البناء على القبور وأدلته

البريد الإلكتروني طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 4 ، ص 197 ـ 208
________________________________________
(197)
إلى هنا تبين أنّه ليس للقوم دليل، بل ولا شبهه على حرمة البناء على القبور، وأنهم لم يدرسوا صحاحهم ومسانيدهم حسبما درس السلف الصالح. والآن هلمّ معي أتلو عليك أدلة القائلين بالجواز، سواء أكان صاحب القبر رجلا عادياً أم كان عظيماً من عظماء الدين، وإليك بيانها:
عرض المسألة على الأدلة المحكمة
إذا وقفت على ضعف ما استدل به القوم على تحريم البناء على القبور، وسقوطه عن الاعتبار، فيجب عرض المسألة على الأدلة المحكمة الّتي لا يصحّ لأحد النقاش في اعتبارها وحجيتها .
فإذا دلت تلك الأدلة على الجواز، فلا محيص من طرح هذه الأحاديث الضعاف، أوحملها على الكراهة، أو غير ذلك. وإليك بيان تلك الأدلة:
1- الكتاب والبناء على القبور
يظهر من الكتاب أنّ البناء على القبور، بل بناء المسجد عليها كان جائزاً في الشرائع السابقة، وأنّ الناس عندما وقفوا على قبور أصحاب الكهف،
________________________________________
(198)
اختلفوا على قولين: فمن قائل: (ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَاناً)(1) .
ومن قائل آخر: (لَنَتَّخِذَنّ عَليْهِم مَسْجداً)(2) .
والاستدلال بالآية واضح لمن يرى القرآن قدوة وأُسوة.
فإنّ القرآن ينقل كلا القولين، من دون أن ينتقدهما أو يعترض عليهما ويردع عنهما بل الظاهر أنّه ينقلهما بصورة التحسين، وأنّ أصحاب الكهف بلغ بهم ثباتهم في طريق العقيدة إلى حد لما عثر عليهم الناس اجتمعوا على تكريمهم واحترامهم، بل التبرك بهم، فمن قائل بلزوم البناء عليهم. وآخر باتخاذ مراقدهم مسجداً، وليس القرآن كتاب قصة وأُسطورة، وإنما هو كتاب إرشاد وقدوة وإمام. فلو كانوا في عملهم هذا ضالين لعلق على قولهم بشىء أو عابه، كما هو الحال فيما ينقل عن المشركين، والكافرين، عملا، أو رأياً.
قال سبحانه حاكياً كيفية غرق فرعون: (حَتّى إذَا أدْرَكَهُ الغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أنّهُ لاَ إلهَ اَلاّ الّذي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إسرائيلَ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ)(3) ولأجل إيقاف المؤمنين على أنّ الإيمان في هذا الظرف غير مفيد، عقّب عليه بقوله:(ألآن وَقَد عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفسِدِينَ)(4) .
فلأجل ذلك يكون القرآن قدوة في كل ما ينقله من أعمال الماضين، إلاّ إذا عقّب عليه بالرد، أو دلّت القرائن على كونه عملا غير مقبول .
2- السيرة المستمرة بين المسلمين
لم يزل الإلهيون من أهل الكتاب والمسلمين في قاطبة الأعصار يهتمون بمقابر الأنبياء والأولياء بالبناء والتعمير، ثم التطهير والتنظيف، حتّى نرى أنّ كثيراً من المتمكّنين يخصصون أموالهم ويوقفونها في هذا المجال.
فهذه القباب الشاهقة، والمنائر الرفيعة، والساحات الوسيعة حول
________________________________________
1. سورة الكهف: الآية 21 .
2. سورة الكهف: الآية 21 .
3. سورة يونس: الآية 90 .
4. سورة يونس: الآية 91 .

________________________________________
(199)
مراقد الأنبياء والأولياء، في مختلف البلاد شرقها وغربها، وهذا دليل قاطع على أنّ هذه السيرة كانت مرضية عن صاحب الشريعة وخلفائه وأصحابه، وإلاّ كان عليهم رفضها وردها بالبنان والبيان، والسلطة والقوة، فالسكوت في بعض الفترات ودعمها في بعض الأحايين أدلّ دليل على كونها سيرة مرضية.
نعم، إذا كان اتّخاذ المقابر مساجد على النحو الرائج عند اليهود والنصارى فهو محرّم، وقد نصّ الرسول على تحريمه، كما تأتي الروايات مع توضيحها، وهو مسألة أُخرى غير مجرّد البناء على القبور الّذي هو مسألتنا.
هذا هو السلف الصالح قد وقفوا ـ بعد ما فتحوا الشام ـ على قبور الأنبياء ذوات البناء الشامخ... فتركوها على حالها من دون أن يخطر ببال أحدهم وعلى رأسهم عمر بن الخطاب بأنّ البناء على القبور أمر محرّم يجب أن تهدم، وهكذا الحال في سائر القبور المشيدة عليها الأبنية في أطراف العالم، وإن كنت في ريب فاقرأ تواريخهم، وإليك نص ما جاء في دائرة المعارف الإسلامية:
إنّ المسلمين عند فتحهم فلسطين وجدوا جماعة من قبيلة «لخم» النصرانية يقومون على حرم إبراهيم بـ «حبرون» ولعلهم استغلوا ذلك ففرضوا أتاوة على حجاج هذا الحرم.. وربما يكون توصيف تميم الداري نسبة إلى الدار، أي: الحرم، وربما كان دخول هؤلاء اللخميين للإسلام، لأنّه قد مكّنهم من القيام على حرم إبراهيم الّذي قدّسه المسلمون تقديس اليهود والنصارى من قبلهم(1) .
وجاء أيضاً في دائرة المعارف الإسلامية في مادة «الخليل»: ويقول المقدسي، وهو أول من أسهب في وصف الخليل: إنّ قبر إبراهيم كانت تعلوه قبة بنيت في العهد الإسلامي، ويقول مجير الدين: إنها شيدت في عهد الأمويين، وكان قبر إسحاق مغطّى بعضه، وقبر يعقوب قباله، وكان المقدسي أول من ذكر تلك الهبات الثمينة الّتي قدّمها الأُمراء الورعون من أقاصي البلاد إلى هذا الضريح، وذلك الاستقبال الكريم الّذي يلقاه الحجاج من جانب
________________________________________
1. دائرة المعارف الإسلامية ج 5 ص 484 مادة تميم الداري .
________________________________________
(200)
التميميين (1) .
ولو قام باحث بوصف الأبنية الشاهقة الّتي كانت مشيدة على قبور الأنبياء والصالحين قبل ظهور الإسلام، وما بناه المسلمون في عصر الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يومنا هذا في مختلف البلدان، لجاء بكتاب فخم ضخم، يعرب عن أنّ السّنة السنية الرائجة في تلك الأعصار قبل الإسلام وبعده، من عصر الرسول والصحابة والتابعين لهم إلى يومنا هذا، هي مشروعية البناء على القبور، والعناية بحفظ آثار رجال الدين، ولم ينبس أىّ ابن أُنثى حول ذلك ببنت شفة، وما اعترض عليها، بل تلقوها إظهاراً للمحبة والود لأصحاب الرسالات والنبوات وأصحاب العلم والفضل، ومن خالف تلك السنة وعدّها شركاً أو أمراً محرّماً فقد اتّبع غير سبيل المؤمنين قال سبحانه:
(وَمَنْ يَشَاقَقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبيلَ الْمؤْمِنينَ نُوَلِّه مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً)(2) .
وقد وارى المسلمون جسد النبي الأكرم في بيته المسقف، ولم يزل المسلمون مذ أن وورِيَ جثمانه، على العناية بحجرته الشريفة بشتى الأساليب، وقد بنى عمر بن الخطاب حول حجرته جداراً وقد جاء تفصيل كل ذلك مع ذكر وصف الأبنية الّتي توالت عليها عبر القرون في الكتب المتعلقة بتاريخ المدينة، لا سيما وفاء الوفاء للعلامة السَّمهودي المتوفى عام (911 هـ)(3) والبناء الأخير الّذي شيّد عام (1270 هـ) قائم لم يمسه سوء، وسوف يبقى بفضل اللّه تبارك وتعالى محفوظاً عن الاجتراء .
وأمّا المشاهد والقباب المبنية في المدينة في العصور الأُولى فحدّث عنها ولا حرج، ولا سيما في بقيع الغرقد، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتب التاريخ وأخبار المدينة .
هذا هو المسعودي المتوفى عام (345 هـ) يقول: «وعلى قبورهم في هذا
________________________________________
1. دائرة المعارف الإسلامية ج 8 ص 420 مادة خليل .
2. سورة النساء: الآية 115.
3. وفاء الوفاء ج 2 الفصل التاسع ص 458 إلى آخر الفصل .

________________________________________
(201)
الموضع من البقيع رخامة مكتوبه عليها: بسم اللّه الرحمن الرحيم، الحمدللّه مبيد الأُمم ومحي الرمم، هذا قبر فاطمة بنت رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ سيدة نساء العالمين، وقبر الحسن بن علىّ بن أبي طالب، وعلىّ بن الحسين بن أبي طالب، ومحمد بن علىّ و جعفر بن محمد»(1) .
وذكر السبط ابن الجوزي المتوفى عام 654 هـ في تذكرة الخواص ص 311 نظير ذلك، وهذا هو محمد بن أبي بكر التلمساني يصف المدينة الطيبة وبقيع الغرقد في القرن الرابع بقوله: «وقبر الحسن بن علىّ عن يمينك إذا خرجت من الدرب ترتفع إليه قليلا، عليه مكتوب: هذا قبر الحسن بن علىّ، دفن إلى جنب أُمه فاطمة رضي اللّه عنها وعنه(2) .
ويقول الحافظ محمد بن محمود بن النجار المتوفى عام 643 هـ في أخبار مدينة الرسول ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ :.. في قبة كبيرة عالية قديمة البناء في أول البقيع، وعليها بابان يفتح أحدهما في كل يوم للزيارة، رضي اللّه عنهم(3) .
يقول ابن جبير ذلك السائح الطائر الصيت المتوفى عام 614 هـ في رحلته في وصف بقيع الغرقد: مقابل قبر مالك، قبر السلامة الطاهرة إبراهيم ابن النبي عليه قبة بيضاء وعلى اليمين منها تربة ابن عمر بن الخطاب (رضي الّه عنه)... وبإزائه قبر عقيل ابن أبي طالب (رضي اللّه عنه). وعبداللّه بن جعفر الطيار (رضي اللّه عنه)، وبإزائهم روضة فيها أزواج النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ وبإزائها روضة صغيرة فيها ثلاثة من أولاد النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ ، ويليها روضة العباس بن عبدالمطلب والحسن بن علي (رضي اللّه عنه)، وهي قبة مرتفعة في الهواء على مقربة من باب البقيع المذكور، وعن يمين الخارج من، رأس الحسن إلى رجلي العباس (رضي اللّه عنهما)، وقبراهما مرتفعان عن الأرض متسعان مغشيان بألواح ملصقة أبدع، إلصاق، مرصعة بصفائح الصفر، ومكوكبة بمسامير على أبدع صفة وأجمل منظر، وعلى هذا
________________________________________
1. مروج الذهب ومعادن الجوهر، ج 2 ص 288 .
2. مجلة العرب رقم 5 ـ 6 المؤرخ 1393 .
3. أخبار مدينة الرسول اهتم بنشره صالح محمد جمال ـ طبع مكة المكرمة 1366 .

________________________________________
(202)
الشكل قبة إبراهيم ابن النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ ، ويلي هذه القبة العباسية بيت ينسب لفاطمة بنت الرسول ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ ، ويعرف ببيت الحزن... وفي آخر البقيع قبر عثمان الشهيد المظلوم ذي النورين (رضي اللّه عنه)، وعليه قبة صغيرة مختصرة، وعلى مقربة منه مشهد فاطمة ابنة أسد أُم علىّ (رضي اللّه عنها) وعن بنيها(1).
روى البلاذري أنّه لما ماتت زينب بنت جحش سنة عشرين صلى عليها «عمر» وكان دفنها في يوم صائف، ضرب «عمر» على قبرها فسطاطاً(2) ولم يكن الهدف من ضربه تسهيل الأمر لمن يتعاطى دفنها، بل لأجل تسهيله لأهلها حتّى يتفيّأوا بظلّه ويقرأوا ما تيسّر من القرآن والدعاء، فلاحظ .
حصيلة البحث
إنّ سيرة المسلمين من عصر الصحابة إلى التابعين إلى تابعي التابعين، إلى عصرنا هذا أقوى حجة على الحكم الشرعي ـ فإنّ اتفاق العلماء في عصر و «إجماعهم على حكم» حجة شرعية عليه، فكيف اتفاقهم عليه طيلة قرون، ولا سيما الصحابة العدول .
فالصحابة واروا جسد النبي الأكرم ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ في بيته، ولم يخطر ببال أحد أن البناء على القبور محرّم، ولا أظن أنّ جاهلا متنسّكاً يفرق بين البناء المتقدم على الدفن والمتأخر عنه، فضلا عن عالم، فإنّ كون قبر الميت تحت بناء تكريم له وتعظيم، والقوم يتلقونه شركاء لأنّه تعظيم لغير اللّه، فلا يفرق بين البناء على القبور أو دفن الميت تحت بناء .
وليس هذا شيء ينكره أحد من المسلمين .
والعجب أنّ الوهابيين لما واجهوا هذه السيرة المستمرة عمدوا إلى تفسير هذه السيرة بأنّ النبي إنما دفن في بيته، لأجل حديث رواه أبوبكر، قال ابن كثير: إنّ أصحاب النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ لم يدروا أين يقبرون
________________________________________
1. رحلة ابن جبير، بيروت دار صادر. وقد زار المدينة المنورة عام 578 هـ .
2. أنساب الأشراف ج 1 ص 436 .

________________________________________
(203)
رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ حتّى قال أبوبكر: سمعت النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ يقول: لم يقبر نبىّ إلاّ حيث يموت(1) .
ثم أضاف المؤلف: فعلمنا من هذه الأحاديث أنّ النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ دفن في بيته كما أمر بذلك، فعلى هذا فلا حجة فيه للقبوريين في البناء على القبور، إذ لم يبن على قبره، وإنّما دفن في بيته(2) .
ولا يخفى وجود التهافت في عبارته، فصدرها يدل على أنّ دفن النبي في بيته كان بأمره ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ ، ولو لم يكن أمره لما دفنوه فيه، لأنّ الدفن في البناء حرام، وذيل العبارة يدل على التفريق بين الدفن تحت البناء القائم والبناء على القبر .
فلو أراد الوجه الأول كما هو ظاهره حيث استقصى مصادر الحديث المذكور قرابة ست صفحات، فهو مردود بدفن الشيخين في البيت، مع أنّه لم يرد في حقهما ما ورد في حق النبي .
ولو أراد الثاني فهو تفريق لا يجنح إليه ذو مسكة، بعد وحدة الملاك والاشتراك في المفسدة المزعومة.
وبعد دلالة الذكر الحكيم والسيرة على الجواز، لا مناص عن طرح هذه الروايات أو تأوليها.
3- البناء تعظيم لشعائر اللّه
إنّ تعظيم قبور الأنبياء والأولياء وتنظيفها وحفظها عن تطرق الفساد والانهدام مظهر لتعظيم شعائر اللّه قال سبحانه:
(ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظَّم شَعَائِرَ اللّهِ فإنَّها مِنْ تَقْوى القُلُوبِ)(3) .
________________________________________
1. البداية والنهاية ج 5 ص 266، وقد جاءت مصادر هذه الرواية في كتاب رياض الجنة ص 264 .
2. رياض الجنة 269 .
3. سورة الحج: الآية 32 .

________________________________________
(204)
والاستدلال بالآية يتوقف على ثبوت صغرى وكبرى:
الغصرى عبارة عن كون الأنبياء وأوصيائهم ومن يرتبط بهم أحياءً وأمواتاً من شعائر اللّه... والكبرى عبارة عن كون البناء والتنظيف وصيانة المقابر تعظيم لشعائر اللّه .
ولا أظن أنّ الكبرى تحتاج إلى مزيد بيان، إنما المهم بيان الصغرى، وأنّ الأنبياء والأوصياء من شعائر اللّه، وبيان ذلك يحتاج إلى نقل ما ورد حول شعائر اللّه من الآيات :
1- (إنَّ الصّفا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللّه)(1) .
2- (يَا أيُّها الّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللّهَ وَلاَ الشّهْرَ الحَرَامِ وَلا الهَدْيَ وَ لاَ القَلاَئِدَ وَ لاَ آمِّينَ البَيْتَ الحَرَامَ يبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ رَبِّهِمْ وَ رضْوَاناً)(2) .
3- (وَالبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِر اللّه لَكُمْ فِيْهَا خَيْرٌ)(3) .
4- وفي رواية أُخرى جعل مكان شعائر اللّه، حرمات اللّه وقال:
(ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللّه فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنْعامُ إلاّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنِ الأوثَانِ...)(4) .
ما هو المقصود من (شعائر اللّه) ؟
هنا احتمالات:
1- تعظيم آيات وجوده سبحانه .
2- معالم عبادته وأعلام طاعته .
3- معالم دينه وشريعته وكل ما يمتإليهما بصلة .

________________________________________
1. سورة البقرة: الآية 158 .
2. سورة المائدة: الآية 2 .
3. سورة الحج: الآية 36 .
4. سورة الحج: الآية 30 .

________________________________________
(205)
أمّا الأول فلم يقل به أحد، إذ كل ما في الكون آيات وجوده، ولا يصحّ تعظيم كل موجود بحجة أنه دليل على الصانع .
وأمّا الثاني فهو داخل في الآية قطعاً، وقد عدّ الصفا والمروة والبدن من شعائر اللّه، فهي من معالم عبادته وأعلام طاعنه، إنما الكلام في اختصاص الآية بمعالم العبادة وأعلام طاعته، الظاهر المتبادر هو الثالث، أي معالم دينه سبحانه، سواء أكانت أعلاماً لعبادته وطاعة أم لا، فالأنبياء والأوصياء والشهداء والصحف والقرآن الكريم والأحاديث النبوية كلها من شعائر دين اللّه وأعلام شريعته، فمن عظمها فقد عظم شعائر الدين .
قال القرطبي: فشعائر اللّه: أعلام دينه، لا سيما ما يتعلق بالمناسك(1) ولقد أحسن حيث عمّم أولا، ثم ذكر مورد الآية ثانياً، ومما يعرب عن ذلك أنّ إيجاب التعظيم تعلق بـ (حرمات اللّه) في آية أُخرى .
قال سبحانه: (وَمَنْ يُعظَّمْ حُرُماتِ اللّه فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ ربّه)، والحرمات ما لا يحل انتهاكه، فأحكامه سبحانه حرمات اللّه، إذ لا يحل انتهاكها، وأعلام طاعته وعبادته وحرمات اللّه، إذ يحرم هتكها وأنبياؤه وأوصياؤهم وشهداء دينه وكتبه وصحفه من حرمات اللّه، يحرم هتكهم، فلو عظّمهم المؤمن أحياء وأمواتاً فقد عمل بالآيتين: «وَمَن يَعظّم حرمات اللّه» «ومن يعظّم شعائر اللّه».
4- الإذن في ترفيع بيوت خاصة
لقد أذن اللّه تعالى في ترفيع البيوت الّتي يذكر فيها اسمه فقال: (في بُيُوت أذِنَ اللّهُ أنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوَّ وِ الآصَالِ * رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاّبَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّه)(2) وقد عرفت أنّ ابن تيمية جعل الآية دليلا على تكريم المساجد، ولكنّه غفل عن أنّ البيوت غير المساجد، فهناك بيت وهناك مسجد، والبيت هو البناء الّذي يتشكّل من جدران أربعة وعليها
________________________________________
1. تفسير القرطبي، طبع دار إحياء التراث العربي، ج 12 ص 56 .
2. سورة النور: الآية 36 ـ 37 .

________________________________________
(206)
سقف قائم، ولأجل ذلك يقال للكعبة بيت اللّه، وللساحة المحيطة به (المسجد الحرام) وأيضاً يستحب أن تكون المساجد غير مسقّفة، وترى المسجد الحرام مكشوفاً تحت السماء من دون سقف يظلّه، دون البيت فالسقف من مقوماته .
قال سبحانه: (وَلَوْلاَ أنْ يَكُونَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بَالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِم سُقُفاً مِنْ فِضّة وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُون)(1) .
فالبيوت غير المساجد، ولو تنزلنا فهي أعمّ منها تشمل المسجد وغيره. هذا كله حول البيوت، وأمّا الرفع الوارد في الآية الكريمة فسواء أفسّر بالرفع الحسي بإرساء القواعد وإقامة الجدران كما في قوله سبحانه: (وَإذْ يَرْفَعُ إبْراهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإسماعِيلُ)(2)، أَمْ فسّر بالرفع المعنوي كما هو الحال في قوله سبحانه: (وَرَفَعَنَاه مَكَاناً عَلياً)(3). أي منحناه مكانة عالية. فلو فسرّ بالرفع الحسّي يكون دليلا على جواز تشييد بيوت الأنبياء والأولياء، وتعميرها في حياتهم وبعد وفاتهم حسب إطلاق الآية، وقد كان بيوت كثير من الأئمة الصالحين هي مقابرهم، فتشييد هذه البيوت عمل جائز بنص الآية، وأمّا لو فسّر بالرفع المعنوي، وأنّ من وظائف المسلمين تكريم هذه البيوت كما هو المتبادر، فتعمير بيوتهم من مظاهر ذلك التعظيم المعنوي، كما أنّ تدميرها وجعلها معرضة لما لا يناسب ساحتهم، تجاهل لهذه الآية وتولٍّ عنها .
ومن لطيف ما روي في المقام ما رواه الحافظ السيوطي عن أنس بن مالك، وبريدة، أنّ رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ قرأ قوله: (في بيوت أذن اللّه أن ترفع) فقام إليه رجل وقال: أي بيوت يا رسول اللّه؟ فقال: «بيوت الأنبياء» فقام إليه أبوبكر وقال: يا رسول اللّه وهذا البيت منها؟ ـ مشيراً إلى بيت علىّ وفاطمة ـ فقال النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ : نعم من أفاضلها(4) .
________________________________________
1. سورة الزخرف: الآية 33 .
2. سورة البقرة: الآية 127 .
3. سورة مريم: الآية 57 .
4. الدر المنثور: ج 5 ص 50 .

________________________________________
(207)
فهذه الآية وحدها كافية في جواز تعظيم بيوت الأنبياء والأوصياء وأهل بيت النبي مطلقاً، ومقابرهم ومراقدهم إذا كانت بيوتهم .
5- إظهار المودة للنبي والقربى
إنّ القرآن الكريم ـ يأمرنا ـ بكل صراحة ـ بحب النبي وأقربائه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ ، ومودّتهم ومحبّتهم فيقول:
(وَمَنْ يَتَوَلّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذينَ آمَنُوا فَإنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الغَالِبُونَ)(1) .
(قُل لا أسْالُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إلاّ المَودَّةَ فِي القُرْبَى)(2) .
ومن الواضح لدى كل من يخاطبه اللّه بهذه الآية أنّ البناء على مراقد النبي وأهل بيته ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ ، وهو نوع من إظهار الحب والمودة لهم، وبذلك يخرج عن كونه بدعة لوجود أصل له في الكتاب والسنة، ولو بصورة كلية .
وهذه العادة متبعة عند كافة الشعوب، والاُمم في العالم، فالجميع يعتبرون ذلك نوعاً من المودة لصاحب ذلك القبر، ولذلك تراهم يدفنون كبار الشخصيات السياسية والعلمية في كنائس ومقابر مشهورة، ويزرعون أنواع الأزهار والأشجار حولها .
إلى هنا تمّ الكلام حول جواز البناء على القبور مطلقاً، وقبور الأنبياء والأوصياء والصالحين خاصة، على وجه لم يبق لمتدبّر فيه شكّ، ولا لمكابر إنكار، إلاّ من أعمى اللّه بصره وبصيرته .
هذه هي الآيات الواضحة الدلالة على جواز البناء، وهذه هي سيرة المسلمين المشرقة طوال القرون.
________________________________________
1. سورة المائدة: الآية 56 .
2. سورة الشورى: الآية 23 .

________________________________________
(208)
فلو فرضنا تعارض الأدلة من الجانبين، فالأصل هو الإباحة كما سيوافيك .
6- الأصل هو الإباحة
إنّ القائل بالحرمة يجب أن يستدل عليها، والقائل بالإباحة يكفيه الأصل (عدم الحرمة إلاّ ما قام الدليل على تحريمه) وقد عرفت أنّه ليس هناك شبه دليل على الحرمة، والآيات أدل دليل على أنّه سبحانه لا يعذب أُمَّةً إلاّ بعد إرسال الرسل و بعثهم، وهو كناية عن وصول البيان والتشريع إلى الناس، فلو لم يصل ـ وإن بلغه الرسول ـ لا يكون منجزاً في حق العبد. قال سبحانه:
(وَمَا كُنّا مُعَذّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولا)(1) .
وظاهر الآيات يعطي أن وظيفة التشريع تبيين المحرمات لا المباحات. قال سبحانه:
(قَلْ تَعَالُوا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُم)(2) .
وقال: (قُلْ لاَ أجِدُ في ما أُوحِيَ إلَىّ مُحَرّماً عَلَى طَاعِم يَطْعَمُهُ..)(3) .
فإذا كان صعيد التشريع فارغاً عمّا يدل على التحريم فهو حجة على كون الشيء مباحاً محللا.
وإليك البحث عن بناء المساجد على قبور الصالحين، وهو الموضوع الخامس فيما طرحه ابن تيمية.
* * *
________________________________________
1. سورة الإسراء: الآية 15.
2. سورة الأنعام: الآية 151 .
3. سورة الأنعام: الآية 145 .
 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية