ابن تيمية والحلف على اللّه بحق الأولياء

البريد الإلكتروني طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 4 ، ص 309 ـ 317
________________________________________
(309)
(11)
ابن تيمية والحلف على اللّه بحق الأولياء
إنّ من نقاط الاختلاف بين جماهير المسلمين والوهابيين هي مسألة الحلف على اللّه بحق الأولياء .
قال ابن تيمية: التوسل في لغة الصحابة: أن يطلب من النبي الدعاء والشفاعة فيكونون متوسلين و متوجهين بدعائه وشفاعته، ودعاؤه وشفاعته من أعظم الوسائل عند اللّه، وأمّا في لغة كثير من الناس: أن يسأل بذلك، ويقسم عليه بذلك، واللّه تعالى لا يقسم عليه بشيء من المخلوقات، بل لا يقسم بها بحال، فلا يقال أقسمت عليك يا رب بملائكتك، ونحو ذلك، بل إنما يقسم باللّه وأسمائه وصفاته... وأمّا أن يسأل اللّه ويقسم عليه بمخلوقاته، فهذا لا أصل له في الإسلام .
وقال: وقوله: «اللّهمّ إنّي أسألك بمعاقد العز من عرشك، ومنتهى الرحمة من كتابك، وباسمك وجدك الأعلى وكلماتك التامة» مع أنّ في جواز الدعاء به قولين للعلماء: فجوّزه أبو يوسف وغيره، ومنع منه أبو حنيفة وأمثاله، فينبغي للخلق أن يدعوا بالأدعية المشروعة الّتي جاء بها الكتاب والسنة(1) .
ترى أنّ ابن تيمية يفتي بالحرمة من دون أن يذكر لها مصدراً، بل يفتي على خلاف النص كما ستعرفه .
________________________________________
1. مجموعة الرسائل والمسائل: ج 1 ص 21 .
________________________________________
(310)
وجاء الرفاعي يتفلسف في تبيين حرمة الحلف على اللّه بمخلوقه، ويقول:
إنّ الإقسام على اللّه بمخلوقاته أمر خطير يقرب من الشرك، إن لم يكن هو ذاته، فالإقسام على اللّه بمحمد وهو مخلوق بل وأشرف المخلوقين لا يجوز، لأنّ الحلف بمخلوق على مخلوق حرام، وإنّه شرك لأنّه حلف بغير اللّه، فالحلف على اللّه، بمخلوقاته من باب أولى، أي جعلنا المخلوق بمرتبة الخالق، والخالق بمرتبة المخلوق، لأنّ المحلوف به أعظم من المحلوف عليه، ولذلك كان الحلف بالشيء دليلا على عظمته، وأنّه أعظم شيء عند المحلوف عليه(1) .
ومن هنا كان الحلف بالمخلوق على اللّه شركاً باللّه، لأننا خصصنا هذه المكانة العليا بالمخلوق، مع أنها هي بالخالق أولى(2) .
يلاحظ عليه: أنّ كلامه يشتمل على أمرين:
1- إنَّ الحلف بغير اللّه شرك .
2- إنَّ المحلوف به أعظم من المحلوف عليه، فلازم الحلف بالمخلوق على اللّه كونه أعظم من اللّه .
وكلتا الدعويين باطلتان، أمّا الأُولى فقد عرفت في البحث السابق أن الحلف بغير اللّه ليس بحرام، بل هو سنة متبعة بين المسلمين، فقد حلف رسوله ووصيه بغير اللّه، وأن الكتاب قدوة وأسوة، فقد حلف بعمر النبي وحلف بالقرآن الكريم وقال: «يس والقرآن الحكيم» فما هذا الإفتاء به دليل، والتشريع بلا برهان؟
(قُلْ ُآللّه أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرونَ)(3) .
________________________________________
1. تلاحظ أن هذا لا ينسجم مع ما سبق منه: «إنّ المحلوف به أعظم من المحلوف عليه» وفي النسخة بعد لفظة «عليه» لفظة «به» .
2. التوصل إلى حقيقة التوسل: ص 217 ـ 218 .
3. سورة يونس: الآية 59 .

________________________________________
(311)
و أمّا الثانية فالمصيبة فيها أعظم، فإن لازم الحلف بشيء على اللّه، أن يكون المحلوف به محترماً عند اللّه و مقبول الشفاعة والدعاء، لا كونه أعظم من المحلوف عليه، فالرجل لم يفرق بين كونه أكرم عند الّه وبين كونه أعظم من اللّه، والحاصل أنّ هذه التفلسفات لا تكون مدركاً للتشريع والإفتاء بالحرمة، فيجب اتّباع النص وتعليل المسألة في ضوء القواعد الفقهية، فها هنا مقامان:
1- هل الحلف بمخلوق على اللّه شرك؟
2- هل هناك ما يدل على حكم هذا الحلف؟
أمّا الشرك فقد حددناه ووضعنا له حداً منطقياً، وهو الخضوع عن اعتقاد بألوهية المخضوع له وربوبيته، أو كونه قائماً بفعله سبحانه، وهل ينطبق هذا الحد على الحلف بالمخلوق على اللّه؟
إنّ الذكر الحكيم يصف بعض عباد اللّه ويقول:
(الصَّابِرينَ والصَّادِقينَ والقَانَتِينَ والمُنْفِقِينَ وَالمُسْتَغْفِرينَ بِالأسْحَارِ)(1) .
فلو أنّ إنساناً قام في هزيع من الليل وصلّى لربه ركعات، ثم تضرع إلى اللّه قائلا:
«اللّهمّ إنّي أسألك بحق المستغفرين في الأسحار، اغفرلي ذنبي» فهل يصحّ لنا أن نعده مشكركاً، وأنه أشرك الغير في عبادة اللّه، مع أنه رفع يديه إلى اللّه سبحانه ودعاه بالضراوة؟
إنّ القرآن الحكيم ذكر مقياساً للتمييز بين المشرك والموحّد فقال:
(إِنَّهُم كَانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لاَ إله إلاّ اللّه يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقولُونَ أَئِنّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنا لِشَاعِر مَجْنُون)(2) .
________________________________________
1. سورة آل عمران: الآية 17 .
2. سورة الصافات: الآية 35 ـ 36 .

________________________________________
(312)
وقال: (وَإذَا ذُكِرَ اللّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإذَا ذُكِرَ الَّذينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)(1)وقال سبحانه: (ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُم، وَإنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤمِنُوا فَالحُكْمُ لَلّهِ العَلِىِّ الكَبير)(2) .
فهل ينطبق هذا المقياس المركز عليه في الذكر الحكيم على من أحلف اللّه بحبيب من أحبائه، أو شهيد من شهداء دينه؟ فهل هو من الذين إذا دعي اللّه وحده كفر، وإن أشرك به آمن؟
كلاّ وألف كلاّ .
إنّ أرخص شيء وأوفره في سوق الوهابيين هو البذاءة في اللسان، وتكفير المسلمين واتهامهم بالشرك، فكأنهم لا يوجد في علبتهم إلاّ السب والكلام البذيء والاتهام بالشرك، معرضين عن قوله سبحانه:
(وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلقَى إلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤمِناً)(3)
وكأنه سبحانه خوّل تفسير الشرك إلى الوهابيين ليفسروه كيف يشاؤون، فيعتبروا جماعة مشكرين وأُخرى موحدين .
أمّا المقام الثاني، أعني استخراج حكم المسألة من الكتاب والسنة، فيكفي في ذلك :
1- ما رواه أبو سعيد الخدري قال: قال رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ ما خرج رجل من بيته إلى الصلاة فقال: اللّهمّ إنّي أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي...(4) .
2- ما رواه البيهقي عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ :
________________________________________
1. سورة الزمر: الآية 45 .
2. سورة غافر: الآية 12 .
3. سورة النساء: الآية 94 .
4. لاحظ ص 257، 261، 232، 258 من هذا الجزء .

________________________________________
(313)
لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب أسألك بحق محمد إلاّ غفرت لي..»(1) .
3- وما رواه عثمان بن حنيف عن رسول اللّه من دعاء الرسول للضرير وفيه «اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجه إليك بنبيّك محمد نبىّ الرحمة...» (2) .
4- وما روي من دعاء النبي عند دفن فاطمة بنت أسد، قال: اغفر لفاطمة بنت أسد ووسّع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي» (3) .
إنّ هذه الأحاديث وإن خلت من لفظ القسم بعينه، لكن مضمونه موجود لمكان الباء فيها، والمعنى: أقسم عليك بحقّهم .
هذا ما روي عن النبي الأكرم، وإليك ما روي عن أئمة أهل البيت ـ عليهم السَّلام ـ .
5- هذا إمام المتقين أميرالمؤمنين علي ـ عليه السَّلام ـ يقول في دعائه بعد صلاة الليل: «اللّهمّ إني أسألك بحرمة من عاذ بك منك، ولجأ إلى عزّك، واستظلّ بفيئك، واعتصم بحبلك، ولم يثق إلاّ بك» (4).
6- ويقول في دعاء علّمه لأحد أصحابه... «وبحق السائلين عليك، والراغبين إليك، والمتعوذين بك، والمتضرعين إليك، وبحق كل عبد متعبّد لك في كل برّ أو بحر أو سهل أو جبل، أدعوك دعاء من اشتدّت فاقته» (5) .
7- وهذا أبو الشهداء الإمام الحسين بن علىّ ـ عليهما السَّلام ـ يقول في دعائه:
«اللّهمّ إني أسالك بكلماتك، ومعاقد عزك، وسكان سماواتك وأرضك، وأنبيائك ورسلك أن تستجيب لي، فقد رهقني من أمري عسر،
________________________________________
(1، 2، 3) المصدر السابق .
(4، 5) الصحيفة العلوية: ص 370 .

________________________________________
(314)
فأسألك أن تصلي على محمد وآل محمد، وأن تجعل من أمري يسراً».
8- وهذا هو الإمام زين العابدين يقول في دعائه يوم عرفة وهو يناجي ربّه:
«بحقّ من انتخبت من خلقك، بمن اصطفيته لنفسك، بحقّ من اخترت من بريّتك، ومن اجتبيت لشأنك، بحقّ من وصلت طاعته بطاعتك، ومن نيطت معاداته بمعاداتك»(1) .
وهذا هو الإمام الصادق ـ عليه السَّلام ـ يقول عندما زار مرقد جده الإمام أميرالمؤمنين ـ عليه السَّلام ـ :
«اللّهمّ استجب دعائي، واقبل ثنائي، واجمع بيني وبين أوليائي بحق محمد وعلىّ وفاطمة والحسن والحسين»(2) .
ولعلّ القارىء يسأل: هل للوهابيين على تحريم هذا النوع من الحلف دليل؟
والجواب: نعم، إنّ لهم شُبهاً وظنوناً فحسب، وإليك البيان:
1- إنّ الإقسام على اللّه بمخلوق منهي عنه باتفاق العلماء(3) .
إنّ معنى الإجماع على حكم هو اتفاق علماء الإسلام في جميع الأعصار، أو في عصر واحد على حكم .
وأيضاً نسأل من أين وقف هذا الناقل للإجماع على اتفاق علماء الإسلام على التحريم؟ ونحن نسامحه ونقول: هل أفتى خصوص أئمة المذاهب الأربعة بالحرمة؟ فأين هذه الفتاوى؟ دلونا على محلها ومصادرها وكتبها!.
ثم ما قيمة هذه الفتاوى المدّعاة تجاه النصوص والأحاديث الصحيحة
________________________________________
1. الصحيفة السجادية: الدعاء 47 .
2. مصباح المتهجد: ص 681 .
3. الهدية السنية، المنسوب إلى عبدالعزيز بن محمد بن مسعود كما في كشف الارتياب، ص 329 .
________________________________________
(315)
والآثار المروية عن أئمة أهل البيت ـ عليهم السَّلام ـ ، أو ليسوا من السلف الصالح والقادة الأعلين؟.
2- إنّ المسألة بحق المخلوقين لا تجوز لأنه لا حق للمخلوق على الخالق .
إنّ هذا الاستدلال عجيب جداً. هذه هي الآيات القرآنية تثبت حقوقاً على اللّه سبحانه لعباد اللّه الصالحين، وكذلك الأحاديث الشريفة:
(وَكَانَ حَقَّاً عَلَينَا نَصْرُ المُؤمِنِينَ)(1) .
(وَعْداً عَلَيهِ حَقّاً فِي التَّوراةِ وَالإنجيلِ)(2) .
(كَذَلِكَ حَقّاً عَلَينَا نُنْجِ المُؤمِنينِ)(3) .
وبالإضافة إلى ما سبق من الآيات الكريمة... هناك مجموعة كبرى من الأحاديث الشريفة في هذا المجال، وإليك نماذج منها:
ألف ـ قال رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ : «حقٌّ على اللّه عون من نكح التماس العفاف مما حرم اللّه»(4) .
ب ـ «ثلاثة حق على اللّه عونهم: الغازي في سبيل اللّه، والمكاتب الّذي يريد الأداء، والناكح الّذي يريد التعفف»(5) .
ج ـ «أتدري ما حق العباد على اللّه...»(6) .
نعم إنّ من الواضح أنه ليس لأحد بذاته حق على اللّه، فعندئذ، ربما يُسأل عن معنى هذا الحق؟
________________________________________
1. سورة الروم: الآية 47 .
2. سورة التوبة: الآية 111 .
3. سورة يونس: الآية 103 .
4. الجامع الصغير، للسيوطي: ج 2 ص 33 .
5. سنن ابن ماجة: ج 2 ص 841 .
6. النهاية لابن الأثير، مادة حق .

________________________________________
(316)
الجواب: إنّ المقصود من الحق هو المنزلة الّتي يمنحها اللّه تعالى لعباده مقابل طاعتهم وانقيادهم له، وهو مزيد من التفضل والعناية منه تعالى حقاً، فهذا هو الحق الّذي نقسم به على اللّه، حق جعله اللّه ومنحه لعبده، لا أنّ للعبد حقاً على اللّه ذاتاً، وهذا مثل القرض الّذي يستقرضه سبحانه من عباده ويقول:
(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرضاً حَسَناً)(1).
وهذا النوع من التعبير لطف من اللّه سبحانه وعناية فائقة بعباده، حيث يعتبر نفسه المقدسة مدينة وعباده دُيّاناً، فلما أعظم لطفه، مع أنّه سبحانه هو المالك، والعباد خلفاؤه .
قال: (آمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ أَنفِقُوا مَمّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ، فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُم وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ)(2).
ترى أنّ مالك الملوك يستقرض من خلفائه ونوابه .
3- عن جندب بن عبداللّه قال: قال رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ : قال رجل: واللّه لا يغفر اللّه لفلان، فقال اللّه عزّوجلّ:
«من ذا الّذي يتألى علىّ أن لا أغفر لفلان؟ إني قد غفرت له وأحبطت عملك» .
رواه مسلم:
وقد استدل به الشيخ عبدالرَّحمان حفيد الشيخ محمد بن عبدالوهاب في كتابه «قرة عيون الموحدين»(3) .
ولم يذكر كيفية الاستدلال، وذيّل كلامه بحديث أبي هريرة الّذي رواه أبو داود عنه قال: سمعت رسول اللّه يقول: كان رجلان في بني إسرائيل
________________________________________
1. سورة البقرة: الآية 245 .
2. سورة الحديد: الآية 7 .
3. ص 333، طبع لاهور .

________________________________________
(317)
متواخيين، فكان أحدهما يذنب، والآخر مجتهد في العبادة، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول: اقصر، فوجده يوماً على ذنب فقال له: اقصر، فقال: خلني وربي، أبُعثت علىّ رقيباً؟ واللّه لا يغفر اللّه لك ولا يدخلك الجنة، فقبض أرواحهما فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكتب بي عالماً؟ أو على ما في لِدي قادراً؟ فقال للمذنب: أذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: إذهبوا به إلى النار(1) .
والحديث الثاني يفسر الحديث الأول، وأنّ المراد من قوله: «يتألى علّي أن لا أغفر لفلان» هو الحلف بلا علم على اللّه، كما ورد في الحديث الثاني: «أكنت بي عالماً، أو على ما في يدي قادراً»؟.
________________________________________
1. قرة عيون الموحدين: ص 233، والحديث في التعليقة وفي المتن إشارة إليه .
 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية