هل الشّفاعة للتائبين من المؤمنين أو للفسّاق منهم؟

البريد الإلكتروني طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 3 ، ص 403 ـ 405
________________________________________
(403)
ج ـ هل الشّفاعة للتائبين من المؤمنين أو للفسّاق منهم؟
إنّ هذه المسألة مبنيّة على المختار في المسألة السابقة، ولمّا كان المختار عند جمهور المسلمين جواز العفو عن الفاسق، أو عدم تخليده بعد تعذيبه مدّة، قالوا بأنّ الشّفاعة للفسّاق وأنّ شفاعة الشّفعاء تجلب عفوه سبحانه إليهم، فيعفو عنهم من بدء الأمر، أو بعد ما يعذِّبهم فترة.
وأمّا المعتزلة، فلمّا كان المختار عندهم في المسألة السابقة خلود الفاسق في العذاب، خصّوا الشّفاعة بالتّائبين من المؤمنين، وصار أثرها عندهم ترفيع المقام لا الانقاذ من العذاب، أو الخروج منه.
وهذه هي النّقطة الحسّاسة في الأبحاث الكلاميّة الّتي لها صلة بكتاب الله و سنّته. فالمعتزلة في المقام أوّلوا صريح القرآن و الروايات وقالوا: إنّ شفاعة الفسّاق الّذين ماتوا على الفسوق ولم يتوبوا، يتنزّل منزلة الشّفاعة لمن قتل ولد الغير و ترصّد للآخر حتّى يقتله;، فكما أنّ ذلك يقبح فكذلك هيهنا(1).
والخطأ في تفسير آيات الشّفاعة، و رفض الروايات المتواترة، حدث من الخطأ في المسألة السّابقة. وهكذا شيمة الخطأ و خاصّته فلا يقف عند حد، قال أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ : «ألا و إنّ الخطايا خيل شمس، حمل عليها أهلها، و خلعت لجمها»(2).
وما ذكره القاضي غفلة عن شروط الشّفاعة، المحرّرة في محلِّها، فإنّ بعض الذّنوب الكبيرة ربّما تقطع العلائق الإيمانيّة بالله سبحانه، كما تقطع الأواصر الروحيّة مع النّبي الأكرم صلَّى الله عليه و آله و سلَّم فأمثال هؤلاء العصاة لا تشملهم الشّفاعة، وقد وردت الروايات الإسلاميّة حول شروط الشّفاعة، و في حرمان طوائف من الناس منها.
والعجب أنّ القاضي يستدلّ على أنّ العقوبة على طريق الدّوام، ولا يخرج الفاسق
________________________________________
1. شرح الاُصول الخمسة: ص 688. 2. نهج البلاغة: الخطبة 61.
________________________________________
(404)
من النّار بشفاعة النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم بقوله سبحانه: (واتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفُسٌ عَنْ نَفْس شيئاً) (البقرة/48)، وقوله سبحانه: (ما للظّالمين من حميم ولا شَفِيع يُطَاعُ)(غافر/18)(1).
يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ الاُسلوب الصّحيح لتفسير القرآن الكريم هو تجريد المفسِّر نفسه عن كلِّ رأي سابق أوّلاً، وجمع الآيات المربوطة بموضوع واحد ثانياً. فعند ذلك يقدر على فهم المراد. والقاضي نظر إلى الآيات بمنظار الاعتزال أوّلاً، ولم يجمع الآيات الراجعة إلى الشّفاعة ثانياً، مع أنّ الآيات الراجعة إلى الشّفاعة على سبعة أصناف(2) فأخذ صنفاً واحداً و ترك الأصناف الاُخر.
ثانياً: ما ذكره من الآيتين في نفي الشفاعة راجعتان الى الكفّار. فالآية الاُولى ناظرة إلى نفي الشّفاعة الّتي كانت اليهود يتبنّونها كما هو صريح سياقها، والآية الثانية الّتي وردت في السّورة المكّية ناظرة إلى الشّفاعة الّتي كان المشركون يعتقدون بها. قال سبحانه حاكياً عنهم: (إذ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ العالمين* وما أَضَلَّنَا إلاّ المُجْرِمُون )* فَما لَنَا مِن شَافِعِين)* ولا صَدِيق حَمِيم))(الشعراء/98 ـ 101).
وقال سبحانه: (وكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ* حَتَّى أَتَينَا اليَقِينُ )* فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشّافِعِين))(المدثر/46 ـ 48).
ثالثاً:
أنّ مسألة الشّفاعة لم تكن فكرة جديدة ابتكرها الإسلام وانفرد بها، بل كانت فكرة رائجة بين أمم العالم من قبل، و خاصّة الوثنيّين واليهود، والإسلام طرحها مهذّبة من الخرافات، و ممّا نسج حولها من الأوهام، و قرّرها على اُسلوب يوافق اُصول العدل والعقل، وصحّحها تحت شرائط في الشّافع والمشفوع له، و هي الّتي تجرّ العصاة إلى الطّهارة من الذّنوب، وكفّ اليد عن الآثام والمعاصي، ولا توجد فيهم جرأة وجسارة على هتك السّتر.
و من امعن النظر في آراء اليهود والوثنيّين في أمر الشّفاعة أنّ الشّفاعة تقف على
________________________________________
1. الاصول الخمسة: ص 689. 2. لاحظ في الوقوف على هذه الأصناف الجزء الرابع من مفاهيم القرآن 177 ـ 199.
________________________________________
(405)
الدّارجة بينهم، خصوصاً اليهود، كانت مبنيّة على رجائهم لشفاعة أنبيائهم و آبائهم في حطِّ ذنوبهم، وغفران آثامهم. ولأجل هذا الاعتقاد كانوا يقترفون المعاصي، ويرتكبون الذّنوب تعويلاً على ذلك الرّجاء.
وفي هذا الموقف يقول سبحانه ردّاً على تلك العقيدة الباعثة على الجرأة: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلاّ بِإِذْنِهِ)(البقرة/55)، ويقول أيضاً رفضاً لتلك الشّفاعة المحرّرة من كلِّ قيد: (ولا يَشْفَعُونَ إلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى) (الأنبياء/28).
وحاصل الآيتين أنّ أصل الشّفاعة الّتي تدّعيها اليهود و يلوذ بها الوثنيّون حقّ ثابت في الشّريعة السماويّة، غير أنّ لها شروطاً أهمّها إذنه سبحانه للشّافع، و رضاه للمشفوع له.
وعلى ذلك فكيف يصحّ لنا تخصيص الآيات بقسم خاصّ من الشّفاعة و هي شفاعة الأولياء لرفع الدّرجة و زيادة الثّواب.
وأوضح دليل على عموميّة الشّفاعة ما أصفق على نقله المحدِّثون من قوله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم : «ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي». والقاضي رمى هذا الحديث بأنّه خبر واحد لا يصحّ به الاحتجاج في باب العقائد. وما ذكره يعرب عن قصور باعه في مجال الحديث. فقد رواه من أئمّة الحديث أبو داود في سننه، والتّرمذي في صحيحه، وابن حنبل في مسنده، وابن ماجة في صحيحه (1) .
وليس حديث الشّفاعة الدالّ على شمولها لأصحاب الكبائر منحصراً به، بل أحاديث الشّفاعة في هذا المجال متواترة، وقد جمعنا ما رواه السنّة والشيعة في هذا المجال في كتابنا «مفاهيم القرآن»(2).
________________________________________
1 . راجع سنن ابي داود، ج 4، ص 236. وصحيح الترمذي، ج 4، ص 45. وصحيح ابن ماجة، ج 2، ص 144. ومسند احمد، ج 3 ص 213. 2. لاحظ: ج 4، فصل الشفاعة في الأحاديث الاسلاميّة، ص 289 ـ 311. فتجد في تلك الصحائف (112) حديثاً عن النبي وعترته. وقد قام العلامة المجلسي بجمع احاديث الشفاعة في موسوعته بحار الانوار (ج 8،ص 29 ـ 63) وروى بعضها الآخر في سائر أجزائه. كما روى علاء الدين المتقي احاديث الشفاعة في كنز العمال ج 14ص 628ـ640.
 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية