في أنّ الله لا يريد المعاصي

البريد الإلكتروني طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 3 ، ص 368 ـ 370
________________________________________
(368)
المسألة الخامسة:
في أنّ الله لا يريد المعاصي
ذهبت المعتزلة إلى أنّه لا يجوز أن يكون سبحانه مريداً للمعاصي. وأوضح القاضي وجه صلة هذا البحث بباب العدل بأنّ الارادة فعل من الأفعال، ومتى تعلّقت بالقبيح كانت واجبة لا محالة، وكونه تعالى عدلاً يقتضي أن تنفى عنه هذه الارادة(2).
المعتزلة ينظرون إلى المسألة من زاوية التّنزيه فيتصوّرون أنّ تنزيه الرّبِّ يتحقق بعدم تعلّق إرادته بالقبائح، لأنّ من أراد القبيح يتّصف فعله بالقبح و يسري إلى الفاعل، بينما يريد الأشعري تعظيم الرّبّ، وأنّه لا يكون في ملكه ما لا يريد ويذهب إلى سعة إرادته.
وقد نقل التفتازاني في «شرح المقاصد» أنّه دخل القاضي عبد الجبّار (ت415هـ) دار الصاحب بن عبّاد (ت385هـ) فرأى الاُستاذ أبا إسحاق الإسفرائيني (ت413هـ)، فقال القاضي: «سبحان من تنزّه عن الفحشاء» (مزدرياً بالاسفرائيني بأنّه لأجل القول بسعة إرادته يصفه سبحانه بالفحشاء) فأجابه الاسفرائيني بقوله: «سبحان من لا يجري في ملكه إلاّ ما يشاء» إيماءً بأنّ القاضي لأجل قوله بضيق إرادته سبحانه، يعتقد بأنّ هناك أشياء تقع في سلطانه ومملكته خارجة عن مشيئته»(3).
لكنّ القولين بين الافراط والتّفريط. وما يتبنّيانه من الغاية (التّنزيه و التّعظيم) يحصل برفض القولين، والاعتناق بالقول الثّالث الّذي هو مذهب بين المذهبين، وأمر
________________________________________
 2. شرح الاُصول الخمسة: ص 431. 3. انظر شرح المقاصد: ج 2، ص 145.
________________________________________
(369)
بين الأمرين.
وهذا المذهب هو المرويّ عن أئمّة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ ويوافقه العقل و تؤيّده نصوص الكتاب، وهو جامع بين المزيّتين و منزّهٌ عن شناعة القولين.
فالمعتزلة، وإن أصابوا في تنزيه الرّبّ عن القبائح، لكنّهم أخطأوا في تحديد سلطنته بإخراج أفعال عباده عن إحاطة إرادته و سلطنته وملكه، فصوّروا الإنسان فاعلاً يفعل بارادته، ويعمل بمشيئته مستقلاً بلا استمداد من ارادته ومشيئته سبحانه.
والأشاعرة، وإن أصابوا في إدخال أفعال العباد في ملكه و سلطنته، لكنّهم أخطأوا في جعل أفعال العباد مرادة للّه بالارادة المباشريّة. فصار هناك مريد واحد وهو الله سبحانه و غيره من الفواعل مظاهر إرادته. وهذا يستلزم كونه سبحانه هو المسؤول عن القبائح لكونه الفاعل لها.
وأمّا القول الثالث فهو عبارة عن سعة إرادته لكلِّ ظاهرة امكانيّة، لكن لا بمعنى كونه سبحانه هو المصدر المباشر لكلِّ شيء، بل بمعنى أنّه تعلّقت إرادته على صدور كلِّ فعل عن فاعله بما فيه من الخصوصيّات، فلو صدر عنه بلا هذه الخصوصيّات لزم تخلّف مراده عن إرادته، فتعلّقت ارادته سبحانه على كون النّار مصدراً للحرارة بلا علم و شعور، بل عن جبر واضطرار. كما تعلّقت إرادته على صدور فعل الإنسان عنه باختيار ذاتيّ و حرّيّة فطريّة.
وباختصار، شاء أن يكون الإنسان مختاراً في فعله و عمله. فإذا اختار و فعل فقد فعل بارادته، كما فعل بارادة الله سبحانه. وليست الارادة الأزليّة منافية لحرّيّته و اختياره، وقد أوضحنا ذلك في أبحاثنا الكلاميّة(1). فلاحظ.
وهناك كلام للشّهيد الأجلّ محمّد بن مكّي (المتوفى عام 786هـ) عند بحثه عن تضافر الأخبار على أنّ صلة الأرحام تزيد في العمر، يقرب ممّا ذكرناه، قال (قدّس سرّه):
________________________________________
1. لاحظ: الالهيات على ضوء الكتاب والسنة والعقل، ص 632، والجزء الثاني من هذه الموسوعة، ص 302.
________________________________________
(370)
«أُشكل هذا بأنّ المقدّرات في الأزل، والمكتوبات في اللّوح المحفوظ لا تتغيّر بالزيادة والنقصان لاستحالة خلاف معلوم الله تعالى، وقد سبق العلم بوجود كلِّ ممكن أراد وجوده و بعدم كلِّ ممكن أراد بقاءه على حالة العدم أو إعدامه بعد ايجاده، فكيف يمكن الحكم بزيادة العمر و نقصانه بسبب من الأسباب؟».
ثمّ أجاب وقال: «إنّ الله تعالى كما علم كميّة العمر، علم ارتباطه بسببه المخصوص، وكما علم من زيد دخول الجنّة، جعله مرتبطاً بأسبابه المخصوصة، من إيجاده، وخلق العقل له، وبعث الأنبياء و نصب الألطاف، وحسن الاختيار، والعمل بموجب الشّرع، فالواجب على كلِّ مكلّف الاتيان بما أُمر به، ولا يتّكل على العلم، فإنّه مهما صدر منه فهو المعلوم بعينه.
وبالجملة: جميع ما يحدث في العالم، معلوم للّه تعالى على ما هو عليه واقع، من شرط أو سبب وليس نصب صلة الرحم زيادة في العمر إلاّ كنصب الإيمان سبباً في دخول الجنّة
»(1).
ولو أمعنت فى أطراف كلامه تجد أنّه (قدّس الله سرّه) يشير إلى نفس الجواب الّذي بيّناه خصوصاً قوله «جعله مرتبطاً بأسبابه المخصوصة من إيجاده .. وحسن الاختيار» وقوله: «جميع ما يحدث في العالم معلوم للّه تعالى على ما هو عليه ...».
________________________________________
1. القواعد والفوائد: ج 2، ص 56، القاعدة .
 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية