ابن تيمية ورأيه في الصفات الخبرية

البريد الإلكتروني طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 4 ، ص 113 ـ 118
________________________________________
(113)
عقائد ابن تيمية عقائده و آراؤه
إنّ الآراء والمعتقدات، مقياس شخصية الإنسان، ومستوى عقليته وثقافته، كما أنّ ما يمت منها الى الإسلام بصلة، مقياس عرفانه بالكتاب والسنة، وسلامة ذوقه وصفاء ذهنه، وقد حان تقييم شخصية ابن تيمية عن طريق عرض آرائه على المصادر الإسلامية، ليعلم مدى صحتها وانطباقها على المصدرين وحدّ سلامة ذوقه وصفاء ذهنه في مقام الاستضاءة بهما، وإليك البيان :
________________________________________
(114)
(1)
ابن تيمية ورأيه في الصفات الخبرية
(1)
إنّ المحنة الأُولى لابن تيمية بدأت ممّا نشره باسم «العقيدة الحموية» حيث أجاب فيها عن سؤال أهل «حماه» في آيات الصفات، مثل قوله: (الرَّحمنُ عَلى العَرْشِ استوى) وقوله: (ثُمّ اسْتَوَى إلى السّماءِ)، وأحاديث الصفات، كقوله ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ : «إنّ قلوب بني آدم بين إصبعين من اصابع الرحمن»، وقوله: «يضع الجبار قدمه في النار» بما هذا نصه:
«فهذا كتاب اللّه من أوله إلى آخره، وسنة رسوله ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ من أولها إلى آخرها، ثم عامة كلام الصحابة والتابعين، ثم كلام سائر الائمة مملوء بما هو إمّا نص وإمّا ظاهر في أنّ اللّه سبحانه وتعالى فوق كل شيء، وعلى كل شيء، وأنّه فوق السماء، مثل قوله: (إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيّبُ، وَ العَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ)، (إنّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلىَّ)، (أمِنْتُم مَنْ فِي السّماءِ أنْ يَخسِفَ بِكُمُ الأرْضَ...)، (أمِنْتُم مَنْ في السّماءِ أنْ يُرسِلَ عَلَيْكُم حَاصباً...)، (بَلْ رَفَعَهُ اللّهُ إليْهِ...)(إلَيْهِ تَعْرُجُ...وَالرُّوحُ...)(يَخَافُونَ رَبَّهم مِنْ فَوْقِهِم...)(ثُمَّ استَوى عَلى العَرْشِ))(في ستة مواضع). (الرّحمنُ عَلَى العَرْشِ استَوى)، (يا هَامَانُ ابْنِ لي صَرْحاً لَعَلّي أبْلُغُ الأسبابَ، أسْبَابَ السَّمواتِ، فأطَّلِعَ إلى إله)
________________________________________
1. الصفات الخبرية، هي الصفات الّتي أخبر عنها القرآن والسنة، مقابل ما يدل عليه العقل كالعلم والقدرة .
________________________________________
(115)
موسى وَ إنِّي لاَظُنّهُ كاذِباً...))، (تَنزيلٌ مِنْ حكيم حميد)، (مُنَزّلٌ مِنْ رَبِّك) إلى أمثال ذلك مما لا يكاد يحصى إلاّ بكلفة .
وفي الأحاديث الصحاح والحسان ما لا يحصى، مثل قصة معراج الرسول ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ إلى ربّه، ونزول الملائكة من عنداللّه وصعودهم إليه، وقوله في الملائكة: «الذين يتعاقبون بالليل والنهار، فيعرج الذين باتوا فيكم إلى ربهم، فيسألهم وهو أعلم بهم»، وفي الصحيح في حديث الخوارج: «ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحاً ومساء» وفي حديث الرقية الّذي رواه أبو داود وغيره: «ربنا اللّه الّذي في السماء تقدس اسمك. أمرك في السماء كما رحمتك في السماء، اجعل رحمتك في الأرض. اغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت ربّ الطيبين»، وقال ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ : «إذا اشتكى أحد منكم أو اشتكى أخ من إخوانه فليقل: «ربنا اللّه الّذي في السماء ذكره»، وقوله في حديث الأعمال: «والعرش فوق ذلك، واللّه فوق عرشه، وهو يعلم ما أنتم عليه» وقوله في حديث قبض الروح: «حتّى يعرج به إلى السماء الّتي فيها اللّه» .
وقول عبداللّه بن رواحة الّذي أنشده للنبي وأقره عليه:
شهدت بأنّ وعد اللّه حقٌ * وأنّ النار مثوى الكافرينا
وأنّ العرش فوق الماء طاف * وفوق العرش ربّ العالمينا
وقول أُمية بن أبي الصلت الّذي أنشده للنبي، فاستحسنه، وقال: آمن شعره وكفر قلبه .
مجّدوا اللّه فهو للمجد أهل * ربّنا في السماء أمسى كبيراً
بالبناء الأعلى الّذي سبق النا * س وسوىّ فوق السماء سريرا
شرجعاً(1) ما يناله بصر الـ * ـعين ترى دونه الملائك صوراً(2)
إلى أمثال ذلك مما لا يحصيه إلاّ اللّه، مما هو من أبلغ التواترات اللفظية والمعنوية الّتي تورث علماً يقينياً من أبلغ العلوم الضرورية، إنّ الرسول المبلغ
________________________________________
1. الشرجع: الطويل .
2. الصور، جمع أصور: المائل العنق.

________________________________________
(116)
عن اللّه ألقى إلى أُمته المدعوين: أنّ اللّه سبحانه على العرش استوى وأنّه فوق السماء، كما فطر اللّه على ذلك جميع الأُمم عربهم وعجمهم في الجاهلية والإسلام، إلاّ من اجتالته الشياطين عن فطرته .
ثم عن السلف في ذلك من الأقوال ما لو جمع لبلغ مئين أو أُلوفاً، ثم ليس في كتاب اللّه ولا في سنة رسول اللّه، ولا عن أحد من سلف الأُمة ولا من الصحابة والتابعين، ولا عن الأئمة الذين أدركوا زمن الأهواء والاختلاف، حرف واحد يخالف ذلك لا نصاً ولا ظاهراً، ولم يقل أحد منهم قط إنّ اللّه ليس في السماء ولا أنه ليس على العرش، ولا أنه ليس في كل مكان، ولا أن جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء، ولا أنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصل ولا منفصل، ولا أنه لا تجوز الإشارة الحسية إليه بالأصابع ونحوها، بل قد ثبت في الصحيح عن جابر أن النبي لما خطب خطبته العظيمة يوم عرفات، في أعظم مجمع حضره رسول اللّه، جعل يقول: ألا هل بلّغت؟ فيقولون: نعم، فيرفع إصبعه إلى السماء وينكبها إليهم فيقول: اللّهمّ اشهد، غير مرة، وأمثال ذلك كثيرة
(1) .
وقد كرر ابن تيمية ما اختاره في باب الصفات الخبرية في غير واحد من آثاره، فقال في العقيدة الواسطية: «وما وصف الرسول به ربه من الأحاديث الصحاح الّتي تلقّاها أهل المعرفة بالقبول وجب الإيمان بها، كذلك مثل قوله: «ينزل ربنا إلى سماء الدنيا كل ليلة، حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: «من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له» وقوله ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ : «يضحك اللّه إلى رجلين أحدهما يقتل الآخر، كلاهما يدخل الجنة» .
وقوله: «
لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد؟ حتّى يضع رب العزة فيها قدمه» وقوله ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ في رقية المريض: «ربنا اللّه الّذي في السماء ـ تقدس اسمك ـ أمرك في السماء والأرض...» .
________________________________________
1. العقيدة الحموية الكبرى ـ الرسالة الحادية عشرة ـ من مجموع الرسائل الكبرى لابن تيمية ص 429 ـ 432 .
________________________________________
(117)
وقوله: «والعرش فوق ذلك، واللّه فوق ذلك، واللّه فوق عرشه، وهو يعلم ما أنتم عليه» وقوله ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ للجارية: «أين اللّه؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول اللّه. قال: أعتقها فأنها مؤمنة» وقوله: «إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإنّ الله قِبَلَ وجهه، فلا يبصق قبل وجهه ولا عن يمينه، ولكن عن يساره أو تحت قدمه»، وقوله: «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته» .
وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان باللّه، الإيمان بما أخبر اللّه به في كتابه، وتواتر عن رسوله، وأجمع عليه سلف الأُمة من أنّه سبحانه فوق سماواته على عرشه، علىٌّ على خلقه، وهو معهم سبحانه أينما كانوا»(1) .
وقال: «وقد سألوه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ : هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فأجابهم: نعم، وسأله أبو رزين: أيضحك ربنا؟ فقال ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ : نعم، فقال: لن نعدم من رب يضحك خيراً. ثم إنهم لما سألوه عن الرؤية، قال: إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر، فشبه الرؤية بالرؤية(2) .
وقال رداً على نُفاة الصفات(3): إمّا أن يكون اللّه يحب منّا أن نعتقد قول النفاة، أو نعتقد قول أهل الإثبات، أو نعتقد واحداً منهما; فإن كان مطلوبه منّا اعتقاد قول النفاة، وهو أنّه لا داخل العالم ولا خارجه، وأنّه ليس فوق السماوات ربُّ ولا على العرش إله، وأنّ محمداً لم يعرج به إلى اللّه، وإنما عرج به إلى السماوات فقط، لا إلى اللّه، فإنّ الملائكة لا تعرج إلى اللّه بل إلى ملكوته، وإنّ اللّه لا ينزل منه شيء ولا يصعد إليه شيء، وأمثال ذلك. وإن كانوا يعبّرون عن ذلك بعبارات مبتدعة فيها إجمال وإبهام وإيهام، كقولهم: ليس بمتحيز، ولا جسم، ولا جوهر، ولا هو في جهة، ولا مكان، وأمثال هذه
________________________________________
1. العقيدة الواسطية، الرسالة التاسعة، من مجموع الرسائل الكبرى، ص 398 ـ 400 بتلخيص .
2. مجموعة الرسائل والمسائل ج 1 ص 203، طبع لجنة التراث العربي .
3. المراد: الصفات الخبرية كاليد والوجه .

________________________________________
(118)
العبارات الّتي تفهم منها العامة تنزيه الرب تعالى عن النقائص، ومقصدهم أنّه ليس فوق السماوات ربّ ولا على العرش إله يعبد، ولا عُرج بالرسول إلى اللّه، ولو كان هذا هو المطلوب كان من المعلوم أنه لا بد أن يبينه الرسول، وقد علم بالاضطرار أنّ الرسول وأصحابه لم يتكلموا بمذهب النفاة(1) .
وقال: «إنّ المالكية وغير المالكية نقلوا عن مالك أنّه قال: اللّه في السماء، وعلمه في كل مكان، ولأنّ علماءهم حكموا إجماع السنة والجماعة على أنّ اللّه بذاته فوق عرشه»(2) .
وقال ـ نقلا عن ابن أبي حنيفة ـ «أنّه سئل عمن يقول: لا أعرف ربّي في السماء أو في الأرض؟ قال: كفر، لأنّ اللّه يقول: (الرَّحمن على العرش استوى) وعرشه فوق سبع سماواته، فقال السائل: إنّه يقول على العرش، ولكن لا أدري العرش في السماء أو في الأرض؟ فقال: إنّه إذا أنكر أنّه في السماء كفر، لأنّه تعالى في أعلى عليين، وإنّه ليدعى من أعلى لا من أسفل(3) .
ونقل عن عبداللّه بن المبارك أنّه سئل: بماذا تعرف ربنا؟ قال: بأنّه فوق سماواته على عرشه، بائن عن خلقه قلت بحد لا يعلمه غيره. ثم نقل عن كثير من أئمة الحديث كالثوري، ومالك، وابن عيينة، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وابن المبارك، وفضيل بن عياض، وأحمد، وإسحاق، عن كون اللّه سبحانه فوق العرش بذاته، وأنّ علمه بكل مكان(4).
إلى غير ذلك مما نقله وأرسله على نسق واحد، والكل يهدف إلى أن الصفات الخبرية يجب أن تجري على اللّه سبحانه بحرفيتها وظهورها التصوري، من دون تفصيل وتأويل، بإرجاعها إلى المعاني المجازية أو الكنائية .
________________________________________
1. مجموعة الرسائل والمسائل ج 1 ص 203 .
2. مجموعة الرسائل والمسائل ج 1 ص 203 .
3. مجموعة الرسائل والمسائل ج 1 ص 207 .
4. مجموعة الرسائل والمسائل ج 1 ص 208 ـ 209 .
 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية