عرض المسألة على القرآن والسنة

البريد الإلكتروني طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 4 ، ص 303 ـ 308
________________________________________
(303)
عرض المسألة على القرآن
إنّ القرآن الكريم هو الثقل الأكبر والقدوة العليا والمثل الحي لكل مسلم، نرى فيه الحلف بغير اللّه في غير واحد من السور، فقد أقسم تعالى في سورة الشمس وحدها بغير ذاته وصفاته، أعني الشمس وضحاها، والقمر والنهار والليل، والسماء والأِض، والنفس الإنسانية، وأقسم سبحانه في سورة النازعات بأمرين: المرسلات والناشرات، كذلك ورد الحلف بغير اللّه في سورة «الطارق» و «القلم» و «العصر» و «البلد» وغيرها.
وإليك نماذج من آيات الحلف بغير اللّه سبحانه الواردة في غير هذه السور:
(وَالتِّينِ وَالزَّيتُونِ * وَطُورِ سِينيِينَ * وَهَذَا البَلَدِ الأمينِ)(2) .
(وَالليلِ إذَا يَغْشَى * وَالنَّهارِ إذَا تَجَلّى)(3) .
(وَالفَجْرِ * ولَيال عَشْر * والشَّفْعِ وَالوَتْرِ * وَالليلِ إذَا يَسْرِ)(4) .
(وَالطُّورِ * وَكِتاب مَسْطُور * فِي رَقٍّ مَنْشور * وَالبَيتِ المَعْمُورِ * والسَّقْفِ المَرفُوعِ * وَالبَحْرِ المَسجُورِ)(5) .
________________________________________
2. سورة التين: الآية 1-3 .
3. سورة الليل: الآية 1-2 .
4. سورة الفجر: الآية 1-4 .
5. سورة الطور: الآية 1-6 .

________________________________________
(304)
إذا كان القرآن كتاب هداية للبشر والناس يتخذونه قدوة وأُسوة، فلو كان هذا النوع من الحلف حراماً على العباد، وأمراً خاصاً باللّه سبحانه، لكان المفروض أن يحذّر منه القرآن، ويذكر بأن هذا من خصائصه سبحانه .
ومن هنا يعلم أنّ توصيف الحلف بغير اللّه بكونه شركاً صغيراً يستلزم نسبة الشرك إلى اللّه سبحانه، وإذا كانت ماهية الحلف بغير اللّه ماهية شركية فلا يفرق بينه وبين عباده، فإذا كانت ماهية الشيء ظلماً وتجاوزاً على البريء، فاللّه وعباده فيه سيان، قال تعالى: (قُلْ إنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لا تَعْلَمونَ)(1) .
إنّ الحلف بهذه العظائم كما يتضمن الدعوة إلى التدبّر والدقة في صنعها، والنواميس السائدة عليها، واللطائف الموجودة فيها، وبالتالي يحتج بها على صانع لها عالم وقادر وحي و...، كذلك يتضمن جواز الحلف بها إذا كان موجوداً مقدساً، كما حلف سبحانه بحياة النبي وقال:
(لَعَمْرُكَ إنَّهُم لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمِهُونَ)(2) .
عرض المسألة على الأحاديث
هذا بالنسبة إلى القرآن، وإليك عرض المسألة على سنة النبي الأكرم، أعني قوله وفعله وتقريره، فقد حلف بغير اللّه في موارد عديدة منها:
1- روى مسلم في صحيحه:
«جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول اللّه أىّ الصدقة أعظم أجراً؟ فقال: أما وأبيك فننبئنّك: أن تصدَّق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل البقاء»(3) .
2- روى مسلم أيضاً:
________________________________________
1. سورة الأعراف: الآية 28 .
2. سورة الحجر: الآية 72 .
3. صحيح مسلم، ج 3، كتاب الزكاة ـ باب أفضل الصدقة، ص 94 .

________________________________________
(305)
«وجاء رجل إلى رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ ـ من نجد ـ يسأل عن الإسلام، فقال رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ : خمس صلوات في اليوم والليل .
فقال: هل علىّ غيرهن؟
قال: لا... إلاّ أن تطّوّع، وصيام شهر رمضان .
فقال: هل علىّ غيره؟
قال: لا... إلاّ أن تطّوّع، وذكر له رسول اللّه الزكاة.
فقال الرجل: هل علىَّ غيرها؟
قال: لا... إلاّ أن تطّوّع .
فأدبر الرجل وهو يقول: لا أزيد على هذا ولا أنقص منه .
فقال رسول اللّه: أفلح وأبيه
(1) إن صدق .
أو قال: دخل الجنة ـ وأبيه ـ إن صدق»(2) .
3- وروي الحديث في مسند أحمد بن حنبل، وفي نهايته: أنّ النبي قال له:
«... فلعمري لئن تتكلم(3) بمعروف و تنهى عن منكر، خير من أن تسكت»(4) .
وهناك أحاديث أُخرى لا يسع الكتاب ذكرها(5) .
وقد أقسم الإمام علىّ ـ عليه السَّلام ـ ـ ذلك النموذج البارع في التربية
________________________________________
1. أي حلفاً بأبيه، فالواو واو القسم .
2. صحيح مسلم، ج 1 باب ما هو الإسلام، ص 32 .
3. أي تتكلم ـ للمخاطب ـ كما في قوله تعالى: «فأنت له تصدى» «أي تتصدى» .
4. مسند أحمد، ج 5 ص 225 .
5. راجع مسند أحمد: ج 5 ص 212، وسنن ابن ماجة: ج 1 ص 255 وج 4 ص 595 .

________________________________________
(306)
الإسلامية والقيم العالية ـ بنفسه الشريفة مرات في خطبه ورسائله وكلماته(1) .
وهذا أبوبكر بن أبي قحافة يقول للسارق الّذي سرق حلي ابنته، فقال: «وأبيك ما ليلك بليل سارق»(2) .
ولا أرى البحث أكثر من هذا إلاّ تطويلا بلا طائل، وبما أنّ الوهابيين يتمسكون ببعض الأحاديث فلا بأس بدراستها:
1- إنّ رسول اللّه سمع عمر و هو يقول: وأبي، فقال: إنّ اللّه ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، ومن كان حالفاً فليحلف باللّه أو يسكت(3) .
يلاحظ على الاستدلال: بأنّ وجه النهي عن الحلف بالآباء، أنّ أباءهم في الغالب كانوا مشركين وعبدة الأصنام، فلم تكن لهم حرمة ولا كرامة حتّى يحلف أحد بهم، ويؤيد ذلك ما روي عن النبي أنه قال: «ولا تحلفوا بآبائكم ولا بأُمهاتكم ولا بالأنداد»(4) وروي أيضاً: «لا تحلفوا بآبائكم ولا بالطواغيت»(5) .
على أنّه يحتمل أن يكون النهي عن الحلف بالأب في مقام فصل الخصومات و حسم الخلافات، وقد عرفت أنّ الفاصل في هذا المجال هو الحلف باللّه وصفاته .
وأكثر ما يمكن أن يقال: إنّ النهي تنزيهي لا تحريمي بشهادة ما سبق من الحلف بغير اللّه في حديث الرجل النجدي .
2- جاء ابن عمر رجل فقال: أحلف بالكعبة؟ قال له: لا، ولكن احلف برب الكعبة، فإنّ عمر كان يحلف بأبيه، فقال رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ
________________________________________
1. نهج البلاغة: تعليق محمد عبده: الخطبة رقم 22 و25 و56 و85 و161 و168 و182 و183 و187 والرسالة رقم 6 و9 و54 . 2. الموطأ، أخرجه في باب الحدود برقم 29 .
3. سنن ابن ماجة: ج 1 ص 277، سنن الترمذي: ج 4 ص 109 وغيرهما.
4. سنن النسائي ج 7 ص 9 .
5. سنن النسائي: ج 7 ص 7، سنن ابن ماجة: ج 1 ص 278 ـ والطواغيت هي الأصنام .

________________________________________
(307)
لا تحلف بأبيك فإنّ من حلف بغير اللّه فقد أشرك(1) .
يلاحظ على الاستدلال: أنّ الحديث يتألف من أُمور ثلاثة:
1- إِنَّ رجلا جاء إلى ابن عمر فقال: أحلف بالكعبة؟ فأجابه بقوله: لا، ولكن احلف برب الكعبة .
2- إِنَّ عمر بن الخطاب كان يحلف بأبيه، فنهاه النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ عن ذلك .
3- إِنَّ رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ علل ذلك بقوله: «من حلف بغير اللّه فقد أشرك» .
والمتبادر من كلام الرسول حيث وقع تعليلا لنهي عمر عن الحلف بوالده ـ الكافر ـ ما إذا كان المحلوف به شيئاً غير مقدس كالكافر والصنم، وأما إذا كان المحلوف به مقدساً وذا فضيلة وكرامة كالكعبة، فكلام الرسول منصرف عنه، وإنما اجتهد ابن عمر حيث حمل كلام الرسول حتّى على الحلف بالمقدس، كالكعبة، واجتهاده حجة على نفسه لا على غيره .
وهناك جواب آخر، وهو أنه يحتمل وقوع التحريف في الخبر، وأن قوله فقال: «رسول اللّه» مصحّف قوله: وقال رسول اللّه، وعندئذ يكون كلام الرسول مستقلا، لا تعليلا بشيء حتّى النهي عن الحلف بالكافر، وعلى هذا فالحديث مركب من أُمور ثلاثة جمعها ابن عمر في حديث واحد .
والّذي يعرب عن أنّ كلام الرسول كان كلاماً مستقلا غير واقع في ذيل النهي عن الحلف بالأب، ما رواه إمام الحنابلة عن ابن عمر، قال:
«كان يحلف أبي، فنهاه النبي وقال: من حلف بشيء دون اللّه فقد أشرك»(2) فلو كان كلام الرسول مصدّراً بنهي عمر عن الحلف بأبيه كان اللازم أن يقول: «فقال» مكان «قال» وعلى فرض استقلاله ووروده بدون
________________________________________
1. السنن للبيهقي: ج 1 ص 29، وقريب منه في مسند أحمد: ج 2 ص 69 .
2. مسند أحمد: ج 2 ص 34 .

________________________________________
(308)
«الفاء» يكون القدر المتيقن منه الحلف بالأصنام .
ويشهد على ذلك ما رواه النسائي: أن النبىَّ ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ قال: «من حلف فقال في حلفه باللات والعزى فليقل لا إله إلاّ اللّه»(1) .
والحديث يعرب عن أن رواسب الجاهلية كانت باقية في بعض النفوس، فكانوا يحلفون بأصنامهم المعبودة، فأمرهم النبي أن يقولوا بعد الحلف: «لا إله إلاّ اللّه» ليقضي على تلك الرواسب الجاهلية .
وحصيلة الجوابين: إنَّ قول النبي: «من حلف بغير اللّه فقد أشرك» إمّا مختص بغير المقدسات كالحلف باللات والعزى والكافر، أو مختص بالأصنام والأوثان فقط، ولا يعم الكافر فضلا عن المقدسات .
________________________________________
1. سنن النسائي: ج 7 ص 8 .
 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية