في وجوب اللّطف

البريد الإلكتروني طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 3 ، ص 370 ـ 377
________________________________________
(370)
المسألة السادسة:
في وجوب اللّطف
اشتهرت العدليّة بوجوب اللّطف(2) على الله سبحانه، وخالفتهم الأشعريّة وبشر
________________________________________
 2. المراد من الوجوب كونه مقتضى الحكمة، أو الجود والكرم، لا الوجوب بالمعنى المتبادر في أوساط الناس من حاكمية العباد على الله، وكون تركه مستلزماً للذم واللوم أو العقاب، وعلى ذلك فالحكم مستكشف العقل باعتبار ملاحظة أوصافه الجميلة. وعلى أيّ تقدير فمن قال به فإنما قال به من باب الحكمة، تحصيلاً لهدف الخلقة، أو هدف التكليف، أو من باب الجود والكرم، وأما إيجابه من باب العدل فلم يعلم له معنى محصل.
________________________________________
(371)
ابن المعتمر من معتزلة بغداد، وإيضاح الحقّ يستدعي البحث عن أُمور:
الأوّل : تعريف اللّطف و بيان حقيقته و أقسامه.
إنّ اللّطف، في اصطلاح المتكلّمين، يوصف بوصفين:
1- اللّطف المُحَصِّل.
2- اللّطف المُقَرِّب.
وهناك مسائل تترتّب على اللّطف بالمعنى الأوّل، ومسائل أُخرى تترتّب على اللّطف بالمعنى الثاني، وربّما يؤدّي عدم التّمييز بين المعنيين إلى خلط ما يترتّب على الأوّل بما يترتّب على الثاني .. ولأجل الاحتراز عن ذلك نبحث عن كلّ منهما بنحو مستقل.
1-اللُّطف المحصِّل
اللُّطف المحصِّل: عبارة عن القيام بالمبادئ والمقدّمات الّتي يتوقّف عليها تحقّق غرض الخلقة، وصونها عن العبث واللّغو، بحيث لولا القيام بهذه المبادئ والمقدّمات من جانبه سبحانه، لصار فعله فارغاً عن الغاية، وناقَضَ حكمته الّتي تستلزم التحرّز عن العبث، وذلك كبيان تكاليف الإنسان و إعطائه القدرة على امتثالها.
ومن هذا الباب بعث الرّسل لتبيين طريق السّعادة، وتيسير سلوكها. وقد عرفت في الأدلّة السابقة، أنّ الإنسان أقصر من أن ينال المعارف الحقّة، أو يهتدي إلى طريق السّعادة في الحياة بالاعتماد على عقله، والاستغناء عن التّعليم السماوي.
و وجوب اللّطف بهذا المعنى، ليس موضع مناقشة لدى القائلين بحكمته سبحانه، وتنزيهه عن الفعل العبثي الّذي اتّفق عليه العقل والنقل(1). وإنّما الكلام في «اللّطف المقرِّب»، وإليك البيان فيه:
________________________________________
1. لاحظ سورة الذاريات: الآية 56 وسورة المؤمنون: الآية 115.
________________________________________
(372)
2ـ اللُّطف المقرِّب
اللّطف المقرِّب: عبارة عن القيام بما يكون محصِّلا لغرض التّكليف بحيث لولاه لما حصل الغرض منه و ذلك كالوعد والوعيد، والتّرغيب و التّرهيب، الّتي تستتبع رغبة العبد إلى العمل، وبعده عن المعصية(1).
وهذا النّوع من اللّطف ليس دخيلاً في تمكين العبد من الطّاعة، بل هو قادر على الطّاعة وترك المخالفة سواء أكان هناك وعد أم لا، فإنّ القدرة على الإمتثال رهن التعرّف على التّكليف عن طريق الأنبياء، مضافاً إلى إعطاء الطّاقات الماديّة، والمفروض حصول هذه المبادئ والمقدّمات، غير أنّ كثيراً من النّاس لا يقومون بواجبهم بمجرّد الوقوف على التّكليف ما لم يكن هناك وعد و وعيد و ترغيب و ترهيب، فهذا النوع من اللّطف قد وقع موقع النِّقاش بين المتكلِّمين.
والحقّ هو القول بوجوب اللّطف إذا كان غرض التّكليف (لا غرض الخلقة) موقوفاً عليه عند الأكثريّة الساحقة من المكلّفين.
مثلاً لو فرضنا أنّ غالب المكلّفين، لا يقومون بتكاليفهم بمجرّد سماعها من الرّسل ـ وان كانوا قادرين عليها ـ إلاّ إذا كانت مقرونة بالوعد والوعيد، والتّرغيب والتّرهيب، وجب على المكلِّف القيام بذلك، صوناً للتّكليف عن اللّغوية، ولو أهملها المكلِّف ترتّب عليه بطلان غرضه من التّكليف، وبالتالي بطلان غرضه من الخلقة.
وفي الكتاب والسنّة إشارات إلى هذا النوّع من اللّطف. يقول سبحانه:
________________________________________
1. عرّف اللطف المقرب بأنه هيئة مقربة الى الطاعة ومبعدة عن المعصية، من دون أن يكون له حظّ في التمكين وحصول القدرة، ولا يبلغ حدّ الالجاء.
فخرج بالقيد الأوّل (لم يكن له حظ...) اللطف المحصّل، فإنّ له دخالة في تمكين المكلّف من الفعل بحيث لولاه لانتفت القدرة. وخرج بالقيد الثاني (لا يبلغ حدّ الإلجاء) الإكراه والإلزام على الطاعة والاجتناب عن المعصية، فإنّ ذلك ينافي التكليف الذي يتطلب الحرية والاختيار في المكلف (لاحظ: كشف المراد، ص 201، ط صيدا). وقال القاضي عبد الجبار: «اللطف هو كل ما يختار عنده المرء الواجب ويتجنب القبيح، أو ما يكون عنده أقرب إمّا إلى اختيار الواجب أو ترك القبيح» (شرح الاصول الخمسة: ص 519).

________________________________________
(373)
(وَبَلَوناهُم بالحَسَناتِ والسّيئاتِ لعلَّهُم يَرجِعون) (سوره الأعراف/168)
والمراد من الحسنات والسّيئات، نعماء الدّنيا و ضرّاؤها، و كأنّ الهدف من ابتلائهم بهما هو رجوعهم إلى الحقّ والطّاعة.
و يقول سبحانه: (وما أرسَلْنَا في قَرْيَة مِن نَبِىّ إلاّ أخَذْنا أهلَها بالبَأْساءِ و الضََّرّاءِ لَعَلَّهُم يَضّرّعُون) (سوره الأعراف/94) وفي الآية إشارة إلى كلا القسمين من اللّطف، ومفاد الآية أنّ الله تعالى أرسل رسله لإِبلاغ تكاليفه إلى العباد و إرشادهم إلى طريق الكمال (اللّطف المحصِّل)، غير أنّ الرّفاه و الرّخاء و التوغّل في النّعم المادّية، ربّما يسبِّب الطّغيان وغفلة الإِنسان عن هدف الخلقة وإجابة دعوة الأنبياء، فاقتضت حكمته تعالى أخذهم بالبأساء والضرّاء، لعلّهم يَضّرّعون ويبتهلون إلى الله تعالى.
ولأجل ذلك نشهد أنّ الأنبياء لم يكتفوا باقامة الحجّة والبرهان، والإتيان بالمعاجز، بل كانوا ـ مضافاً إلى ذلك ـ مبشِّرين و منذرين، وكان التّرغيب والتّرهيب من شؤون رسالتهم، قال تعالى: (رُسُلاً مُبَشِّرين و مُنذِرينَ) (سورة النساء/165) و الإنذار والتّبشير دخيلان في رغبة النّاس بالطّاعة و ابتعادهم عن المعصية.
وفي كلام الإِمام عليّ ـ عليه السلام ـ إشارة إلى هذا:
قال ـ عليه السلام ـ: «أيّها الناس، إنّ الله تبارك و تعالى لمّا خلق خلقَه أراد أن يكونوا على آداب رفيعة و أخلاق شريفة، فعلم أنّهم لم يكونوا كذلك إلاّ بأن يعرّفهم ما لهم و ما عليهم، والتّعريف لا يكون إلاّ بالأمر والنّهي(1)، والأمر والنّهي لا يجتمعان إلاّ بالوعد والوعيد، والوعد لا يكون إلاّ بالتّرغيب، والوعيد لا يكون إلاّ بالتّرهيب، والتّرغيب لايكون إلاّ بما تشتهيه أنفسهم و تلذّه أعينهم، والتّرهيب لا يكون إلاّ بضدّ ذلك ... الخ»(2).
وقوله ـ عليه السلام ـ: «والأمر والنّهي لا يجتمعان إلاّ بالوعد والوعيد» إشارة إلى أنّ
________________________________________
1. هذا إشارة إلى اللطف المحصل. 2. بحار الأنوار، ج 5، كتاب العدل والمعاد، الباب الخامس عشر، الحديث 13، ص 316.
________________________________________
(374)
امتثال الأمر و النّهي و نفوذهما في نفوس النّاس، يتوقّف على الثّواب والعقاب، فلولاهما لما كان هناك حركة إيجابيّة نحو التّكليف إلاّ من العارفين الّذين يعبدون الله تعالى، لا رغبة ولا رهبة، بل لكونه مستحقّاً للعبادة.
فتحصّل من ذلك أنّ ما هو دخيل في تحقّق الرّغبة بالطّاعة، والابتعاد عن المعصية في نفوس الأكثريّة الساحقة من البشر، يجب على الله سبحانه القيام به صوناً للتّكليف عن اللّغو، وبالتالي صوناً للخلقة عن العبث.
نعم، إذا كانت هذه المبادئ كافية في تحريك الأكثريّة نحو الطّاعة، ولكنّ القليل منهم لا يمتثلون إلاّ في ظروف خاصّة كاليسار في الرزق، أو كثرة الرفاه، فهل هو واجب على الله سبحانه؟ الظّاهر لا، إلاّ من باب الجود والتّفضّل.
وبذلك يعلم أنّ اللّطف المقرِّب إذا كان مؤثّراً في رغبة الأكثريّة بالطّاعة و ترك المعصية يجب من باب الحكمة، وأمّا إذا كان مؤثّراً في آحادهم المعدودين، فالقيام به من باب الفضل والكرم. وبذلك تقف على مدى صحّة ما استدلّ به بعضهم على اللّطف في المقام، أو سقمه.
استدلّ القاضي عبد الجبّار على وجوب اللّطف بقوله: «إنّه تعالى كلّف المكلّف، وكان غرضه بذلك تعريضه إلى درجة الثّواب، وعلم أنّ في مقدوره ما لو فعل به لاختار عنده الواجب، واجتنب القبيح، فلا بدّ من أن يفعل به ذلك الفعل و إلاّ عاد بالنّقض على غرضه، وصار الحال فيه كالحال في أحدنا إذ أراد من بعض أصدقائه أن يجيبه إلى طعام قد اتّخذه، وعلم من حاله أنّه لا يجيبه، إلاّ إذا بعث إليه بعض أعزّته من ولد أو غيره، فإنّه يجب عليه أن يبعث، حتّى إذا لم يفعل عاد بالنّقض على غرضه و كذلك هيهنا»(1).
قال الشّهرستاني: «اللّطف عبارة عن كلِّ ما يوصل الإنسان إلى الطّاعة و يبعِّده عن المعصية، ولمّا كان الله عادلاً في حكمه، رؤوفاً بخلقه، ناظراً لعباده، لا يرضى لعباده
________________________________________
1. شرح الاصول الخمسة: ص 521.
________________________________________
(375)
الكفر، ولا يريد ظلماً للعالمين، فهو لم يدّخر عنهم شيئاً ممّا يعلم أنّه إذا فعل بهم، أتوا بالطّاعة والصّلاح»(1).
وقال العلاّمة الحلي: «إنّ المكلِّف ـ بالكسر ـ إذا علم أن المكلّف ـ بالفتح ـ لايطيع إلاّ باللّطف، فلو كلّفه من دونه، كان ناقضاً لغرضه، كمن دعا غيره إلى طعام، وهو يعلم أنّه لا يجيبه إلاّ أن يستعمل معه نوعاً من التّأدّب، فإن لم يفعل الداعي ذلك النّوع من التأدّب كان ناقضاً لغرضه، فوجوب اللّطف يستلزم تحصيل الغرض»(2).
وقال الفاضل المقداد: «إنّا بيّنّا أنّه تعالى مريد للطّاعة و كاره للمعصية، فإذا علم أنّ المكلّف لا يختار الطّاعة، أو لا يترك المعصية، أو لا يكون أقرب إلى ذلك إلاّ عند فعل يفعله به، وذلك الفعل ليس فيه مشقّة ولا غضاضة، فإنّه يجب في حكمته أن يفعله، إذ لو لم يفعله لكشف ذلك، إمّا عن عدم إرادته لذلك الفعل، وهو باطل لما تقدّم، أو عن نقض غرضه إذا كان مريداً له، لكن ثبت كونه مريداً له فيكون ناقضاً لغرضه.
ويجري ذلك في الشّاهد مجرى من أراد حضور شخص إلى وليمة، وعرف أو غلب على ظنِّه أنّ ذلك الشّخص لا يحضر إلاّ مع فعل يفعله، من إرسال رسول، أو نوع، أدب، أو بشاشة، أو غير ذلك من الأفعال، ولا غضاضة عليه في فعل ذلك، فمتى لم يفعل عُدّ ناقضاً لغرضه، ونقض الغرض باطل، لأنّه نقص، والنّقص عليه تعالى محال، ولأنّ العقلاء يعدّونه سَفَهاً وهو ينافي الحكمة
»(3).
وهذه البيانات تدلّ على أنّ اللّطف واجب من باب الحكمة.
هذا كلام القائلين بوجوب اللّطف، وهو على إطلاقه غير تامّ، بل الحقّ هو التّفصيل بين ما يكون مؤثِّراً في تحقّق التّكليف بشكل عامّ بين المكلّفين، فيجب من
________________________________________
1. الملل والنحل: ج 1، ص 107. 2. كشف المراد: الفصل الثاني، المسألة الثانية عشرة، ص 325، ط قم 1407. 3. ارشاد الطالبين: ص 277 ـ 278.
________________________________________
(376)
باب الحكمة، وإلاّ فيرجع إلى جوده و تفضّله من دون إيجاب عليه.
واستدلّ القائل بعدم وجوبه بقوله: «لو وجب اللّطف على الله تعالى لكان لا يوجد في العالم عاص، لأنّه ما من مكلّف إلاّ وفي مقدور الله تعالى من الألطاف ما لو فعله به لاختار عنده الواجب و اجتنب القبيح، فلمّا وجدنا في المكلّفين من أطاع وفيهم من عصى، تبيّن أنّ الألطاف غير واجبة على الله تعالى»(1).
يلاحظ عليه: أنّ هذا المستدلّ لم يقف على حقيقة اللّطف، ولذلك استدلّ بوجود العصاة على عدم وجوبه، فهو تصوّر أنّ اللّطف عبارة عمّا لا يتخلّف معه المكلّف عن الإتيان بالطّاعة وترك المعصية، فنتيجته كون وجود العصيان دليلاً على عدم وجوبه، وعدم وجوده دليلاً على وجوبه، مع أنّك قد عرفت في أدلّة القائلين به بأنّه ما يكون مقرِّباً إلى الطّاعة و مبعِّداً عن المعصية من دون أن يبلغ حدّ الإلجاء.
يقول القاضي عبد الجبّار: «إنّ العباد على قسمين، فإنّ فيهم من يعلم الله تعالى من حاله أنّه إن فعل به بعض الأفعال كان عند ذلك يختار الواجب و يتجنّب القبيح، أو يكون أقرب إلى ذلك، وفيهم من هو خلافه حتّى إن فعل به كلّ ما فعل لم يختر عنده واجباً ولا اجتنب قبيحاً»(2).
ويؤيِّده ما ورد في الذِّكر الحكيم من أنّ هناك أُناساً لا يؤمنون أبداً ولو جاءهم نبيّهم بكلِّ أنواع الآيات والمعاجز.
قال سبحانه: (وما تُغني الآياتُ و النُذُرُ عَن قول لا يُؤْمنون)(3).
وقال سبحانه: (ولَئِن أَتَيْتَ الّذين أُوتُوا الكِتابَ بكلِّ آية ما تَبِعوا قِبلَتَك)(4).
وفي الختام نقول: إنّ اللُّطف سواء أكان المراد منه اللّطف المحصِّل أم اللّطف المقرِّب، من شؤون الحكمة، فمن وصفه سبحانه بالحكمة والتنزّه عن اللّغو والعبث، لامناص له عن الاعتقاد بهذه القاعدة، غير أنّ القول بوجوب اللّطف في المحصِّل
________________________________________
1. شرح الاُصول الخمسة: ص 523. 2. شرح الاُصول الخمسة: ص 520. 3. سورة يونس: الآية 101. 4. سورة البقرة: الآية 145.
________________________________________
(377)
أوضح من القول به في المقرِّب.
ولكن يظهر من الشّيخ المفيد أنّ وجوب اللّطف من باب الجود والكرم، قال: «إنّ ماأوجبه أصحاب اللّطف من اللّطف، إنّما وجب من جهة الجود والكرم، لا من حيث ظنّوا أنّ العدل أوجبه، وأنّه لو لم يفعل لكان ظالماً»(1).
يلاحظ عليه: أنّ إيجابه من باب الجود والكرم يختّص باللّطف الراجع إلى آحاد المكلّفين، لا ما يرجع إلى تجسيد غرض الخلقة، أو غرض التّكليف، عند الأكثريّة الساحقة من المكلّفين، كما عرفت.
ثمّ إنّ المراد من وجوب اللّطف على الله سبحانه ليس ما يتبادر إلى أذهان السطحيّين من الناس، من حاكميّة العباد على الله، مع أنّ له الحكم والفصل، بل المراد استكشاف الوجوب من أوصافه تعالى، فإنّ أفعاله مظاهر لأوصافه تعالى، كما أنّ أوصافه مظاهر لذاته تبارك وتعالى. فإذا علمنا-بدليل عقليّ قاطع-أنّه تعالى حكيم، استتبع ذلك واستلزم العلم بأنّه لطيف بعباده، حيثما يَبطل غرض الخلقة أو غرض التّكليف لولا اللّطف.
________________________________________
1. أوائل المقالات: ص 25 ـ 26.
 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية