شواهد إعجاز القرآن : الإخبار عن الغيب

البريد الإلكتروني طباعة

الإخبار عن الغيب

الغيب في اللغة العربية يقابل الحضور ، ويضاد الشهود . قال سبحانه : ( عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ) (1) .

وفي الحديث النبوي : « لِيُبلّغ الشاهدُ الغائبَ » (2) .

وفي كلام علي عليه السلام : « وَنَصحتُ لكم فلم تقبلوا ، أَشُهودٌ كغُيّاب ، وعَبيدٌ كأَرباب » (3) .

وأصول المُغَيَّبات في القرآن ترجع إلى ثلاثة :

الأول : الإخبار عن الله سبحانه ، وأسمائه وصفاته ، والإخبار عن الملائكة والجن وعالم البرزخ والمعاد وما فيه من نعيم أو جحيم ، والقرآن يموج بهذه المعاني الغيبية ، التي لا يتعرّف عليها الحسّ ، ولا تقع في أُفقه في هذا الظرف .

الثاني : الإخبار عن بعض النواميس السائدة على الكون ، وقد كانت مغيّبة ، عند نزول الوحي ، عن إدراك الحواس المجرّدة عن الأدوات المخترعة في هذا الزمان ، وهذا ما نبحث عنه في المقام التالي ، وهو إعجاز القرآن من جهة المعارف الكونية المستكشفة حديثاً .

الثالث : الإخبار عن أُمم قد خلت من قبل وطويت صفحات حياتها ، فأصبحوا ممّا لا يرى حتى آثار مساكنهم ومواطنهم ، من دون مراجعة إلى كتب السير والتاريخ ، أو سؤال الكهنة والمؤرخين ، وهي القَصص الواردة في القرآن الكريم ، التي تشكّل قسماً وافراً من الآيات القرآنية .

وهناك قسم آخر من هذا ، وهو الإخبار عن شؤون البشر في مستقبل أدواره وأطواره ، والإخبار بملاحم وفتن وأحداث ستقع في مستقبل الزمن ، وهذا ما نتبناه في هذا المقام .

إنّ الإخبار عن المغيبات وعن شؤون البشر في مستقبل أدواره وأطواره ، وما يلم به من ملاحم وفتن ، إن دَلَّ على شيء فإنّما يدلّ على كون القرآن كتاباً سماوياً أوحاه سبحانه إلى أحد سفرائه الذين ارتضاهم من البشر ، لأنّه أخبر عن حوادث كان التَكَهُّن والفراسة يقتضيان خلافها ، وصَدَق هو في جميع ما أخبر به ، ولم يخالف الواقع في شيء منها . ونحن نأتي هنا بقسم من تلك الإخبارات ، ولا يمكن حملها على ما يحدث بالمصادفة ، أو على كونها على غرار إخبار الكهنة والعرّافين والمنجمين . فإنّ كذب هؤلاء أكثر من صدقهم . على أنّ دَأْبَهُم هو التعبير عن أحداث المستقبل برموز وكنايات وإشارات ، حتى لا يظهر كذبهم عند التخلّف ويَقْبَلَ كلامُهم التأويل ، وهذا بخلاف إخبار القرآن ، فإنّه ينطق عن الأحداث بحماس ومنطق قاطع ، وإليك الأمثلة :

1 ـ التنبؤ بعجز البشر عن معارضة القرآن

قال سبحانه : ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) (4) .

ترى في هذه الآية ونظائرها التنبؤ الواثق ، بعجز الجن والإنس عن معارضة القرآن عجزاً أبدياً ، ولكن المستقبل ـ كما يقال ـ غَيْبٌ ، لا يملكه النبيُّ ولا الوصيُّ ولا شخص آخر غيرهما . غير أنّ النبي صار صادقاً في تنبؤه هذا ، ولا يزال صادقاً إلى الحال . فعلى أيّ مصدر اعتمد هو في هذا التحدّي غير الإيحاء إليه ، الذي صَدَرَ عنه أيضاً في جميع تشريعاته ؟ .

2 ـ التنبؤ بانتصار الروم على الفرس

قال سبحانه : ( الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ ، لِلَّـهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّـهِ ، يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّـهِ ، لَا يُخْلِفُ اللَّـهُ وَعْدَهُ ، وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) (5) .

ينقل التاريخ أنّ دولة الروم ـ وكانت دولة مسيحية ـ إنهزمت أمام دولة الفرس وهي وَثَنيّة ، بعد حروب طاحنة بينهما سنة 614 م ، فاغتمّ المسلمون لكونها هزيمة لدولة إلهية أمام دولة وثنية ، وفرح المشركون ، وقالوا للمسلمين بشماتة : إنّ الروم يشهدون أنّهم أهل كتاب وقد غَلَبهم المجوس ، وأنْتُم تزعمون أنّكم ستغلبوننا بالكتاب الذي أُنزل عليكم ، فسنغلبكم كما غلبت الفرس الروم .

فعند ذاك نزلت هذه الآيات الكريمات تنبيء بأنّ هزيمة الروم هذه سيعقبها إنتصار لهم في بضع سنين ، وهي مدّة تتراوح بين ثلاث سنوات وتسع . تنبّأً بذلك ، وكانت المقدمات والأسباب على خلافه ، لأنّ الحروب الطاحنة أنهكت الدولة الرومانية حتى غزيت في عقر دارها ، كما يدلّ عليه قوله : ( فِي أَدْنَى الْأَرْضِ ) . ولأنّ دولة الفرس كانت دولة قوية ، منيعة ، وزادها الإنتصار الأخير قوة ومنعة . ولكن الله تعالى أنجز وعده ، وحقّق تنبؤ القرآن ، في بضع سنين ، فانتصر الروم سنة 624 م ، الموافقة للسنة الثانية للهجرة .

وفي الآية تنبؤ آخر ، وهو البشارة بأنّ المسلمين سيفرحون في الوقت الذي ينتصر الروم فيه ، وقد صدق الله وعده حيث وقع في ذلك الظرف ظفر المسلمين في غزوة بدر الكبرى ، فتحققت النبوءتان في وقت واحد .

3 ـ التنبؤ بصيانة النبي عن أذى الناس

قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ ، بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ، وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ، إِنَّ اللَّـهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) (6) .

روى الفريقان (7) أنّ الآية نزلت يوم الغدير حينما أُمر النبي بنصب علي عليه السلام إماماً للناس ، وكان على حَذَر منهم في تنصيب إبن عمه وصهره للخلافة ، فأخبر الله سبحانه بأنّه سيعصمه من أذى الناس وشرّهم ، ولا يتمكنون من اغتياله ، وتحقّق نبأ القرآن ، وصدّق الخُبْرُ الخَبَر .

4 ـ التنبؤ بالقضاء على العدو قبل لقائه

قال سبحانه : ( وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّـهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ ، وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ ، وَيُرِيدُ اللَّـهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ) (8) .

نزلت الآيتان قبل لقاء المسلمين العدو في ساحة المعركة ، فأخبر سبحانه عن هزيمة المشركين واستئصال شأفتهم ، ومحق قوتهم ، كما يدلّ عليه قوله : ( وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ . . ) .

وليس تنبؤ القرآن بالقضاء على مشركي قريش في معركة بدر منحصراً بهذه الآية ، بل تنبَّأَ به في آية أخرى ، وهي قوله سبحانه : ( أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ) (9) .

فأخبر عن انهزام الكفار وفرارهم عن ساحة الحرب ، وقد تحقق التنبؤ يوم بدر ، وكانت المقدمات والأسباب الطبيعية على خلاف النتيجة ، حيث إنّ المشركين كانوا تامِّي العِدّة ووافري العَدَد ، ولم يكن عدد المسلمين يتجاوز ثلثَ عدد المشركين ، لكنّه سبحانه حقّق كلمته وصَدَّق نَبَأَ نبيِّه .

5 ـ التنبؤ بكثرة ذرّية النبي ( صلى الله عليه وآله )

قال سبحانه : ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ) (10) .

الكوثر هو الخير الكثير ، والمراد هنا ، بقرينة قوله : ( إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ) ، كثرة ذُرِّيتِه ، ويؤيّده أنّ السورة إنّما نزلت ردّاً على من عابه بعدم الأولاد ، فالمعنى أنّه يعطيه نسلاً يَبْقون على مرّ الزمان .

قال الرازي : « فانظر كم قُتل من أهل البيت ، ثم العالَم ممتلىء منهم ، ولم يبق من بني أُمَيَّة أَحد يعبأُ به ، ثم انظر كم كان فيهم من الأكابر من العلماء ، كالباقر ، والصادق ، والكاظم ، والرضا ، والنفس الزكية ، وأمثالهم » (11) .

هذه نماذج من تنبؤات الذكر الحكيم ، أتينا بها ليقف الباحث على معشار ما ورد فيه من التنبؤات الغيبية (12) .

هذا وقد عرفت أنّ بعض العلماء ، خصُّوا إعجاز القرآن بإخباره عن الغيب ، غير أنّه غير ظاهر بخصوصه ، لأنّ القرآن يتحدّى حتى بسورة واحدة من سوره الكثيرة ، ومن المعلوم أنّه ليست كلُّ سورة مشتملة على الأخبار الغيبية .

الهوامش

1. سورة الرعد : الآية 9 .

2. مسند أحمد ، ج 4 ، ص 31 و 32 . ومواضع كثيرة أخرى .

4. سورة الإسراء : الآية 88 . ولاحظ البقرة : الآيتان 23 ـ 24 ، يونس : الآية 38 ، هود : الآية 13 .

5. سورة الروم : الآيات 1 ـ 6 .

6. سورة المائدة : الآية 67 .

7. لاحظ الغدير ، ج 1 ، ص 194 ـ 217 . ووقاية المرام ، ص 335 .

8. سورة الأنفال : الآيتان 7 و 8 .

9. سورة القمر : الآيتان 44 و 45 .

10. سورة الكوثر .

11. مفاتيح الغيب ، ج 8 ، ص 498 ، ط مصر .

12. ومن أراد استقصاء تنبؤات القرآن فليرجع إلى ما دوّنه الأستاذ دام ظلّه ، في موسوعته « مفاهيم القرآن » ، ج 3 ، ص 377 ـ 534 .

مقتبس من كتاب : الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل / المجلّد : 3 / الصفحة : 413 ـ 417

 

أضف تعليق

القرآن الكريم وتفسيره

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية