نكاح الكافرة غير المشركة

البريد الإلكتروني طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج5 ، ص 459 ـ  466
________________________________________
(459)
3 ـ نكاح الكافرة غير المشركة:
اختلف كلمة فقهاء الإسلام في نكاح الكافرة غير المشركة و يراد منها الكتابية لأنّها كافرة غير مشركة، قال ابن رشد: اتّفقوا على أنّه يجوز أن ينكح الكتابية الحرّة(4).
هذا مالدى السنّة و أمّا ما لدى الشيعة فالمشهور عدم الجواز دواماً. قال الشيخ الطوسي: عند المحصّلين من أصحابنا لايحلّ أكل ذبائح أهل الكتاب
________________________________________
4.ابن رشد: بداية المجتهد 2 / 43.
________________________________________
(460)
كاليهود و النصارى، و لا تزوّج حرائرهم، بل يقرّون على أديانهم إذا بذلوا الجزية، وفيه خلاف بين أصحابنا، و قال جميع الفقهاء (أهل السنّة): يجوز أكل ذبائحهم و نكاح حرائرهم(1).
و قال في الخلاف: المحصّلون من أصحابنا يقولون لا يحلّ نكاح من خالف الإسلام، لا اليهود، و لا النصارى، و قال قوم من أصحاب الحديث من أصحابنا: يجوز ذلك، و أجاز جميع الفقهاء التزويج بالكتابيات و هو المروي عن عمر و عثمان و طلحة و حذيفة، و جابر، و روي أنّ عمّاراً نكح نصرانية، و نكح حذيفة يهودية، و روي عن ابن عمر كراهة ذلك و إليه ذهب الشافعي(2).
قال ابن قدامة: ليس بين أهل العلم ـ بحمد الله ـ اختلاف في حلّ حرائر نساء أهل الكتاب، و ممّن روى عنه ذلك، عمر و عثمان و طلحة و حذيفة و سلمان و جابر و غيرهم(3).
و على ضوء ذلك انّ فقهاء أهل السنّة ذهبوا إلى الجواز، وأمّا الشيعة فهم بين مانع و مجوّز، و نحن نعرض المسألة على الكتاب.
استدلّ المانع بآيات:
1 ـ قال تعالى : (وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَـتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلاََمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُّشْرِكَة وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنْكِحُواْ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِك وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلى الْنَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ ءَايَـتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)(4).
________________________________________
1. الطوسي: المبسوط 4 / 210.
2. الطوسي: الخلاف 2 / 282، المسألة 84 من كتاب النكاح، و قد نسب إلى فقهاء الشيعة أقوال اُخرى ذكرناها في محاضراتنا الفقهية في النكاح، لاحظ: الحلّي، مختلف الشيعة: 82.
3. ابن قدامة: المغني 5 / 52.
4. البقرة: 221.

________________________________________
(461)
2 ـ قال تعالى : (وَمَنْ لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أنْ يَنْكِحَ الُْمحْصَنَـتِ الْمُؤْمِنَـتِ فَمِن مَّا مَـلَكَتْ أَيمَـنُكُمِ مِّنْ فَتَيَـتِـكُمُ الْـمُؤْمِنَـتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَـنِكُمْ بَعْضُكُمْ مِّنْ بَعْض فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)(1).
استدّل بالآية على المنع بوجهين:
أ ـ إنّ الآية تأمر من لم يجد ما يتزوّج به الحرائر المؤمنات من المهر و النفقة، أن ينكح الإماء المؤمنات فإنّ مهور الإماء أقلّ و معونتهنّ أخف عادة، فلو جاز نكاح الكافرة في هذه الحالة لزم جواز نكاح الأمة المؤمنة مع الحرّة الكافرة، و لم يقل به أحد، لأنّه من قبيل الجمع بين الحرّة و الأمة.
ب ـ إنّ التوصيف بالمؤمنات في قوله: (مِّنْ فَتَيَـتِـكُمُ الْـمُؤْمِنَـتِ) يقتضي أن لا يجوز نكاح الفتيات الكافرات مع انتفاء الطول، و ليس إلاّ لامتناع نكاحهنّ مطلقاً، للاجماع على انتفاء الخصوصية بهذا الوجه(2).
يلاحظ على الوجه الأوّل: أنّ أقصى ما يستفاد من الآية على القول بمفهوم الوصف أنّه لا يجوز عند عدم الطول، نكاح الأمة الكافرة مع وجود الأمة المسلمة، و أمّا عدم جواز تزويج الحرّة الكافرة مع الطول أو عدمه، فلا تدلّ عليه الآية، لأنّ المفهوم ينفي الحكم عن الموضوع الفاقد للوصف لا عن موضوع آخر، والموضوع للجواز هو ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات، فمقتضى المفهوم عدم جواز نكاح الأمة الكافرة في هذه الحال، و أمّا الحرّة الكافرة، فهو خارج عن موضوع البحث نفياً و اثباتاً.
و يلاحظ على الوجه الثاني: أنّ التوصيف بالمؤمنات يقتضي أن لايجوز نكاح الكافرة من الاماء مع انتفاء الطول و لكن لم يعلم انّ وجه حرمتها هو امتناع
________________________________________
1. النساء: 25.
2. الشيخ محمّد حسن النجفي: جواهر الكلام 3 / 28.

________________________________________
(462)
نكاحها مطلقاً، سواء كانت أمة أم حرّة، و من أين يدعى الاجماع على انتفاء خصوصية في الأمة؟ إذ من الممكن أن لا يجوز نكاح الأمة الكافرة مع وجود الأمة المسلمة دون الكافرة الحرّة فيجوز نكاحها حتى مع التمكّن من الأمة المسلمة.
3 ـ قال تعالى: (لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءَابَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَ نَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَـئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الاِْيمَـنَ وَأَيَّدَهُم بِرُوح مِّنْهُ)(1).
يلاحظ عليه: أنّ الآية واردة في حقّ الضعفاء من المسلمين، و لا صلة لها بالكفرة، فهؤلاء كانوا يوالون اليهود و يفشون إليهم أسرار المؤمنين، و يجتمعون معهم على ذكر مساءة النبي وأصحابه، ففي هذه الظروف نزل قوله سبحانه: (لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللهَ وَرَسُولَهُ)أي لا تجتمع موالاة الكفّار مع الإيمان، اي موالاتهم بما هم كفّار، وأمّا حبّهم لأجل اُمور اُخرى فلاصلة له بالآية، و لا يتزوّج المسلم من الكافرة لأجل موالاة الكافرة، بل لأجل دفع الشهوة أو تعبئة وسائل الحياة.
و أضعف منه الا ستدلال بقوله سبحانه:
4 ـ قال تعالى : (لاَ يَسْتَوِي أَصْحَـبُ النَّارِ وَأَصْحَـبُ الْجَنَّةِ أَصْحَـبُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَآئِزُونَ)(2)إذ لاصلة بين الآية و موضوع البحث فإنّها تنفي كون المؤمن و الكافر عند الله سيّان، وأمّا عدم جواز المعاملة و المناكحة فلا تدلّ عليه .
5 ـ استدلَّ أيضاً: انّ أهل الكتاب مشركون لقوله سبحانه: (وَقَالَتِ )
________________________________________
1. المجادلة: 22.
2. الحشر: 20.

________________________________________
(463)
الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَـرَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ))(1) حيث جعلوا الإبن المزعوم شريكاً للأب في الالوهية، و قال سبحانه: (لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَـثَة)(2).
و قال: (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَـنَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَ حِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَـنَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)(3) فهذه الآيات تثبت الصغرى، أي كونهم مشركين، وأمّا ما يدلّ على الكبرى أي عدم جواز نكاح المشركات، فقد مرّ في كلام المانع.
يلاحظ عليه أنّ هنا أمرين:
أ ـ كون النصارى و اليهود مشركين في عقيدتهم، و هذا لاكلام فيه.
ب ـ كون المشرك الوارد في قوله (وَلا تَنْكحُوا المُشْرِكات) عامّاً يعمّ الوثنّيين و غيرهم، و لكنّ هذا غير ثابت فإنّ عنوان المشرك في القرآن يختصّ بغير أهل الكتاب بشهادة المقابلة في كثير من الآيات بينهم وبين أهل الكتاب، وإليك بعضها:
(مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَـبِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَنْزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْر مِّنْ رَبِّكُمْ)(4)، وقد عرفت تحقيق ذلك عند البحث عن حدّ الشرك و الإيمان، فلانعيد(5).
فهذه الآية و غيرها تثبت أنّ الشرك المتّخذ موضوعاً لكثير من الأحكام
________________________________________
1. التوبة: 30.
2. المائدة: 73.
3. التوبة: 31.
4. البقرة: 105.
5. لاحظ الآيات: آل عمران 186. المائدة 82 و غيرهما أيضاً.

________________________________________
(464)
لايشمل أهل الكتاب في مصطلح القرآن و إن كانوا مشركين حسب الواقع، فالكلام في سعة موضوع الحكم (تحريم نكاح المشركات) وضيقه حسب اصطلاح القرآن.
6 ـ قال تعالى : (يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ الْمـُؤْمِنَـتُ مُهَـجِرَ ت فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَـنِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَـت فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَءَاتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَسْئَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ ذَ لِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(1).
وجه الاستدلال انّ الكوافر جمع كافرة، و العصمة المنع، وسمّي النكاح عصمة لأنّ المنكوحة تكون في حبال الزوج و عصمته، و يكون اطلاقها دليلاً على حرمة عقد الكافرة مشركة أو ذمية.
يلاحظ عليه: أنّ الآية ظاهرة في الوثنية بشهادة سياق الآيات، و سبب نزولها فإنّها نزلت بعد التصالح في الحديبية حيث تصالح رسول الله أن يردّ كل من أتى من قريش إلى جانب المسلمين من دون عكس، و بعد ما ختم الكتاب جاءت سبيعة بنت الحرث الأسلمية و قد أسلمت، فأقبل زوجها في طلبها و كان كافراً، فنزلت الآية، فكان رسول الله يردّ من جاءه من قريش من الرجال، ولا يردّ من جاءته من النساء قائلاً بأنّ التصالح لايشمل إلاّ الرجال.
على أنّ ظاهر الآية هو المنع من الاقامة مع الزوجة الكافرة و هذا لايتمّ في الذمّية لصحّة نكاحهنّ استدامة إذا أسلم أحد الزوجين، اجماعاً و إن لم نقل بالصحّة ابتداء، و هذا قرينة على انصراف الآية عن الذمّية إلى الوثنية، و بذلك يظهر ضعف ما أفاده الطبرسي حيث ادّعى دلالة الآية على عدم جواز العقد
________________________________________
1. الممتحنة: 10.
________________________________________
(465)
على الكافرة مطلقاً، بحجّة أنّ الآية عامّ و ليس لأحد أن يخصّ الآية بعابدة الوثن لنزولها بسببهن، لأنّ المعتبر عموم اللفظ، لاالسبب(1).
إلى هنا تمّ ما يمكن الاستدلال به من الآيات على تحريم نكاح الكافرات، وإليك ما استدلّ به القائل بالجواز من الذكر الحكيم أعني قوله سبحانه: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَـتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَـبَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالُْمحْصَنَـتُ مِنَ الْمُؤْمِنَـتِ وَالُْمحْصَنَـتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكَتِـبَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَـفِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَان)(2).
الآية صريحة في جواز نكاح المحصنات من أهل الكتاب، والمتيقّن منها هو الذمّية أو من هو في حكمها كالمهادنة، لا الحربية.
و حمل الآية على النكاح الموقّت بقرينة ورود لفظ «الاُجور» في الآية مكان «المهور» ليس بتام لأنّها وردت في غير موضع من القرآن، و اُريد منه المهر في النكاح الدائم. قال سبحانه في تزويج الاماء عند عدم الطول: (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)(3) و قال تعالى و هو يخاطب النبي: (إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَ جَكَ الَّـتِي ءَاتَيْتَ أُجُورَهُنَّ)(4) ومن المعلوم أنّ المراد هو التزويج الدائم إذ لم يكن بين أزواج النبي من تزوّج بها متعة. نعم المراد من قوله سبحانه: (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَــاَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً)(5) هو النكاح الموقّت، بقرينة قوله: (فَمَا )اسْتَمْتَعْتُمْ) مضافاً إلى الروايات المتضافرة في المقام.
و ربّما يحتمل كون الآية منسوخة لما ورد من النهي في آيتي البقرة
________________________________________
1. الطبرسي: مجمع البيان 5 / 274.
2. المائدة: 5.
3. النساء: 25.
4. الأحزاب: 50.
5. النساء: 24.

________________________________________
(466)
و الممتحنة، و لكن قد عرفت عدم دلالة الآيتين على مورد البحث فضلاً عن كونهما ناسختين.
على أنّ سورة المائدة آخر ما نزل على رسول الله، فهي تنسخ ما قبلها، و لا تُنسخ، روى العياشي عن علي قال: كان القرآن ينسخ بعضه بعضاً و إنّما يؤخذ من أمر رسول الله بآخره، و كان من آخر ما نزل عليه سورة المائدة نسخت ما قبلها و لم ينسخها شيء(1).
إلى هنا تمّ ما يرجع إلى المسألة من القرآن الكريم، و أمّا البحث عنها من جانب السنّة فهو موكول إلى محلّه، و قد أوضحنا الكلام فيها في مسفوراتنا الفقهية.
هذا آخر الكلام في عقائد الخوارج و اُصولهم. بقى الكلام في التعرّف على شخصيّاتهم في العصور الأولى و هذا ما يوافيك في البحث الآتي الّذي عقدناه بعنوان «خاتمة المطاف».
* * *
________________________________________
1. الحويزي: نور الثقلين 1 / 483.
 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية