلّة إلى صحيح الاعتقاد».
________________________________________
(397)
بِظَلاّم لِلْعَبِيد)) وقال عزّوجلّ: (إنّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ و يَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)(1).
هذا هو موجز الكلام في المسألة الأولى، وإليك البحث في مسألة التّخليد.
________________________________________
1. أوائل المقالات: ص 14. والآيتان من سورتي فصّلت46 والنساء 48.
 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية