ابن تيمية وملاكات التوحيد والشرك في العبادة

البريد الإلكتروني طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 4 ، ص 63 ـ 74
________________________________________
(63)
الإتهام بالشرك والبدعة
إنّ أكثر شيء تداولا وأرخصه في كتب الوهابيين ودعاياتهم هو اتّهام المسلمين بالشرك والبدعة، وكأنهم لا يجدون في كنانتهم شيئاً يرمون به المسلمين سوى هاتين الفريتين.
ترى أنّهم يتّهمون جميع المسلمين من عرب وعجم وسنة وشيعة بالشرك في العبادة، وأنه ليس تحت السماء وفوق أديم الأرض أُمة موحّدة سوى محمد بن عبدالوهاب وأتباعه .
كما أنهم بدل تكريم المسلمين عند اللقاء، وتهنئتهم بالتسليم ونشر العطور ونثر الازاهير عليهم، يتهمونهم بالابتداع، ويسمونهم بالمبتدعة.
ولأجل ذلك يجب على كل محقق وناقد لمزاعم الوهابيين الموروثة من ابن تيمية القيام بأمرين مهمين وهما:
1- تحديد العبادة تحديداً منطقياً بحيث يكون جامعاً ومانعاً .
2- تحديد البدعة تحديداً دقيقاً مثل الشرك في العبادة .
ثم القيام بتطبيق ما أوقفه عليه البحث والتنقيب على ما يصفونه بالشرك والبدعة، حتّى يتبيّن أنّ التطبيق صحيح أولا؟ فها نقدّم إليك أيّها القارىء الكريم بحثاً ضافياً حول هذين الموضوعين المهمين، حتّى يتّضح الحقّ بأجلى مظاهره، وتقف على أنّ أكثر من يصفونه بالشرك والبدعة خيال وضلال وجهل بحقيقتهما.
________________________________________
(64)
________________________________________
(65)
ابن تيمية وملاكات التوحيد والشرك في العبادة
إنّ المفتاح الوحيد لردّ شُبَهِ الوهابيين هو تحديد العبادة وتمييزها عن غيرها، فما لم يتحدّد مفهموم العبادة بشكل منطقي حتّى تتميز في ضوئه العبادة من غيرها، لم يكن البحث والنقاش ناجحاً، ولأجل ذلك نخصّص هذا الفصل لتعريف العبادة، و نبيّن ما ذكر حولها من التعاريف.
إنّ للتوحيد مراتب بيّنها علماء الإسلام في الكتب الكلامية والتفسيرية، ونحن نشير إلى هذه المراتب على وجه الإجمال، ونركزٌ على التوحيد في العبادة:
الأُولى: التوحيد في الذات، أو التوحيد الذاتي، والمراد منه هو: أنه سبحانه واحد لا نظير له، فرد لا مثيل له. قال سبحانه: (قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ)(1) .
الثانية: التوحيد في الخالقية، والمراد منه هو: أنّه ليس في صفحة الوجود خالق أصيل غير اللّه، ولا مؤثر مستقل سواه، وأنّ تأثير سائر الأسباب الطبيعية وغيرها بأمره وإذنه وإرادته سبحانه. قال سبحانه: (قُلَ اللّهُ خالِقُ كُلّ شَيء وَ هُوَ الوَاحِدُ القَهّارُ)(2) .
الثالثة: التوحيد في الربوبية والتدبير، والمراد منه أن للكون مدبّراً واحداً
________________________________________
1. سورة الإخلاص: الآية 1 .
2. سورة الرعد: الآية 16 .

________________________________________
(66)
ومتصرّفاً فرداً لا يشاركه في التدبير شيء آخر، وأنّ تدبير الملائكة وسائر الأسباب بأمره وإذنه، فلم يفوّض أمر التدبير إلى الأجرام السماوية والملائكة والجن. قال سبحانه: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرش يُدَبِّرُ الأمْرَ مَا مِنْ شَفِيع إلاّ مِنْ بَعْدِ إِذنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أفَلاَ تَذَكَّرُونَ)(1) .
والمراد من الشفيع هو العلل الطولية، وسُمّي بالشفيع لأنّ تأثيره متوقف إلى ضمّ إذنه سبحانه إليه، والشفع هو الضم، سمي السبب شفيعاً لأنه يؤثر بانضمام إذنه تعالى .
وإذ انتهى إليه كل تدبير من دون الاستعانة بمعين، أو الاعتضاد بأعضاد، لم يكن لشيء من الأشياء أن يتوسط في تدبير أمر من الأُمور ـ وهو الشفاعة ـ إلاّ من عبد إذنه تعالى، فهو سبحانه السبب الأصلي الّذي لا سبب بالأصالة دونه، وأمّا الأسباب فإنها أسباب بتسبيبه، وشفعاء من بعد إذنه(2) .
الرابعة: التوحيد في التشريع والتقنين، والمراد منه حصر الحاكمية التشريعية في اللّه فليس لأحد أن يأمر وينهى ويحرم ويحلل إلاّ اللّه سبحانه. قال تعالى: (إنِ الحُكْمُ إلاّ للّهِ أمَرَ ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاه)(3) .
الخامسة: التوحيد في الطاعة، والمراد منه هو: أنه ليس هناك من تجب طاعته بالذات إلاّ اللّه تعالى، فهو وحده الّذي يجب أن يطاع، ولو وجبت طاعة النبي فإنما هو بإذنه. قال سبحانه (فاتّقوا اللّهَ مَا اسْتَطَعْتُم واسْمَعُوا و أطَيعُوا)(4) .
السادسة: التوحيد في الحاكمية، والمراد منه هو: أن جميع الناس سواسية، فلا ولاية لأحد على أحد بالذات، بل الولاية للّه المالك الخالق، فمن مارس الحكم في الحياة يجب أن يكون بإذنه، قال سبحانه: (إنِ الحُكمُ )
________________________________________
1. سورة يونس: الآية 3 .
2. الميزان ج 10، ص 76 .
3. سورة يوسف: الآية 40 .
4. سورة التغابن: الآية 16 .

________________________________________
(67)
إلاّ للّهَ يَقُصُّ الحَقّ وَهُوَ خَيْرُ الفَاصلينَ))(1) .
السابعة: التوحيد في الشفاعة والمغفرة، والمراد منه هو: أن كلا من الشفاعة والمغفرة حق مختص به فلا يغفر الذنوب إلاّ هو، ولا يشفع أحد إلاّ بإذنه. قال سبحانه: (وَ مَن يَغْفرُ الذُّنوبَ إلاّ اللّه)(2) .
وقال سبحانه: (مَنْ ذا الّذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلاّ بِإذنِهِ)(3) .
الثامن: التوحيد في العبادة، وحصرها في اللّه سبحانه، فلا معبود إلاّ هو، لا يشاركه فيها شيء، وهذا الأصل مما اتفق عليه الموحدون، فلا تجد موحداً يجوّز عبادة غير اللّه. إنّما الكلام في المصاديق والجزئيات، وأن هذا العمل مثلا (الاستغاثة بالأولياء وطلب الدعاء منهم والتوسل بهم) هل هو عبادة لهم حتّى يحكم على المرتكب بالشرك، لأنّه عبد غيراللّه، أوْ لا؟ وهذا هو البحث الّذي عقدنا هذا الفصل لبيانه، وما تقدم ذكره من أقسام التوحيد كان استطراداً في الكلام(4).
جاءت لفظة العبادة في المعاجم بمعنى الخضوع و التذلل. قال ابن منظور: أصل العبودية: الخضوع والتذلل، وقال الراغب: العبودية إظهار
________________________________________
1. سورة الأنعام: الآية 57 .
2. سورة ال عمران: الآية 135 .
3. سورة البقرة: الآية 255 .
4. إنّ الوهابية تعترف بنوعين من التوحيد وهما التوحيد الربوبي والتوحيد الالوهي، ويفسرون الأول بالتوحيد في الخالقية، والثاني بالتوحيد في العبادة، وكلا الاصطلاحين خطأ.
أمّا الأول فالمراد من الربوبية هو تدبير المربوب وإدارته، وأن وظيفة الرب الّذي هو بمعنى الصاحب، إدرة مربوبه، كرب الدابة والدار والبستان بالنسبة إليها. فالتوحيد في الربوبية غير التوحيد في الخالقية، وإن كان ربما تنتهي الربوبية إلى الخالقية.
و أمّا الثاني، أعني التوحيد في الالوهية فهو مبنىّ على أن الإله بمعنى المعبود، ولكنه خطأ، بل هو ولفظ الجلالة بمعنى واحد، غير أن الأول كلّيّ والثاني علم لواحد من مصاديق ذلك الكلّي .
ومن أراد التفصيل فليرجع إلى مفاهيم القرآن، الجزء الأول ص 432. وعلى ضوء هذا كلما أطلقنا لفظ الإله أو الالوهية فلا نريد منه إلاّ هذا، لا المعبود .

________________________________________
(68)
التذلل، والعبادة أبلغ منها، ولكن هذه التعاريف وأمثالها كتفسيرها بالطاعة كما في القاموس، كلها تفسير بالمعنى الأعم، فليس التذلل وإظهار الخضوع والطاعة نفس العبادة، وإلاّ يلزم الالتزام بأُمور لا يصحّ لمسلم أن يلزم بها:
1- يلزم أن يكون خضوع الولد أمام الوالد، والتلميذ أمام الأُستاذ، والجندي أمام القائد، عبادةً لهم.
قال تعالى: (وَاخْفِض لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرحْمَةِ)(1) .
2- يلزم أن يكون سجود الملائكة لآدم، الّذي هو من أعلى مظاهر الخضوع، عبادةً لآدم. قال سبحانه: (وَ إذ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ...)(2) .
3- يلزم أن يكون سجود يعقوب وزوجته وأبنائه ليوسف عبادة له. قال سبحانه: (وَ رَفَعَ أبَوَيْهِ عَلَى العَرشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يَا أبَتِ هَذَا تَأوِيلُ رُؤْياىَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبّي حَقاً)(3) .
4- يلزم أن يكون تذلل المؤمن عبادة له، مع أنه من صفاته الحميدة، قال تعالى: (فَسَوفَ يَأتِي اللّه بَقَوْم يُحبّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ، أذِلَّة عَلَى المُؤمِنينَ أعَزّة عَلَى الكَافِرينَ)(4) .
كل ذلك يدفع بنا إلى القول بأنّ تفسير العبادة بالتذلل والتخضع أو إظهارهما، وبالطاعة وما يشابه ذلك تفسير بالمعنى الأعم، ولا يكون الخضوع ضعيفهُ وشديدهُ عبادةً إلاّ إذا دخل فيه عنصر قلبي خاص يميزه عن مماثلاته ومشابهاته، وهذا العنصر عبارة عن أحد الأمور التالية:
1- الاعتقاد بألوهية المعبود .
________________________________________
1. سورة الإسراء: الآية 24 .
2. سورة البقرة: الآية: 34 .
3. سورة يوسف: الآية 100 .
4. سورة المائدة: الآية 54 .

________________________________________
(69)
2- الاعتقاد بربوبيته .
3- الاعتقاد باستقلاله في الفعل من دون أن يستعين بمعين أو يعتمد على معاضد.
إنّ هذه العبارات الثلاثة تهدف إلى أمر واحد، وهو أنّ مقوّم العبادة ليس هو ظواهر الأفعال وصورها، بل مقومها هو باطن الأعمال ومناشئها، والخضوع الّذي ينبعث عن اعتقاد خاص في حق المعبود، وهو:
إمّا عبارة عن الاعتقاد بألوهية المعبود، سواء أكانت ألوهية حقيقية أم الوهية كاذبة مدّعاة، فاللّه سبحانه إله العالم وهو الإله الحقيقي الّذي اعترف به كل موحد على وجه الأرض، كما أنّ الأوثان والأصنام آلهة مدّعاة اعتقد بألوهيتها عبدتها والعاكفون عليها، فاللّه سبحانه عند المشركين كان إلهاً كبيراً وهؤلاء آلهة صغيرة، وزّعت شؤون الإله الكبير عليهم.
أو عبارة عن الاعتقاد بربوبية المعبود، وأنّه المدبّر والمدير بنفسه.
أو عبارة عن الاعتقاد باستقلال الفاعل في فعله وإيجاده، سواء أكان مستقلا في وجوده وذاته كما هو شأن الإله الكبير عند المشركين، أم غير مستقل في ذاته ومخلوقاً للّه سبحانه، ولكنه يملك شؤونه سبحانه من المغفرة والشفاعة، أو التدبير والرزق أو الخلق، إلى غير ذلك مما هو من شؤونه سبحانه، والمراد من تملّكه بعض هذه الشؤون أو كلها، هو استقلاله في ذلك المجال، فكأنه سبحانه فوضها إليه وتقاعد هو عن العمل .
هذه هي الملاكات الّتي تضفي على كل خضوع خفيف أو شديد، لون العبادة وتميزه عن أي تكريم وتعظيم للغير. وفي الآيات القرآنية إلماعات إلى هذه القيود الّتي ترجع حقيقتها إلى أُمور ثلاثة:
أمّا الأول: فإليك بعض الآيات: قال سبحانه: (أمْ لَهُم إلهٌ غَيْرُ اللّه، سُبْحانَ اللّه عمّا يُشرِكُونَ)(1) فقد جعل في هذه الآية اعتقادهم بألوهية
________________________________________
1. سورة الطور: الآية 43 .
________________________________________
(70)
غير اللّه هو الملاك للشرك. يقول سبحانه: (إنّهم كانُوا إذا قيلَ لَهُم لا إله إلاّ اللّه يستَكبرون)(1) أي إنّهم يرفضون هذا الكلام لأنّهم يعتقدون بألوهية معبوداتهم، ويعبدونها بما أنّها آلهة حسب تصورهم، ولأجل تلك العقيدة السخيفة، قال تعالى: (إذا دُعيَ اللّه وَحْدَهُ كَفَرْتُم وَإنْ يُشْرَك بِهَ تُؤمِنُوا فالحُكْمُ للّهَ العلىّ الكَبير)(2) .
وقال سبحانه: (وَإذا ذُكِرَ اللّهُ وَحْدَهُ اشْمأزَّتْ قُلُوبُ الَّذينَ لا يُؤْمِنُونِ بالآخِرَةِ وَ إذا ذُكِرَ الّذينَ مِنْ دُونِهِ إذا هُمْ يَسْتَبشِرُونَ)(3) .
والآيات في هذا المجال وافرة جداً لا حاجة لنقلها، ومن تدبّر في هذه الآيات يرى أن التنديد بالمشركين لأجل اعتقادهم بألوهية أصنامهم وأوثانهم. قال سبحانه: (الذينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)(4) .
وأما الثاني: أي كون الاعتقاد بالربوبية مؤثراً في إضفاء طابع العبادة على الخضوع، فيكفي قوله سبحانه: (يا أيُّها الناس اعْبُدُوا ربَّكُمُ الّذي خَلَقَكُم والَّذينَ مِنْ قَبْلِكُم)(5) .
وقال تعالى: (ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكم لا إلهَ إلاّ هُوَ خَالِقُ كُلّ شيء فَاعْبُدُوه)(6) .
فتعليل لزوم العبادة بكونه سبحانه «ربكم» في الآية الأُولى أو «ربكم وخالق كلّ شيء» في الآية الثانية، يعرب عن أن الدافع إلى العبادة هو ذلك الاعتقاد، وبالتالي ينتج أنه لا يتصف الخضوع بصفة العبادة إلاّ إذا اعتقد الإنسان أن المخضوع له خالق ورب أو ما يقاربه، ولأجل ذلك نرى أنه سبحانه
________________________________________
1. سورة الصافات: الآية 35 .
2. سورة غافر: الآية 12 .
3. سورة الزمر: الآية 45 .
4. سورة الحجر: الآية 96 .
5. سورة البقرة: الآية 21 .
6. سورة الأنعام: الآية 102 .

________________________________________
(71)
ينفي صلاحية من في السماوات والأرض لأن يكون معبوداً لأجل أنهم عباد الرَّحمن، قال: (إن كُلّ مَنْ في السّمواتِ والأرْضِ إلاّ آتي الرّحمنِ عَبْداً)(1)، فليسوا أرباباً ليدبّروا أُمورهم، ولا خالقين ليخلقوهم .
نعم، الاعتقاد بالربوبية ينحل إلى الاعتقاد بأنه يملك شؤون العابد، إمّا في جميع الجهات كما هو الحال في إله العالم عندن الموحدين، أو بعض الشؤون كالشفاعة والمغفرة، أو قضاء الحوائج ورفع النوازل، كما هو الحال في الآلهة الكاذبة عند المشركين، ولأجل ذلك نرى أنه سبحانه ينفي عن معبوداتهم كونهم مالكين لكشف الضر. قال: (لاَ يَمْلِكُونَ لاِنفُسِهِم نَفْعاً وَ لا ضرّاً)(2)، وقال تعالى: (لا يَمْلِكُونَ كَشْف الضُّرّ عَنْكُمْ وَ لا تَحْويلا)(3) وقال: (لا يَمْلُكون عَنِ الشّفاعة إلاّ مَنِ اتّخَذَ عِنْدَ الرّحْمنِ عَهْداً)(4) .
وقال: (إنّ الذينَ تَعْبُدونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُم رِزْقاً)(5) إلى غير ذلك من الآيات الّتي بتاتاً، تملّك معبوداتهم المدعاة شيئاً من شؤونه سبحانه .
وهذا يعرب عن أنّ وجه اتّصاف خضوعهم بالعبادة ودعائهم لها، هو اعتقادهم بأنهم أرباب يملكون ما ينفع في حياتهم عاجلا أو آجلا، ويؤيد ذلك ما كانوا يرددون في ألسنتهم حين الطواف والسعي ويقولون: لبّيك اللّهمّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك إلاّ شريك هو لك، تملكه وما ملك .
وأما الثالث: وهو الاعتقاد بكون المخضوع له مستقلا إمّا في ذاته وفعله، أو في فعله فقط، الإلماع إليه في غير موضع من كتاب اللّه العزيز، وهو توصيفه سبحانه بالقيوم، قال سبحانه: (اللّه لا إله إلاّ هُوَ الحَيُّ
________________________________________
1. سورة مريم: الآية 93 .
2. سورة الرعد: الآية 16 .
3. سورة الإسراء: الآية 56 .
4. سورة مريم: الآية 87 .
5. سورة العنكبوت: الآية 17 .

________________________________________
(72)
القَيُّومُ))(1) وقال: (وَعَنَتِ الوُجوهُ للحيِّ القَيُّومِ)(2) والمراد منه هو الموجود القائم بنفسه، ليس فيه شائبة من الفقر والحاجة، وأنّ كل ما سواه قائم به، ومن المعلوم أن القائم بنفسه والغني في ذاته، غني في فعله عن غيره، فلو استغثنا بأحد باعتقاد أنه يملك كشف الضر عنّا فقد طلبنا فعل اللّه سبحانه من غيره، لأنه تعالى وحده الّذي يملك كشف الضر لا غيره، والغني في الفعل هو اللّه سبحانه، فلو أقمنا موجوداً آخر مكان اللّه سبحانه في مجال الإيجاد، وزعمنا أنه يخلق ويرزق ويدبّر الأُمور، أو أنه يغفر الذنوب ويقضي الحاجات من عند نفسه، أو بتفويض من اللّه سبحانه واعتزاله عن الساحة، فقد وصفناه بالربوبية أولا (التعريف الثاني) ولو زعمنا أنه قائم بنفس الفعل الّذي يقوم به سبحانه ثانياً فكأننا أعطينا غيره صفة من صفاته سبحانه، وهي القيومية ولو في مجال الإيجاد (التعريف الثالث) .
هذا وللتفويض شؤون واسعة:
منها تفويض اللّه تدبير العالم إلى خيار عباده من الملائكة والأنبياء والأولياء، ويسمى بالتفويض التكويني .
ومنها تفويض الشؤون الإلهية إلى عباده كالتقنين والتشريع والمغفرة والشفاعة ويسمى بالتفويض التشريعي .
وهذا هو الذكر الحكيم يصف أهل الكتاب بأنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون اللّه يقول: (اتّخَذوا أحْبَارَهُم وَ رُهْبانَهُم أرباباً مَنْ دُون اللّه والمَسيحَ ابنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِروا إلاّ لِيَعْبُدُوا إلهاً واحِداً لا إله هُوَ سُبْحانَهُ عمّا يُشرِكُون)(3) .
إنّ أهل الكتاب لم يعبدوهم من طريق الصلاة والصوم لها، وإنما
________________________________________
1. سورة البقرة: الآية 255 .
2. سورة طه: الآية 111 .
3. سورة التوبة: الآية 31 .

________________________________________
(73)
أشركوهم في تفويض أمر التشريع والتقنين إليهم، وزعموا أنهم يملكون شأناً من شؤونه سبحانه.
قال الإمام الصادق ـ عليه السَّلام ـ : «واللّه ما صَامُوا لَهُم، وَ لاَ صَلُّوا لَهُم، وَلَكِن أحَلُّوا حَرَماً وَ حَرّموا عَلَيْهِم حَلاَلا فاتّبعوهم»(1).
روى الثعلبي في تفسيره: عن عدي بن حاتم قال: أتيت رسول اللّه وفي عنقي صليب من ذهب، فقال لي: «يا عدي، اطرح هذا الربق من عنقك» قال: فطرحته، ثم انتهيت إليه وهو يقرأ هذه الآية: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً) حتّى فرغ منها، فقلت: إنّا لسنا نعبدهم، فقال: أليس يحرّمون ما أحلّه اللّه، فتحرّمونه، ويحلّون ما حرّم الله فتستحلّونه؟ قال: فقلت: بلى. قال: فتلك عبادة(2) .
وفي ضوء هذا البحث الضافي تستطيع أن تميّز العبادة عن غيرها، والتعبّد عن التكريم، والخضوع العبادي عن التعظيم العرفي وتقف على أنّ سجود الملائكة لآدم، ويعقوب وزوجته وأبنائه ليوسف، لم تكن عبادة قط، وما هذا إلاّ لأن خضوعهم لم يكن نابعاً عن الاعتقاد بألوهيتهما أو ربوبيتهما، أو أنهما يملكان شؤون اللّه سبحانه، كلها أو بعضها، ويقومان بحاجة المستنجد بنفسهما وذاتهما.
ومما يؤيد أنّ خضوع المشركين أمام أوثانهم وأصنامهم كان ممزوجاً بالاعتقاد بكونهم آلهة صغيرة، أو أرباباً، وموجودات تملك شؤون الرب أو بعضها، أنهم كانوا يصفونها بأنها أنداد للّه سبحانه. قال سبحانه: (وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونَ اللّه أنْداداً يُحِبُّونَهُم كَحُبّ اللّه)(3) ولما زعموا أن معبوداتهم المصطنعة، تستجيب دعاءهم وتشفع لهم مثله، عادوا يحبّونها كحب اللّه، ويذكر في آية أُخرى أنّ المشركين كانوا يسوّون آلهتهم بربّ العالمين.
________________________________________
1. الكافي ج 1 ص 53 .
2. مجمع البيان ج 3 ص 23 والبرهان في تفسير القرآن ج 2 ص 120 .
3. سورة البقرة: الآية 165 .

________________________________________
(74)
قال سبحانه: (تاللّه إنْ كُنّا لَفِي ضَلال مُبين * إذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبّ العَالمين)(1) .
والمراد هو التسوية في شؤونه سبحانه جميعها أوبعضها، وأمّا التسوية في العبادة فكانت من شؤون ذلك الاعتقاد، فإنّ العبادة خضوع من الإنسان للمعبود، فلا تتحقق إلاّ أن يكون هناك إحساس من صميم ذاته بأن للمعبود سيطرة غيبية عليه، يملك شؤونه في حياته، وكان المشركون في ظل هذه العقيدة يسوّون أوثانهم برب العالمين. وبالتالي يعبدونهم. وليس المراد من التسوية هو التسوية في خصوص توجيه العبادة، إذ لم يعهد من المشركين المتواجدين في عصر الرسول توجيه العبادة إلى اللّه، ويؤيد ذلك: أنّ الوثنية دخلت مكة ونواحيها أول ما دخلت بصورة الشرك في الربوبية، وفي ذلك يكتب ابن هشام:
كان عمرو بن لحي أول من أدخل الوثنية إلى مكة ونواحيها، فقد رأى في سفره إلى البلقاء من أراضي الشام أُناساً يعبدون الأوثان، وعندما سألهم عما يفعلون بقوله: «ما هذه الأصنام الّتي أراكم تعبدونها؟» قالوا: هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا. فقال لهم: أفلا تعطونني منه فأسير به إلى أرض العرب فيعبدون؟!.
ثم إنّه استصحب معه إلى مكة صنماً كبيراً باسم (هبل)، ووضعه على سطح الكعبة المشرفة ودعا الناس إلى عبادتها(2)، فطلب المطر من هذه الأوثان يكشف عن اعتقادهم بأن لهذه الأوثان دخلا في تدبير شؤون الكون وحياة الإنسان.
________________________________________
1. سورة الشعراء: الآية 97 ـ 98 .
2. سيرة ابن هشام ج 1 ص 79 .
 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية