ما تجب معرفته بالتفصيل

البريد الإلكتروني طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج5 ، ص 437 ـ  443
________________________________________
(437)
5 ـ ما تجب معرفته بالتفصيل
إنّ هذه المسألة تفترق عن المسألة الثانية أعني تحديد حقيقة الإيمان و انّ العمل هل هو مقوّم لأقلّ مراتب الإيمان أو لا (وجه الفرق)؟ انّ روح البحث في المقام عن تحديد ما تجب معرفته في مجالي العقيدة و الشريعة، بخلاف المسألة السابقة فإنّ موضوعه تحديد مفهوم الإيمان و انّه هل هو متقوّم بالعقيدة فقط، أو مركّب منها و من العمل؟ فالمسألتان مختلفتان جوهراً فنقول:
الإسلام عقيدة و شريعة، و المطلوب من الاُولى، المعرفة ثم الالتزام القلبي، كما انّ المطلوب من الثانية المعرفة ثم الالتزام العملي، و هذا ممّا لم يختلف فيه اثنان، إلاّ أنّه وقع الاختلاف في تحديد المقدار الّذي تجب معرفته تفصيلاً مقدمة للالتزام القلبي ،كما وقع الخلاف في المقدار الأدنى الّذي تجب معرفته تفصيلاً مقدمة للالتزام العملي، و نحن نبحث عن كلا الأمرين.
________________________________________
(438)
الأمر الأول: ما تجب معرفته في مجال العقيدة:
الّذي يظهر من الطائفة البيهسيّة من الخوارج، لزوم معرفة جميع العقائد الاسلامية تفصيلاً و انّه لولا هذه المعرفة لما دخل الانسان في عداد المسلمين، قالوا: لاُيسلِم أحد حتى يُقر بمعرفة الله، و بمعرفة رسوله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ و بمعرفة ما جاء به محمّد ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ جملة، و الولاية لأولياء الله سبحانه، والبراءة من أعداء الله ـ جلّ وعلا ـ و ما حرّم الله سبحانه ممّا جاء فيه الوعيد فلا يسع الانسان إلاّ علمه و معرفته بعينه وتفصيله(1).
ويظهر هذا القول من بعض علمائنا الامامية. قال العلاّمة الحلّي: أجمع العلماء على وجوب معرفة الله و صفاته الثبوتية و ما يصحّ عليه و ما يمتنع عنه و النبوّة و الامامة و المعاد بالدليل لا بالتقليد(2).
وفي الوقت نفسه هناك من قال منهم بكفاية الاقرار (الا المعرفة) بما جاء من عند الله جملة(3).
و يظهر هذا القول من الاباضية، قال محمّد بن سعد الكدمي ـ وهو من علماء الاباضية في القرن الرابع ـ: «اعلموا أنّ الجملة الّتي دعا إليها محمّد ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ وكذلك من دعا إلى دين الله بعد موت رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ ، ممّا لايسع الناس جهله، و هو الاقرار بالله، انّه واحد، و انّه ليس كمثله شيء، وانّ محمّداً عبده و رسوله، وانّ جميع ماجاء
________________________________________
1. يراجع الفصل التاسع: الفرقة الثالثة: البيهسية.
2. العلاّمة الحلي: الباب الحادي عشر 2.
3. لاحظ عقائد الفرقة البيهسية المنسوبة لأبي بيهس في هذا الفصل و يحتمل أن يكون المراد من «جملة» هو الاعتقاد الاجمالي بما جاء به الرسول فلا يدل على لزوم المعرفة التفصيلية و لكن يخالفه ذيله الصريح في لزومها.

________________________________________
(439)
به محمّد عن الله فهو الحق، فهذا الّذي لايسع جهله في حال من الاحوال(1).
و أضاف البعض الآخر من الاباضية تبعاً لأهل الحديث ثم الأشاعرة، الإيمان بالقدر خيره وشرّه (فيجب معرفتهما) قال ابن سلام: الإيمان أن تؤمن بالله و ملائكته و كتبه و رسله و البعث و اليوم الآخر و الموت و القدر خيره و شرّه من الله عزّوجلّ(2).
ولأجل وجود التطرّف في القول الأوّل قال شيخنا المرتضى الأنصاري عند البحث عن حجّية الظن في اُصول الدين:
«لقد ذكر العلامة (قدس سره) في الباب الحادي عشر في ما يجب معرفته على كلّ مكلّف من تفاصيل التوحيد و النبوّة و الامامة و المعاد اُموراً لا دليل على وجوبها مطلقاً، مدعياً انّ الجاهل بها عن نظر و استدلال خارج عن ربقة الإسلام مستحقّ للعقاب الدائم و هو في غاية الاشكال»(3).
و لأجل تحقيق الحال نبحث عن الموضوع على وجه الايجاز فنقول: إنّ المسائل الاُصولية الّتي لا يطلب فيها أوّلاً و بالذات إلاّ الاعتقاد، على قسمين:
الأوّل: ما وجب على المكلّف الاعتقاد و التدّين به غير مشروط بحصول العلم، فيكون تحصيل العلم من مقدّمات ذلك الواجب المطلق فيجب تحصيل مقدّمته (المعرفة).
الثاني: ما يجب الاعتقاد و الالتزام إذا اتّفق حصول العلم به، و هذا كبعض تفاصيل المعارف الاسلامية الراجعة إلى المبدأ والمعاد.
أمّا القسم الأوّل: أعني ما يجب الاعتقاد به مطلقاً ولأجل كون وجوبه غير
________________________________________
1. أبو سعيد الكدمي: المعتبر 1 / 145 من منشورات وزارة التراث القومي و الثقافة لسلطنة عمان.
2. ابن سلام (ت 273): بدء الإسلام و شرائع الدين 60.
3. مرتضى الأنصاري: الرسائل 170.

________________________________________
(440)
مشروط بشيء يجب تحصيل مقدّمته. فهذا لا يتجاوز عن الاعتقاد بالشهادتين: بشهادة أن لا إله إلاّ الله و شهادة أنّ محمّداً رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ و هذه الشهادة تتضمّن الاعتقاد الاجمالي بصحّة كلّ ما جاء به النبي في مجال العقيدة.
والدليل على كفاية ذلك مايلي:
إنّ النبي الأكرم ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ كان يقبل إسلام من أقرَّ بالشهادتين لفظاً حاكياً عن الاعتقاد به، و هذا يدلّ على أنّه يكفي في دخول الانسان في عداد المسلمين، الاقرار بهما و لا تجب معرفة تفاصيل المعارف و العقائد.
قال أبو جعفر الباقر ـ عليه السَّلام ـ :
إنّ الله عزّوجل بعث محمّداً ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ و هو بمكة عشر سنين(1) ولم يمت بمكة في تلك العشر سنين أحد يشهد أن لا اله إلاّ الله و أنّ محمّداً رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ إلاّ أدخله الله الجنة باقراره و هو إيمان التصديق(2).
فهذا الاستدلال يعطي أنّ حقيقة الإيمان الّتي يخرج الانسان بها عن حدّ الكفر، الموجب للخلود في النار، لم تتغّير بعد إنتشار الشريعة، و بعد هجرة النبيّ إلى المدينة المنوّرة.
نعم ظهرت في الشريعة اُمور صارت ضرورية الثبوت من النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ فيعتبر في تحقّق الإسلام عدم انكارها (لا لزوم التصديق بها تفصيلاً) و لكن هذا لا يوجب التغيّر في ما يقوم الإيمان به، فإنّ المقصود انّه لا يعتبر في الإيمان أزيد من التوحيد و التصديق
________________________________________
1. يريد الدعوة العلنية فإنّها كانت عشر سنين و كانت في السنين الثلاثة الاُولى سرّية.
2. الكليني: الكافي 2 / 29 برقم 1510.

________________________________________
(441)
بالنبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ و انّه كان رسولاً صادقاً فيها يبلّغ، ولا تلزم معرفة تفاصيل ذلك و إلاّ لزم أحد الأمرين:
1 ـ أن لا يكون من آمن بمكة من أهل الجنّة لعدم إيمانهم.
2 ـ أن تكون حقيقة الإيمان بعد انتشار الشريعة تختلف عن صدر الإسلام و كلا الأمرين كما ترى.
نعم لمّا كان الاعتقاد بالمعاد و الحياة الآخرة بمثل البُنْية التحتية للدعوة الاسلامية بل لجميع الشرائع السماوية على وجه لا تتّصف الدعوة بالالهية بدون الاعتقاد بها. لابدّ من الاعتقاد بها في إطار الشهادتين فإنّه ينطوي في طيّاتهما يوم بعث النبيّ الأكرم بالهداية.
و يؤيّد ما ذكرنا ما رواه البخاري في ذلك المجال وإليك نصّه:
قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ يوم خيبر: لاُعطينّ غداً هذه الراية رجلاً يحبّ الله و رسوله يفتح الله على يديه. قال عمر بن الخطاب: ما أحببت الامارة إلاّ يومئذ، قال: فتساورت لها رجاء أن اُدعى لها، قال: فدعا رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ علي بن أبي طالب فأعطاه إيّاها و قال:
امش و لا تلتفت حتى يفتح الله عليك. فسار علي شيئاً ثم وقف و لم يلتفت و صرخ: يا رسول الله على ماذا اُقاتل الناس؟
قال ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ : قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله و أنّ محمّداً رسول الله فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم و أموالهم إلاّ بحقّها، و حسابهم على الله(1).
فإذا كان الاقرار بالشهادتين كافياً في توصيف المقر مسلماً و مؤمناً، فيدل
________________________________________
1. مسلم: الصحيح 7 / 121، ابن عساكر: ترجمة الإمام علي 1 / 159 ح 222، النسائي: خصائص أمير المؤمنين 57.
________________________________________
(442)
بالملازمة على عدم لزوم معرفة ما سواهما.
و يوضّح ذلك أيضاً ما رواه الامام الرضا ـ عليه السَّلام ـ عن آبائه عن علي ـ عليه السَّلام ـ : قال النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ : اُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله ن فإذا قالوها فقد حرم عليّ دماءهم و أموالهم(1).
و روى أبو هريرة: قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ : اُمرت أن اُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله فإذا قالوا لا الاّ الله عصموامنّي دماءهم و أموالهم إلاّ بحقّها و حسابهم على الله (2). و الاستدلال بالروايتين حسب مامرّ في غيرهما من الدلالة الالتزامية على عدم لزوم معرفة غيرهما.
وأمّا معرفة ما عدا ذلك من المعارف فلم يدلّ دليل على وجوب معرفتها بل الأصل المحكم عدم الوجوب إلاّ مادلّ الدليل الثانوي على وجوبه(3).
هذا كلّه في المعارف الّتي تجب معرفتها بلا قيد، ولأجل ذلك يجب تحصيل معرفتها.
أمّا القسم الثاني: أعني ما يجب الاعتقاد به لو وصل العلم به، فهذا كمعرفة صفات الربّ و أوصافه و المعرفة التفصيلية للمعاد و الحياة الاُخروية، كلّ ذلك يجب الاعتقاد به إذا حصل العلم و المعرفة و لكن لا يكون ذلك دليلاً على اعتباره في الإسلام أو الإيمان بأدنى مراتبه.
________________________________________
1. المجلسي: البحار 68 / 242.
2. المجلسي: البحار 68 / 242 نقله عن مشكاة المصابيح في التعليقة.
3. كمعرفة الامام الّتي دلّت الأدلّة على وجوب معرفته. نعم إنّ ما رواه البخاري: الصحيح: 1 / 14 كتاب الإيمان عن النبي الأكرم من بناء الإسلام على خمس و أضاف بعد الشهادتين: اقامة الصلاة وايتاء الزكاة والحج، و صوم شهر رمضان، فهو خارج عن موضوع البحث و داخل في البحث الآتي: «ما يجب تعلّمه في مجال الشريعة».

________________________________________
(443)
ما يجب تعلّمه في مجال الشريعة:
هذا كلّه في مجال العقيدة و أمّا مجال الشريعة فتجب معرفة ما يبتلى به المكلّف في حياته من الأحكام الفرعية.
فالحق، التفصيل بين ما تعم البلوى بها و غيره، أمّا الأوّل فتجب معرفة أحكامه فلا يجوز للمكلّف الدخول في العمل مع الظن بالابتلاء بما لايعلم حكمه كأحكام الخلل، الشائع وقوعه في الصلاة. و أمّا الثاني أعني ما لا يتّفق الابتلاء به إلاّ نادراً فلا يجب تعلّم حكمه قبل الابتلاء للوثوق بعدم الابتلاء به غالباً و على ذلك جرت السيرة بين المسلمين مضافاً إلى أنّ إيجاب معرفة جميع الأحكام تفصيلاً ممّا يوجب العسر و الحرج و يوجد الفوضى في الحياة.
و هذا هو الظاهر أيضاً من بعض علماء الاباضية: قال: إذا لزمه شيء من ذلك ممّا يفوت مثل الصلاة، و الصوم، أو ممّا يفوت وقته من جميع الفرائض اللازمة له، ممّا يفوت وقته ويبطل و حضر وقته و وجب العمل به، فمعنى انّه قيل إنّ عليه طلب العلم، من جميع ما جهل من ذلك(1).
فما ورد في الشريعة الاسلامية من الحق الأكيد على تحصيل العلم كآية أهل الذكر (النحل: 46). و الأخبار الدالّة على وجوب طلب العلم و التفقّه كلّها منصرفه إلى الموارد المبتلى بها، فمن أراد التفصيل فليرجع إلى محلّه(2).
* * *
________________________________________
1. أبو سعيد الكدمي: المعتبر1 / 70 .
2. لاحظ الرسائل للشيخ مرتضى الأنصاري 400 آخر مبحث الاشتغال.
 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية